معركة طرابلس

كل ما يجب أن نعرفه عن "الحرب العالمية المصغّرة" فوق التراب الليبي والأطراف المحلية والدولية المشاركة وسيناريوهات المستقبل

الجميع يطلق النفير هنا، على أرض ليبيا.

منذ أبريل/نيسان 2019 تشن ميليشيات الجنرال خليفة حفتر هجوماً متعثراً للسيطرة على طرابلس، مقر حكومة الوفاق الوطني الليبية، المعترف بها دولياً.

لكنه عجز عن حسم المعركة.

كما أن قوات حكومة الوفاق لم تنجح في حسم المعركة قبل أن تطول، لأن الكثير من المعطيات على الأرض تغيرت.

استعان حفتر بمرتزقة من إفريقيا.

وتدخل الطيران الأجنبي لمساعدته.

ثم وصلت كتيبة المرتزقة الروس.

هي الحرب إذن.

الحرب بما تعنيه من معاناة المدنيين، والأضرار الفظيعة بحق البنية التحتية لمدينة طرابلس وما حولها.

وهو الصراع على ثروات ليبيا، وساحلها الغني على المتوسط.

ظل الصراع بين دول شرق المتوسط محتدما، بين مصر واليونان من جانب، وتركيا من جانب آخر، إلا أن دخول ليبيا مؤخرا على الخط، ممثلة في حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، نقل الصراع إلى مستوى جديد كليا.

حتى إسرائيل لديها خشية غير معلنة من تأثير الاتفاق الليبي التركي على خططها في البحر الأبيض المتوسط، خاصة بعد تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن "إسرائيل لن تتمكن من نقل الغاز عبر البحر المتوسط دون موافقة أنقرة".

وكان إعلان حفتر عن "تحرير العاصمة طرابلس" من حكومة الوفاق، بمثابة إطلاق حرب عالمية مصغرة على أرض ليبيا، تنخرط فيها أطراف إقليمية ودولية بشكل مباشر أو غير مباشر.

فيديو حفتر دقيقة ونصف: دقت ساعة الصفر

الساحة الليبية تعد مثالا مهما للحروب بالوكالة.

وفي الأسابيع الأخيرة من العام، شهدت تطورات ملحوظة، خاصة بعد الاتفاقية التي تم توقيعها بين تركيا وطرابلس بشأن ترسيم الحدود البحرية، واتفاقية التعاون العسكري؛ مما يتيح الفرصة للتكهن بتغيرات جديدة محتملة في اللعبة، وذلك في ما يتعلق بمنطقة شرق البحر المتوسط.

وربما الشرق الأوسط برمته.

ليبيا أصبحت ساحة عسكرية دولية لقواتٍ خاصة فرنسية.

وإماراتية.

ومصرية.

مقاتلات تدعم حفتر من جهة.

وطائرات بدون طيار وعربات مدرعة تركية تدعم حكومة الوفاق وقوات مصراتة في الجهة الأخرى.

الروس هناك أيضا.

وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، الجميع يعمل من أجل مصالحه هناك.

الشرارة الأخيرة التي أشعلت الصراع

بعد 8 أشهر من فشل قواته في اقتحام طرابلس، عاد حفتر ليعلن عن بدء «المعركة الحاسمة» للتقدم نحو قلب العاصمة.

لكن هذا الإعلان كان تتويجا لأسابيع من التطورات والتصعيد وردود الأفعال، كان أحدثها توقيع تركيا وحكومة الوفاق مذكرتي تفاهم في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019, يرى البعض أنهما تدخلان بالأزمة الليبية فصلاً جديدا من التأزم، بينما يرى آخرون أن الأزمة الليبية تتشابه مع الأزمة في سوريا.

تتعلق المذكرة الأولى بين أردوغان والسراج بترسيم الحدود الملاحية في البحر المتوسط.

وتتعلق الثانية بإرسال قوات تركية إلى ليبيا إذا طلبت حكومة الوفاق الوطني دعما عسكريا.

تُخاطر أنقرة من خلال تحركاتها، بإمكانية تشكّل تحالفٍ مناهض لتركيا يضم اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والأردن وإيطاليا. 

لكن إيطاليا تجدد على لسان وزير خارجيتها “دعم حكومة الوفاق الوطني والعملية السياسية بقيادة الأمم المتحدة”، وتنظر بحذر إلى التكتل المصري الإماراتي الفرنسي الداعم للواء حفتر.

اليونان وقبرص ومصر اجتمعت تحت مظلة «منتدى شرق البحر المتوسط للغاز»، وهي شراكة مرتبطة بالطاقة تستبعد تركيا، وتسعى للسيطرة على احتياطيات الغاز الطبيعي في المنطقة، وتقدر إجمالياً بنحو 22 تريليون متر مكعب.

الاتفاق التركي الليبي يمدد الجرف القاري لتركيا بنحو الثلث، ما يسمح لها بالمطالبة في احتياطيات النفط والغاز المكتشفة حديثا في شرق البحر المتوسط، وهو ما يتداخل مع مطالبات اليونان ومصر وقبرص، الأمر الذي من شأنه تأجيج التوتر في منطقة تشهد بالفعل نزاعات على حقوق التنقيب عن الغاز.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن مذكرة التفاهم التي أبرمتها تركيا مع ليبيا حول مناطق الصلاحية البحرية «قلبت وضعاً فرضته معاهدة سيفر (عام 1920)». وهي معاهدة بين الدولة العثمانية والحلفاء في 10 أغسطس/آب 1920 عقب الحرب العالمية الأولى، وتسببت في تفكك الامبراطورية الإسلامية.

«حوض شرق المتوسط يتمتع باحتياطيات كبيرة من الهيدروكربون وعلمنا باكتشافات توصلت إليها بعض الشركات هناك مؤخراً، ومن الوارد أن نتعاون مع بعض الشركات العالمية القوية بهذا الخصوص». الرئيس التركي استدرك قائلاً: «لأن موقع النفط في العالم مختلف للغاية، وهذه الأعمال ستعود بالربح على تركيا وليبيا.. سنتخذ هذه الخطوة بناء على مبدأ الربح المتبادل».

وانتفض أعضاء منتدى شرق المتوسط للغاز. 

خريطة: حقول الغاز في شرق المتوسط

خريطة: حقول الغاز في شرق المتوسط

مصر وصفت المذكرة التركية الليبية بأنها معدومة الأثر القانوني، ولا تلزم أي طرف ولا تؤثر على منظومة تعيين الحدود البحرية في المتوسط لأنها غير شرعية. وقالت على لسان خارجيتها إن مجلس النواب الليبي هو المسؤول عن إبرام مثل هذه الصفقات، وليس رئيس الوزراء.

اليونان استدعت سفير حكومة الوفاق لديها، وطلبت إبلاغها بتفاصيل الاتفاق، وهددت بطرده.

وأغلقت مصر سفارة ليبيا "لدواع أمنية"، وهي سفارة تابعة لحكومة الوفاق.

بداية هذا الصراع: إبحث عن أموال النفط واحتمالات الغاز

تمثل ثروات ليبيا النفطية عنصر جذب للقوى الإقليمية والعالمية بل والمحلية كذلك، إذ تقدر احتياطيات النفط الليبية بحوالي 48 مليار برميل.

تمتلك أيضا احتياطيات نفط صخري تقدر بحوالي 26 مليار برميل. 

ورغم وقوع أغلب الحقول النفطية في شرق ليبيا، فإن عائدات النفط تصب في خزينة حكومة طرابلس. وقد شكا رئيس الحكومة الموازية عبدالله الثني، في أكتوبر، من أن حكومة الوفاق تقصر إنفاق عائدات نفط البلاد على المناطق التي تسيطر عليها.

وكان المشير خليفة حفتر قد طالب في يونيو الماضي، بالوصول إلى أموال النفط والعدالة في توزيعه، وكان هذا في الغالب هو السبب الرئيسي لشنه حربا على حكومة الوفاق في طرابلس.

حفتر يحاول فرض الأمر الواقع عبر اقتسام أموال النفط مع حكومة الوفاق، خصوصا وأن حكومته في الشرق تعاني الآن من جفاف منابع التمويل، بعدما استطاعت خلال الفترة الماضية أن تستدين من البنوك عشرات المليارات تذهب مباشرة لتمويل قواته.

النفط والغاز في ليبيا/ المصدر AFP

النفط والغاز في ليبيا/ المصدر AFP

جاء الاتفاق التركي مع طرابلس ليزيد من غضب "الجنرال" وحلفائه في القاهرة وأبو ظبي. 

هو يريد حصة أكبر من عوائد النفط.

ومصر تريد التأكيد على ما تراه حقوقها في غاز المتوسط.

وأبو ظبي تبحث عمن يحكم ليبيا بالوكالة عنها، ويمنع الآخرين من التعاون مع هذا البلد الغني، وخاصة تركيا.

لذا لم يتردد حفتر في إعلانه عن "المعركة الحاسمة".

من بنغازي في أقصى الشرق إلى طرابلس في الغرب يجب أن تزحف قواته، ومدرعاته، وجنوده الليبيين والمرتزقة الأجانب.

وإلى محاور سبق له الانسحاب منها، يجب أن يكرر المحاولة، فمعركة اليوم مصيرية: يكون أو لا يكون.

لكنه ليس وحده.

ولا حكومة الوفاق على الجبهة الغربية وحدها.

وها هي شبكة التحالفات والمصالح والصداقات ترسم ملامح الجبهتين.

تحالف الجبهة الشرقية

الجنرال في المعركة النهائية 

يدعم حفتر، كل من مصر، والإمارات، والأردن، وليبيا، وروسيا، وفرنسا، بجانب مرتزقة من السودان وتشاد.

حفتر، كان يجهز لحرب طرابلس منذ سنوات، تمكن خلالها من تخريج دفعات كثيرة من الجنود كان يعدهم للمعركة.

تخرّجت في شرق ليبيا أكثر من 9 دفعات عسكرية، أقلها عددا تضم 800 جندي، أي أن لديه عسكريون جدد يبلغ عددهم أكثر من 7 آلاف و200 عنصر، بشكل تقديري.

حفتر لديه المتطوعون براتب شهري، وهم كثر من كافة مناطق شرقي البلاد، فضلا عن كتائبه الكبيرة في الشرق، وأهمها الصاعقة، التي التحقت قبل يومين بالمعارك في الغرب، والكتيبة 106، الأقوى والأشد، والتي يقودها نجله خالد، المتواجد في الغرب لقيادة كتيبته.

وبحسب تقديرات مراقبين وتقارير غربية، يقدر إجمالي عدد جيش حفتر ما يفوق الـ 30 ألف عسكري، بالإضافة إلى أعداد غير محددة من المرتزقة الذين جاءوا من روسيا والسودان وتشاد، وربما غيرها.

واستغل حفتر سيطرته على جنوب البلاد، في مارس/ آذار الماضي، وأعاد معظم جنود الجيش في المنطقة للخدمة.

وتقول مصادر عسكرية ليبية إن تسليح حفتر جيد، خاصة بعد وصول الدعم الروسي له، حتى أن معظم الطائرات العسكرية غير الحربية التي أقلّت الجنود إلى جنوبي البلاد، خلال حملة حفتر العسكرية، يقودها طيارون روس.

نقطة الضعف لدى حفتر، تهالك سلاحه الجوي، فهو يعمل بطائرات قديمة متهالكة ليس لها قدرة حتى على شن غارات جوية في الليل.

قبل أيام من نهاية 2019، وضمن أعمال منتدى شباب العالم في شرم الشيخ، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن مصر لم تتدخل بشكل مباشر في ليبيا، رغم قدرتها على القيام بذلك.

فيديو الرئيس السيسي: حكومة الوفاق الليبية بأنها أسيرة للمليشيات الإرهابية

ولا يقتصر الدعم المصري على تقديم الأسلحة والمدرعات، وإنما يشمل تنفيذ غارات جوية، إذ إن مقاتلات المشير خليفة حفتر الروسية القديمة لا تستطيع تنفيذ غارات جوية بمدن بعيدة.

وفي بداية 2018، قال التقرير المؤقت لفريق خبراء الأمم المتحدة بشأن الملف الليبي، إن الجيش المصري قصف أهدافا في الهلال النفطي بليبيا، من بينها درنة، مضيفا أن جماعات مسلحة في ليبيا استفادت من الدعم الخارجي -ومنه الإماراتي والمصري- سواء أكان بالتدخل المباشر أم بتزويدها بالسلاح والعتاد.

توفر مصر أيضا الدعم السياسي والإعلامي لمعسكر حفتر، حتى أن رئيس مجلس النواب المصري أعلن الاعتراف بمجلس النواب الليبي برئاسة عقيلة صالح، والمتمركز في مدينة طبرق، "جسما شرعيا وحيدا" يمثل دولة ليبيا.

واتهم تقرير للأمم المتحدة في 9 ديسمبر/ كانون أول 2019، عدة شركات ودول بخرق حظر التسليح في ليبيا منذ عام 2011، وكان في مقدمة هذه الدول مصر، وتركيا، والأردن، والإمارات.

تشكل الجارة الليبية عمقًا للأمن القومي المصري بأكثر من ألف كيلومتر من الحدود المشتركة، ما جعل السيسي متخوفًا من انعكاس أي اضطرابات في ليبيا بشكل مباشر على الأمن المصري. ويكرر المسؤولون المصريون أن شرق ليبيا أصبح بعد 2011 ملاذًا للعديد من الجماعات الإسلامية والجهادية التي قد تستهدف القاهرة.

وهناك عدو مشترك للاثنين: الإخوان المسلمون.

مصر بحكم الحرب مع الجماعة منذ الإطاحة بالرئيس الرحل محمد مرسي،  وحفتر بحكم تمثيله لمصالح الإمارات والسعودية، اللتين تشنان حربا مفتوحة مع الإخوان، ومع الإسلام السياسي بشكل عام.

كما أن الحدود بين البلدين أصبحت مرتعا للتجارة غير المشروعة، التي تطورت بين سنتي 2011 و2013، وعبرها انتقلت الأسلحة المتطورة المستوردة من روسيا والتي كانت مخزنة لدى جيش القذافي.

هناك أيضا تطوير العلاقات الاقتصادية، خاصة بعد أن أصبحت مصر مستوردة للنفط، وبالتالي يمكن لليبيا أن تمثل حلًا مناسبا، وقريبا.

كما تطمح مصر في المشاركة في إعادة إعمار البلاد وإقامة تعاون استثماري مع رجال الأعمال الليبيين.

تنفي فرنسا، التي تبنت مهمة وساطة بين أطراف الصراع في ليبيا، انحيازها إلى جانب أي من الأطراف، على الرغم من الشكوك المثارة بشأن علاقتها بحفتر. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم غربي يدعوه إلى أوروبا في سياق محادثات سلام.

بيد أن اتهام فرنسا بتقديم دعم ضمني لرجل ليبيا القوي قاد إلى انفجار خلاف علني مع إيطاليا التي تدعم الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة.

وينظر البلدان إلى ليبيا بوصفها شريكا أساسيا في وقف موجات المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء الأفريقية.

وشنت فرنسا ضربات جوية لدعم قوات شرق ليبيا التي يقودها حفتر في فبراير/ شباط 2019، واستهدفت قوات المعارضة التشادية التي تقاتل ضد هذه القوات في جنوب البلاد.

منذ 2016، تستقبل موسكو بانتظام زيارات لكل من حفتر والسراج.

تتعامل موسكو إذن مع كل الأطراف، ما يضفي غموضا على موقفها الحقيقي. 

سنقرأ مثلا إعلان الكرملين عن لقاء بين بوتين وإردوغان بداية العام الجديد، لبحث "خطة تركية لتقديم الدعم العسكري للحكومة الليبية المعترف بها دولياً".

لكن الحقيقة بعيدة عن تعبير "الدعم العسكري"، فالعلاقات بين موسكو وطرابلس ليست بذلك الصفاء.

سبق أن وجهت حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، اتهامات لروسيا بتأجيج الصراع الدائر في البلاد، والسعي لتوسيع نفوذها الأفريقي وإعادة السلطة إلى فلول نظام معمر القذافي، «لقد تدخّل الروس لصبّ الوقود على النار، وتعزيز الأزمة بدلاً من إيجاد حل».

كما إن وزارة الخارجية الروسية ترى أن المذكرات التي وقعتها تركيا مع حكومة الوفاق «قد تعطل الاستعدادات لعقد اجتماع دولي حول تسوية ليبية من المقرر عقده في برلين في وقت لاحق من هذا العام».

والحقيقة؟

في واقع الأمر، تلقي موسكو بثقلها وراء المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، والذي يسيطر على أغلب مناطق إنتاج النفط في شرق البلاد. 

ولا يقتصر النفوذ الروسي على دعم حفتر عسكريا، بل إعلاميا أيضا، حال سيطرته على طرابلس في المستقبل. وتشمل الحملة الإعلامية دعاية مدفوعة الأجر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والترويج لمواد إعلامية تزيد من شعبية قوات شرق ليبيا، وكذلك تقديم خدمات الاستشارات السياسية لحفتر.

ولا تخفي روسيا كذلك دعمها الرسمي لحفتر، إذ تمده بالأسلحة والتدريب العسكري. وتوجد بالفعل نقاط تمركز للقوات الروسية في طبرق وبنغازي.

ورغم ذلك، تتحرك روسيا في هدوء لإقامة علاقات مع جميع الفصائل المتصارعة في البلاد.

روسيا في ظل غياب واشنطن أخذت توطد علاقاتها مع مختلف الأطراف في ليبيا مستغلة احتياج هذه الأطراف لها من جهة وحاجتها لتعزيز مصالحها في هذه الدولة النفطية، ترى موسكو أن أمامها فرصة لكي تصبح الوسيط المحوري بشأن السلطة في ليبيا.

لكن روسيا "غير الرسمية" تحمل السلاح مع حفتر.

إنهم مجموعة من المرتزقة الروس، من شركة تُعرف باسم فاغنر Wagner Group، تمارس أنشطتها بتنسيق تام مع الحكومة الروسية، وتنوب عنها في عمليات تنفذها في الخارج، للتهرب من المسؤولية القانونية.

وقد اتسع نشاط هذه المجموعة التي تستخدم على نطاق واسع الجنود الروس السابقين ليشمل الكثير من بقاع العالم. تمتد عملياتها من أوكرانيا إلى سوريا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى مما حدا بالولايات المتحدة إلى إدراجها في قائمة العقوبات على المؤسسات الروسية في 2017 بسبب عملياتها في أوكرانيا.

لكن مثل هذه العقوبات لم تردع المجموعة عن التوسع في نطاق عملياتها، الذي امتد مؤخراً لدعم قوات شرق ليبيا بقيادة الجنرال خليفة حفتر.

فيديو 4 دقائق من CNN: مرتزق يكشف أسرار "مجموعة فاغنر"

هل غير المرتزقة الروس شكل المعركة؟

«لقد غيروا المعادلة، المرتزقة الروس سيقتحمون طرابلس»، تلك هي العبارات التي تتكرر في الفترة الماضية.

حتى المتحدث باسم الجيش الليبي عقيد طيار محمد قنونو يقرّ بأنهم غيروا شكل المواجهات في معارك جنوبي طرابلس. «حاربناهم من قبل في 2011 عندما استعان بهم القذافي، وقد تغيرت الجبهة بعد حضورهم لدعم حفتر، وصارت أكثر انضباطاً، فهم لا شك محترفون».

ولكنه يستدرك: لكنهم لا يندفعون إلى الخطوط الأمامية عند الاشتباك، ويكونون أول المنسحبين بعد الاستيلاء على مواقعهم، وأهم نقاطهم الآن في منطقة قصر بن غشير جنوب طرابلس.

قبل أيام من إعلان حفتر هجومه "الحاسم"، قدمت حكومة الوفاق رسالة إلى مجلس الأمن، تستنكر فيها موقف الإمارات "العدائي" بجعل عاصمتها منصة إعلامية لمليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر للتحريض على طرابلس.

كات الرسالة احتجاجا على تنظيم المتحدث باسم قوات حفتر مؤتمرا صحفيا في أبو ظبي.

والإمارات هي من دفعت مبكرًا نحو أن يكون حفتر صاحب اليد العليا على السلطة بليبيا، وقدمت في مايو 2014 الأسلحة والمال لما عرف بـ«عملية الكرامة» في بنغازي، التي أطلقها حفتر بحجة مكافحة الإرهاب.

انتهكت أبو ظبي القرار الأممي بتجميد الأموال الليبية في العالم بعد ثورة 2011، وصرفت مبالغ من بنوكها لصالح العمليات العسكرية لقوات حفتر.

واخترقت أبوظبي قرار حظر إرسال الأسلحة إلى ليبيا، وزودت قوات حفتر بالسلاح، وعززت قوته الجوية.

تلقت حفتر طائرات ومركبات عسكرية من الإمارات، ونحو 93 حاملة جند مدرعة، و549 عربة مدرعة وغير مدرعة في أبريل 2016، وكذلك حاملات جنود من الطراز «بانثر تي6» و«تيجرا».

وتمتلك الإمارات قاعدتين عسكريتين في ليبيا، إحداهما في منطقة «الخروبة»، والأخرى في منطقة «الخادم»، تضم هاتان القاعدتان طائرات دون طيار، ومروحيات وطائرات مقاتلة، ومقر عمليات.

وأشار تقرير للأمم المتحدة إلى وجود طائرات مسيرة إماراتية الصنع في قاعدة الخادم الجوية. ووفقا للتقرير، أرسلت الإمارات ناقلات جنود إلى ميليشيات حفتر، واشترت سفينة حربية إيرلندية، وأرسلتها إلى بنغازي، حيث أعيد تجهيزها بالأسلحة التي كانت تحملها عندما كانت لدى البحرية الإيرلندية.

في مارس/ آذار 2019، زار حفتر الرياض، وبعد أسبوع أطلق ما أسماه عملية «تحرير العاصمة» للسيطرة على العاصمة طرابلس.

ما العلاقة؟

خلال تلك الزيارة تعهدت الرياض بدفع عشرات الملايين من الدولارات لحفتر من أجل تمويل عمليته ضد طرابلس، على أن تُستخدم تلك الأموال، "في شراء ولاء بعض زعماء القبائل في ليبيا، وتجنيد المقاتلين، ودفع أجورهم، وغيرها من النفقات العسكرية"، وفقا لتقارير صحفية أمريكية.

حفتر حصل أيضا على موافقة ضمنية بأن تستخدم الرياض نفوذها على بعض الدول العربية لإلزامها بالصمت، وتهدئة مخاوفها بشأن توابع التحرك العسكري في ليبيا.

ماذا تريد السعودية مقابل ذلك؟ 

وجدت الرياض في المشير خليفة حفتر ضالتها، فهو رجل شرق ليبيا القوي الذي يقدم نفسه على أنه سد في وجه الإسلاميين الذين تتهمهم دول الخليج ببث الفوضى في العالم العربي خلال ثورات عام 2011.

أيضا تحرص السعودية على استعادة قيادة العالم العربي عبر بسط النفوذ في ليبيا أسوة بما فعلته في مصر. 

لكن أصواتا أخرى ترى أن «التصعيد العسكري بليبيا يهدف لعرقلة التوصل لتوافق محتمل، ويسلط الضوء على الدور التخريبي للثنائي المتمثل في السعودية والإمارات الذي يمهد الطريق لتعزيز السلطوية وزعزعة استقرار العالم العربي»، بحسب علي بن سعد، الأستاذ بمعهد الدراسات الجيوسياسية في باريس.

كما أن السعودية توجه تركيزها بصورة أكبر نحو الحرب في اليمن، وتترك حليفها الإماراتي في الصف الأمامي في ما يتعلق بالملف الليبي.

المصدر: دويتشه فيله

المصدر: دويتشه فيله

المصدر: دويتشه فيله

وعلى الجبهة الغربية

إلا سقوط العاصمة الشرعية

تعتمد حكومة الوفاق الوطني، التي أُعلنت في مارس/آذار 2016 بزعامة فايز السراج، على مجموعة ميليشيات من أجل الحماية وضبط الأمن.

وتُعرف الكثير من هذه الميليشيات بسبب شهرة قادتها، حتى أن بعضها يحمل اسم القائد.

"قوات حماية ليبيا" هو التحالف الذي  يضم أهم الميليشيات في المتمركزة في العاصمة. وأُعلن عنه في ديسمبر/كانون الأول 2018.

ويشمل التحالف أبرز الميليشيات الموالية لحكومة الوفاق الوطني، وهي ثوار ليبيا، ولواء النواصي، وقوة الردع والتدخل المشتركة محور أبو سليم، وميليشيا باب تاجوراء.

هناك أيضا ثوار ليبيا بقيادة هيثم التاجوري.

وهناك الكثير من الميليشيات المتحالفة مع الوفاق، مثل قوة الردع والتدخل المشتركة، ولواء النواصي، وقوات الردع الخاصة، وهي قوات تابعة لوزارة داخلية حكومة الوفاق الوطني.

دخلت تركيا إلى الساحة  الليبية من باب الاقتصاد، وهو ما  تتوجه الاتفاقية الأخيرة لترسيم الحدود. تبحث أنقرة عن "الأعمال التي ستعود بالربح على تركيا وليبيا، بناء على مبدأ الربح المتبادل» كما قال إردوغان.

تقترب تركيا الآن من تقديم دعم عسكري رسمي لحكومة فايز السراج، بعد أحالت الحكومة للبرلمان اتفاقا ثنائيا يشمل تزويدها بقوة للرد السريع إذا طلبت طرابلس ذلك.

وتنص الاتفاقية على أن طرابلس قد تطلب مركبات وعتاد وأسلحة لاستخدامها في العمليات البرية والبحرية والجوية. وتنص أيضا على تبادل جديد للمعلومات الاستخبارية.

وكانت أنقرة وطرابلس وقعتا اتفاقا أمنيا وعسكريا موسعا، وعلى مذكرة تفاهم حول الحدود البحرية تعتبرها اليونان ومصر انتهاكا للقانون الدولي.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده سيكون لها الحق في إرسال جنود إلى ليبيا بدعوة من حكومة فايز السراج. "اللحظة التي سيوجد فيها مثل هذه الدعوة من جانب الشعب الليبي.. فحينها سيعطينا هذا الحق".

كان الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السرّاج مقتصراً حتى الآن على طائرات مسيّرة ومعدات عسكرية، ومن ثمَّ سينطوي الأمر على تصعيدٍ كبير في حال إرسال قوات برية للدفاع عن طرابلس.

ويبدو أن الحكومة التركية عازمة على عدم السماح بأن تسقط طرابلس في أيدي حفتر المدعوم من الإمارات.

كما كشفت صحيفة تركية عن عزم أنقرة إنشاء قاعدة عسكرية في العاصمة الليبية طرابلس، وتوقعت أن يقدم رئيس حكومة الوفاق فائز السراج طلباً لإرسال قوات تركية إلى بلاده بحلول العشرين من فبراير المقبل، أو حسب تواتر التطورات في ليبيا.

قطر، التي شاركت عسكريا مع حلف الناتو في الإطاحة بنظام القذافي عام 2011، تسعى للحفاظ على دور فعال على الساحة الليبية. 

تكرر قطر بانتظام اتهامها لحفتر "بعرقلة الجهود الدولية الرامية إلى إقامة حوار وطني ليبي"، وذلك عبر "تحركات الميليشيات المسلحة" المنضوية تحت قيادته. وتكرر قوات حفتر الاتهامات إلى تركيا وقطر بالتدخل في ليبيا.

وبدعمها لحكومة الوفاق الوطني، دخلت الدوحة في حرب نفوذ مع السعودية وحلفائها الخليجيين الذين يدعمون المشير حفتر، وقاطعوها في 2017.

وفي اجتماع كامب ديفيد في عام 2015 برعاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، لإنهاء الأزمة الخليجية الأولى، تعهدت قطر في ذلك الاجتماع بعدم التدخل بشكل مباشر في الأزمة الليبية. ويرى باحثون أن دعم قطر للسراج يقتصر حاليا على الجانبين السياسي والإعلامي.

ويرى د. علي الهيل، الأكاديمي والمحلل السياسي القطري، أن الدوحة تعتبر ما يجري في ليبيا حربا بالوكالة، وأنها لا تخفي دعمها لقوات فجر ليبيا كونها داعمة للحكومة الشرعية المدعومة من المجتمع الدولي، وأن الدوحة ترى أن "دول الحصار تدعم حفتر"، وبالتالي لا ترى غضاضة في دعم قوات فجر ليبيا.

مصراتة قبل طرابلس.. والسيناريو السوري هو الأقرب

لمن تقرع طبول الحرب في ليبيا؟

استيقظت العاصمة الليبية طرابلس، صباح الثلاثاء 17 ديسمبر/كانون الأول، على أصوات إطلاق قذائف مدفعية ثقيلة.

لم يبدأ هجوم حفتر بعد.

لكنها كانت أصوات الهجوم على تمركزات لقوات حفتر.

ليست طرابلس وحدها في انتظار ميليشيات الجنرال المغامر، بل الغرب الليبي كله.

مدينة الزنتان حالة النفير العام دفاعاً عن طرابلس، لتصبح المدينة السابعة في الغرب الليبي تتخذ الخطوة ذاتها بعد كل من مصراتة وكاباو وزليتن والخمس ومسلاتة والزاوية.

مصراتة بدأت النفير.

بعد أيام من إطلاق المشير خليفة حفتر، عمليته العسكرية للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، أعلن مجلس بلدية مدينة مصراتة حالة النفير أيضا.

لماذا مصراتة؟

هي إحدى المدن القليلة المتبقية تحت سيطرة حكومة فايز السراج.

وهي أهم قوة عسكرية في الغرب.

وهي العقبة الوحيدة في مواجهة حفتر منذ 2014، فالمدينة محمية من قبل الميليشيات المحلية وميليشيات طرابلس.

وهي بوابة الدعم التركي لحكومة الوفاق. وتتحدث تقارير صحفية عن طائرات أوكرانية تنقلل أسلحة ومدرعات تركية.

يتراوح عدد عناصر الميليشيات داخل مصراتة بين 20 ألف عنصر و30 ألف، إذ قل العدد كثيرا بعد المواجهات مع تنظيم داعش. بعض هؤلاء المقاتلين تلقوا تدريبات على يد القوات الأميركية، ويديرهم منذ انطلاق الثورة الليبية مجلس مصراتة العسكري.

"لو سقطت ستقع طرابلس".

مشكلة مصراتة تكمن في "محدودية مواردها بالمقارنة مع موارد حفتر، الذي يتلقى دعما عسكريا من مصر ويستطيع تعويض الخسائر، إلى جانب أنه مدعوم من قوات خاصة روسية، وتدربه قوات أردنية.

في حال سقوط مصراتة بيد حفتر، فإن طرابلس ستقع بسهولة.

ومصراتة مدينة ساحلية تتيح استقبال الدعم العسكري من الخارج، ولديها مطار يعمل بكفاءة لأغراض مدنية وعسكرية إن تطلب الأمر.

وتضم قواتها عسكريين كانوا ضمن الجيش الليبي إبان عهد القذافي، بالإضافة إلى مخزون كبير جدا من الأسلحة، تم الاستيلاء عليها من مخازن الجيش الليبي، أو استقبلها ميناء مصراته بعد الثورة.

إضافة لكل ذلك توفر مصراته دعما مالية لحكومة الوفاق مصدره طبقة رجال الأعمال، الذين يسيطرون على مجلسها البلدي المتحالف بدوره مع مجلس مصراتة العسكري.

ولو سقطت العاصمة؟

إذا كان مرتزقة مجموعة فاغنر مجرد قوات الطليعة في التزام عسكري روسي بدعم حفتر، فإن الذي حدث في سوريا يمكن أن يتكرر بذاته في ليبيا. يتكرر لمصلحة قائد عسكري منح نفسه رتبة مشير، ولديه قائمة طويلة من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب في حاجة للرد عليها. علاوةً على أنه من الواضح أنه غير مدعومٍ على الأقل من نصف الشعب الليبي، كما كتب الصحفي  البريطاني ديفيد هيرست.

ليبيا قد تضع القوات الروسية والتركية في مواجهة مباشرة، وهو ما يمكن أن يهدد علاقة موسكو الاستراتيجية بأنقرة، والتي يجد الروس أنها مفيدة في كبح نفوذ أمريكا في المنطقة.

وفي الختام، يجب أن نستحضر قبل أي شيء، أن الوجود العسكري في ليبيا ليس استثماراً للوصول إلى سلام أو تسوية. إنه استثمار في الحرب والدمار.

يضيف  الصحفي الشهير: إن السعي لمواجهة مساعي الهيمنة المدعومة غربياً وتدخلاتها في الشرق الأوسط شيء يختلف تماماً عن أن تعوّد أنت نفسك لارتكاب أخطاء الاستعمار ذاتها التي كنت تنكرها.