في العاشرة صباحاً بتوقيت شرق الولايات المتحدة، يوم 24 أيلول/سبتمبر 2019، وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام قادة وزعماء العالم في قاعة الجمعية العام للأمم المتحدة، ليذكّرهم بأن بلاده هي الأعظم.

هي أقوى دولة في العالم بفارق كبير.

وهي المنتج الأول للنفط والغاز الطبيعي في العالم.

ثم التفت بعد ذلك إلى "هذا الكوكب الكبير والرائع"، وبدأ يهاجم خصومه من الصين إلى إيران، ويوبّخ جيرانه من المكسيك إلى كندا، قبل أن يصف الهجرة غير الشرعية بأنها "تقوّض الرخاء وتمزق المجتمعات وتمكّن العصابات الإجرامية القاسية".

يتحدث كأنه "رئيس العالم"، فهل هو بالفعل كذلك؟

تأسست القيادة الأمريكية للعالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، على عدة محاور أدت إلى تكريس الزعامة باعتراف غالبية دول العالم، بدلاً من فرضها بالقوة العسكرية فقط.

ساهمت واشنطن في تأسيس الأمم المتحدة بهيئاتها المختلفة إلى إنشاء البنك الدولي للمساهمة في تقديم مساعدات مالية للدول التي تحتاجها، وقبل ذلك مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا المدمرة كلياً بفعل الحرب، وإنشاء الهيئة الأمريكية للمساعدات الدولية، كما أسست حلف الناتو ليمثل ذراعاً عسكرية، ضم الحلفاء في أوروبا والكتلة الغربية.

لكنّ "رياحاً" غير مواتية تسحب السفينة الأمريكية الآن إلى مياه مختلفة، غامضة، ومخيفة.

مياه تهدد واشنطن بفقدان نفوذها حول الكوكب، ويربط الجميع بين هذا التراجع الأمريكي، وبين وجود دونالد ترامب في المكتب البيضاوي، لا سيما بعد أسلوبه في إدارة أزمة وباء كورونا المستجد، والذي جلب له انتقادات الداخل والخارج.

ما جعل الولايات المتحدة قطباً عالمياً ليس السلاح ولا وول ستريت فحسب، بل منتجات أخرى تعولمت مثل هوليوود، ومنابر الإعلام والفن، واللغة الإنجليزية، والانفتاح الأمريكي على المهاجرين من أصحاب الكفاءات العلمية، ومنحهم الجنسية الأمريكية، والجامعات العريقة ذات الإمكانات الهائلة، بالإضافة إلى الديمقراطية والحرية الإعلامية.

فما الذي فقدته واشنطن في السنوات الأخيرة، وجعل التحليلات تبدأ العد التنازلي لنهاية عصر الهيمنة الأمريكية.

في هذا التقرير نستعرض أسباب الصعود الأمريكي، والأداء السياسي والاقتصادي والعسكري لواشنطن حينما كانت تأمر فتُطاع، ثم مؤشرات التراجع وأسبابه.

كان الصعود الأمريكي نتيجة مباشرة لإزاحة بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى كصاحبة أكبر ناتج قومي إجمالي في العالم. 

وتفوقت أمريكا بسبب وفرة الموارد الطبيعية والنفطية، والتركيبة السكانية المتعلمة المنضبطة.

ثم إن أمريكا خرجت منتصرةً بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تجرب الدمار الذي ألحقتهُ ألمانيا وروسيا وبريطانيا ببعضهم بعضاً. 

وهكذا بدأت أمريكا السباحة فوق الماء من حيث كان منافسوها يجاهدون من أعماق الغرق للوصول لسطح الماء، وكانت العناصر التالية في خدمة الإمبراطورية الجديدة من اليوم الأول. 

هي وريثة أكبر إمبراطوريات استعمارية في التاريخ

وجدت الولايات المتحدة نفسها تتحكم في بقايا 4 إمبراطوريات استعمارية غربت عنها الشمس، البريطانية والفرنسية والإسبانية واليابانية، بالإضافة إلى تبعية دول أخرى كبيرة مثل ألمانيا وإيطاليا وباكستان والمكسيك وسواها.

التحدي الأكبر لأمريكا في عنفوانها كان الاتحاد السوفييتي. وقد تفككت هذه القوة وسلَّمت طائعة دُرَّةَ تاجها، أي أوروبا الشرقية بل وأكرانيا ودول البلطيق معها، للنفوذ الغربي والأمريكي. 

هي دولة كبرى بكل المعاني

مصدر الكثير من القوة الأمريكية هو حجم الدولة؛ إذ إنها واحدة من أكبر الدول على وجه الأرض من حيث عدد السكان، والمساحة، والموارد الطبيعية، ورأس المال البشري. بل وتعد هذه الدولة في نواحٍ كثيرة أيضاً دولة على شكل جزيرة؛ ولأنها لا تواجه تهديدات كبيرة على حدودها، فقد كانت أكثر حرية في إظهار القوة على الصعيد العالمي.

هي الناجية من دمار الحرب العالمية

الحرب العالمية الأولى دمرت أوروبا، وليس الولايات المتحدة، ثم توحدت أوروبا تحت حلف الناتو الذي تهيمن عليه أمريكا.

هي الأكثر إنفاقاً على الجيوش

الطريقة الأخرى لإظهار أمريكا باعتبارها القوة العظمى العالمية الوحيدة هي النظر إلى ميزانيتها العسكرية، التي تعد أكبر من ميزانيات الدول الـ 12 الأكثر إنفاقاً على الدفاع بعد أمريكا مجتمعة.

ويعد هذا الإنفاق الكبير على الدفاع من مخلفات الحرب الباردة جزئياً، ولكنه أيضاً انعكاس للدور الذي أخذته الولايات المتحدة على عاتقها كضامن للأمن العالمي والنظام الدولي. وعلى سبيل المثال، منذ عام 1979، اعتبرت الولايات المتحدة حماية شحنات النفط في الخليج جزءاً من سياستها العسكرية الرسمية، وهو شيء يستفيد العالم كله منه.

ومهاجروها صنعوا "الحلم الأمريكي"

ما ساعد الولايات المتحدة على تحقيق قفزات استراتيجية سريعة هو الطبيعة الديناميكية المنفتحة للمجتمع الأمريكي، فهو مجتمع مهاجرين، شديد التنوع، يحتفي بالنجاح والابتكار.

وهي الأولى في العلوم والفنون

من خلال تفوق أمريكا علمياً، وديمقراطيتها، وإبداعها، وجذبها للمهاجرين، أصبحت الحلم الإنساني الأول لكل من يفكر في هجر الوطن، أو تحقيق طموحات غير محدودة، أو مجرد الاستمتاع بالحياة في بلد لا يعرف القيود.

في كتابه "الزمن الأمريكي من نيويورك إلى كابول"، يرصد الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل عدة أسباب أتاحت لأمريكا الصعود السريع لقيادة العالم في القرن الماضي، هنا أبرزها:


1

إن الولايات المتحدة بلد محظوظ لديه كثير من الجغرافيا وقليل من التاريخ. ومعنى ذلك أن لديه غنى في الموارد بلا حدود.

وخفة في أثقال التاريخ وحمولاته لم يتمتع بها غيره. 

وذلك منحه اطمئناناً إلى وفرة مادية طائلة ثم إنه أعفاه من وساوس تاريخية تنوء بها كثير من الأوطان والبلدان. 


2

إن الولايات المتحدة لم تنشأ كوطن، وإنما نشأت كموطن، ولم تبدأ كدولة، وإنما بدأت كملجأ. 

"أرض ميعاد" حقيقية تتسع لكل من يشاء، وفيها ما يحتاج إليه وأكثر، ثم إنها أرض بلا ملوك ولا كنيسة ولا إقطاع ولا قانون ولا شرطة.. وإنما هي فضاء مفتوح لأي قادر على عبور المحيط.


3

هذا الفضاء المفتوح لا يقبل بأي عوائق من أي نوع.

وهكذا فإنه بعد النزول الأول على الشواطئ الشرقية للقارة فإن النفاذ إلى الداخل أصبح معلقاً بما يستطيع الجواد أن يمرح فيه ويستحوذ عليه ويضمّه.

ثم إن الأمن في الداخل أصبح مرهوناً بما يستطيع المسدّس أن يسيطر عليه من الفضاء المفتوح، ويخليه ويضمنه.


4

من أجل إخلاء الفضاء المفتوح من أي عوائق فإن السبيل إلى ذلك هو القوة، وقوة السلاح، وقوة السلاح وحدها.


5

كل شيء في أمريكا سهل وميسّر، فقد أخذت أمريكا من العالم القديم كل ما أرادته دون معاناة أو ألم.. دون حقوق أو رسوم. 


6

بعد الاستقلال وجدت أمريكا نفسها في موقع فريد، تلعب فيه المحيطات حواجز الأمن الضامنة له. مساحات شاسعة من الماء، وجبال عالية من الموج، عصيّة على أي غزو.

هكذا ظهر في التاريخ لأول مرة وطن تضمن الطبيعة ذاتها أمنه أمام أي تهديد خارجي، وطن ضخم غني بموارده، فادح في ثرواته.

كذلك أصبح القرن العشرون قرناً أمريكياً، وكذلك القرن الواحد والعشرون على الأرجح. 

الكُتَّاب مغرمون بالقول إنَّ فجر "القرن الأمريكي" بدأ عام 1945، غير أنَّ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية كان مختلفاً تماماً عن عصر ما بعد عام 1989، إذ إنه حتى بعد عام 1945، كانت فرنسا والمملكة المتحدة ما تزالان لديهما إمبراطوريات رسمية قائمة في أصقاع مُمتدة من العالم، وبالتالي كان ما يزال لديهما نفوذٌ عميق. 

وبعد ذلك بفترة وجيزة، قدَّم الاتحاد السوفييتي نفسَه باعتباره قوى كبرى منافسة، وبدأ يُنازع واشنطن نفوذها في كل شبرٍ على سطح الأرض.

أصبح الكوكب يستضيف ثلاثة أنواع من الدول: العالم الأول هو الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والعالم الثاني هو "الدول الشيوعية"، أما العالم الثالث فهو أي مكان آخر في العالم، حيث كان على دُولِه أن تختار بين النفوذ الأمريكي أو النفوذ السوفييتي. 

ثم صعدت الهيمنة الأمريكي أوائل التسعينيات في غفلةٍ من الجميع، بالتزامن مع صعود القوى التي قوَّضت تلك الهيمنة في أواخر التسعينيات أيضاً، والمفارقة هي أن الناس بدأوا يتحدثون في هذا الوقت عن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها "الدولة التي لا غِنَى عنها" و"القوة العظمى الوحيدة في العالم". 

قيادة العالم بالقنابل النووية وحاملات الطائرات 

أصبحت واشنطن عاصمة العالم التي تنفذ ما تريده بالقانون الدولي من خلال سيطرتها على الأمم المتحدة، أو بالسلاح إذا لزم الأمر. ورأت أن كل شيء مباح في حربها الشعواء على الشيوعية والاتحاد السوفييتي.

واستخدمت المنظمات الاقتصادية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، لمساعدة الأصدقاء وخنق الخصوم.

وأصبحت واشنطن متهمة بإفساد الكوكب من خلال تدخلاتها في القارات الخمس، بالضغوط حينا، والتدخل العسكري أحياناً.

هي الدولة الوحيدة، حتى الآن، التي لم تتردد في استخدام السلاح النووي ضد المدنيين في اليابان.

وذهبت أمريكا الستينيات لتغزو فيتنام في عقر دارها، وعاد جنودها مجللين بعار الهزيمة.

وتلاعبت بدول أمريكا اللاتينية، وأغرقتها في سلسلة من الانقلابات والاضطرابات السياسية والاقتصادية.

لم تقتصر سياسة الانقلابات الأمريكية على كل تلك الدول، إذ دبرت واشنطن ودعمت انقلابات وتدخلات عديدة في دول بآسيا والشرق الأوسط. وقال البروفيسور الأمريكي المختص بشؤون أمريكا اللاتينية جون هـ. كوتسوورث، في مقال له، إن الجنود الأمريكيين والجواسيس يلعبون دوراً في التدخلات الأمريكية المباشرة، فضلاً عن تدخلات أخرى غير مباشرة.

سلاح التخويف بدأ في هيروشيما

في سنوات الحرب الخمس قفز تعداد الجيش الأمريكي إلى 11 مليون مقاتل، مجهزين بأضخم آلة عسكرية عرفتها البشرية، وخاضت الحرب بكفاءة، ثم توجت هيمنتها باختراع السلاح النووي، فبادرت إلى استخدامه ضد المدنيين في ناغازاكي وهيروشيما من دون رحمة. 

لم يكن قتل مئات الآلاف من المدنيين ضرورة لا مناص منها لوقف الحرب مع اليابان، فقد كانت اليابان تترنح وترسل مؤشرات استسلام، إلا أن الرئيس ترومان أراد من استخدام السلاح النووي أن يُدَشِّن عصر تفوق أمريكي لا يُضاهى، وعينه في ذلك الوقت على الاتحاد السوفييتي؛ الحليف الحالي والخصم المستقبلي.

إفساد حيادية وعدالة النظام المالي العالمي

أمام تجمُّع لكبار الممولين الدوليين، تحدث جنرال أمريكي سابق في يناير/كانون الثاني الماضي ليحذر من مخاطر تهدد العالم، بسبب إساءة أمريكا استخدام نفوذها باعتبارها القوة المالية المهيمنة من خلال استخدامها العدواني للعقوبات الاقتصادية.

الخطر الأول هو ما تعانيه باقي دول العالم جراء الإجراءات الأمريكية المندفعة.

الخطر الثاني هو أن التعنت الأمريكي يدفع الحلفاء والخصوم على حد سواء إلى بناء هيكل مالي منفصل. 

النظام المالي العالمي Global financial system هو الإطار العالمي للاتفاقيات القانونية والمنظمات والجهات الفاعلة الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية اللاتي تسهل معاً التدفق الدولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتمويل التجاري.

ويتكون النظام من مؤسسات وعُملات وأدوات دفع تُملي كيف تتدفق السيولة غير المرئية التي تغذي الاقتصاد الحقيقي حول العالم. وكانت أمريكا تمثل مركزه النابض منذ الحرب العالمية الثانية. 

لكن الآن، بدأت الخطوات الخاطئة المتكررة، وقوة الجذب الصينية المتنامية، في التسبب بتداعي النظام. ويفترض الكثيرون أنَّ الوضع الراهن راسخ لدرجة يتعذَّر معها تحديه، لكن لم يعد الوضع كذلك. فهناك عالم مالي منفصل يتشكَّل في العالم الناشئ، بركائز مختلفة وسيدٍ جديد.

والقوة التي من المنتظر أن تهيمن مالياً، كما هو الحال جيوسياسياً، هي الصين، التي يُعَد صعودها السريع قاطرة للنظام. وتُعَد البلاد اليوم مسؤولة عن 15.5% من النمو في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنةً بـ3.6% عام 2000. وبات اقتصادها، الذي يحتل المرتبة الثانية في العالم، جزءاً مدمجاً بعمق في نسيج التجارة العالمية. لكنه مع ذلك لا يمثل ثقلاً يُذكَر في النظام المالي. 

وترى الصين أن تصحيح هذا التفاوت أمر مهم لتحقيق وضعية القوة العظمى. يقول توم كيتينغ من مركز أبحاث المعهد الملكي للأبحاث المتحدة في بريطانيا: "تُفرَّغ هيمنة الدولار من مضمونها من الأسفل". وتهدد أزمة فيروس كورونا بمنح القوى المُبعَدة عن المركز دفعة حاسمة.

كيف دمّرت الولايات المتحدة نفوذها بأيديها؟

سؤال طرحه عربي بوست في يوليو/تموز 2019، في تقرير يرصد سنوات الهيمنة الأمريكية التي وُلدت لحظة انهيار جدار برلين عام 1989، ودخلت في بداية النهاية مع العراق عام 2003. 

وينقل التقرير عن Foreign Affairs أن الحالة الأمريكية اشتملت على إساءة الولايات المتحدة لاستخدام نفوذها، وخسارة حلفائها، وتشجيع أعدائها عليها، من موقعها غير المسبوق. 

والآن، في ظل إدارة ترامب، يبدو أنَّ الولايات المتحدة فقدت الاهتمام، أو بالأحرى فقدت الإيمان، بالأفكار والغايات التي بعثت الحياة في حضورها الدولي لثلاثة أرباع القرن، بحسب المجلة.

التراجع الاقتصادي يهدد بالانهيار

أسباب الانهيار الاقتصادي المقبل للولايات المتحدة وانتهاء فترة كونها "دولة عظمى" تحكم العالم:

1- الزيادة في الدين المحلي والخارجي للولايات المتحدة هي أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي. الآن تشكل 20% من إجمالي الاقتصاد العالمي لجميع البلدان!

2- الزيادة العددية للعملة الورقية للدولار. ففي الفترة بين 2009-2014 وحدها، تم طباعة أكثر من 6 تريليونات دولار غير مدعومة.

3- ازدياد معارضة الدول للنفوذ الأمريكي حول العالم.

4- زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي.

المغامرات السياسية والعسكرية خارج الحدود

خبير الشؤون السياسية والأمنية الأمريكي آلان بيم نشر مقالاً قبل عدة أشهر، بعنوان: "تراجع منحنى القيادة الأمريكية للعالم.. قوة من دون سلطة"، توقف عند السرعة المذهلة التي تتسبب فيها رئاسة دونالد ترامب غير المسؤولة في تقويض وضع أمريكا كقوة أولى على المسرح العالمي.

نجحت أمريكا في الحفاظ على وضعها العالمي على مدى نحو 7 عقود، رغم إخفاقات وسوء تقدير في أزمات سياسية ومغامرات عسكرية، مثل الإطاحة بحكومة مصدق في إيران عام 1953، وحرب فيتنام، وفضيحة خليج الخنازير، وغزو العراق، وذلك بسبب استراتيجية ارتباط القوة بالسلطة التي اكتسبتها الولايات المتحدة من خلال نظام عالمي ليس مثالياً لكنه كان فاعلاً.

منافسة شرسة مع روسيا ثم مع الصين

أصبحت بكين القوة العظمى الجديدة في غفلة من ساكني البيت الأبيض، وهي قوةٌ لديها من المنعة والطموح ما يُضاهي الولايات المتحدة الأمريكية. 

وتحوَّلت روسيا من حالة الضعف والسكون التي كانت عليها في بداية التسعينيات، إلى قوةٍ "انتقامية ومُفسِدَة" لديها ما يكفي من القدرة والدهاء لتُعطِّل سير الأمور. 

غير أنَّ عودة روسيا إلى الساحة كانت أمراً أكثر تعقيداً. نظراً لتصميم زعماء موسكو أوائل التسعينيات على تحويل بلادهم إلى ديمقراطيةٍ ليبرالية، ودولةٍ أوروبية، وحليفٍ للغرب بصورة أو بأخرى، وهذه بالطبع أمورٌ تلاشى أثرها بشكل كامل اليوم.

وتتهم روسيا الولايات المتحدة باستخدام العقوبات لإخراج روسيا من سوق بيع الأسلحة بعد فرض واشنطن عقوبات على بكين بسبب شرائها أسلحة روسية. أما بكين فقد دعت واشنطن لسحب العقوبات وإلا سيكون عليها تحمل العواقب.

ونظرة مراجعة على عقوبات واشنطن ضد غريميها، الصين وروسيا، تشرح التوتر الأمريكي والتسرع في القرارات والتشنج في الخصومة.

ضربة البداية كانت هجمات نيويورك ثم غزو العراق

أدَّت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وصعود التطرف دوراً مزدوجاً في تراجع الهيمنة الأمريكية

بدا أول الأمر أنَّ الهجمات قد حفَّزت واشنطن، ودفعتها إلى تعبئة قوتها، ولكن الولايات المتحدة اختارت في عام 2001 -حين كانت ما تزال أكبر اقتصادياً من الدول الخمس التي تليها مجتمعة- زيادة ميزانية الإنفاق العسكري السنوية الخاصة بها إلى مبلغٍ يفوق ميزانية الدفاع الكاملة للمملكة المتحدة سنوياً (حوالي 50 مليار دولار). 

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، اتَّخذت واشنطن قرارات ما يزال أثرها يُلاحقها حتى الآن، غير أنَّ كافة تلك القرارات اتُّخِذَت على عجلٍ وبدافعٍ من الخوف. 

وجدت واشنطن نفسها في خطرٍ قاتل يدفعها إلى القيام بأي شيء مهما كان ثمنه، بما في ذلك غزو العراق، وإنفاق مبالغ لا تُعَدُّ ولا تُحصى على الأمن الداخلي، ووصولاً إلى استخدام التعذيب. 

وشكَّل العراق تحديداً نقطة تحول. إذ دخلت الولايات المتحدة في حربٍ من اختيارها، رغم تعبير سائر دول العالم عن توجُّسها من هذه الحرب. وحاولت الحصول على الضوء الأخضر من الأمم المتحدة لتنفيذ مهمتها، قبل أن تستغني عن المنظمة بأكملها حين اكتشفت صعوبة ذلك. 

صعود ترامب.. الضربة القاضية للنفوذ الأمريكي

على الرغم من أنَّ تراجع التأثير الأمريكي عالمياً ربما يكون قد بدأ مع مطلع القرن الحالي، بحسب بعض المحللين، فإن انكشاف "أكذوبة" الهيمنة الأمريكية أصبح أكثر وضوحاً منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض تحت شعاره الانتخابي "أمريكا أولاً".

وخلال ثلاث سنوات فقط تحت إدارة ترامب، بدأ استخدام القوة فقط بطريقة فرَّغت السلطة من مضمونها، لتنكشف شرعية الهيمنة الأمريكية.

في وقت شهد المسرح العالمي صعود لاعب آخَر أكثر قوة وشراسة وهو الصين.

وبروز لاعب قديم استفاد من التراجع الأمريكي وهو روسيا.

واللافت هنا هو سرعة هذا التدهور في وضع الولايات المتحدة وسمعتها على المسرح الدولي، والذي يرجع إلى القرارات العشوائية التي يتخذها ترامب بناءً على حسابات لحظية ضيقة، عكس ما يُفترض بدولة تقود العالم أن تتصرف به. ومن المهم هنا الإشارة إلى التراجع الكبير في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أن أصبحت كل الملفات يديرها ترامب ومستشاره الأقرب صهره غاريد كوشنر.

زادت إدارة ترامب طابع الخواء الذي سيطر على السياسة الخارجية الأمريكية. فهو يميل بطبيعته إلى أسلوب تفكير الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون، من حيث إنَّه لا يهتم بما يحدث في العالم إجمالاً، لكنَّه يعتقد أنَّ معظم الدول تحاول إلحاق الأذى بالولايات المتحدة. 

وترامب رجلٌ قومي.

وحمائي.

وشعبوي.

يُصِرُّ على وضع "أمريكا أولاً"، لكن الوصف الذي ينطبق عليه أكثر من أيّ شيء آخر هو أنَّه "غادر الساحة الدولية بالكامل". 

بالفعل انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادئ"، ومن المشاركة مع آسيا عموماً، في ظل إدارة ترامب. 

وخاصمت المنظمات الدولية بطريقة طفولية.

واستخدمت المعونات الإنسانية للضغط السياسي، كما تفعل مع السلطة الفلسطينية.

وبالغت في استخدام العقوبات ضد دول لم ترتكب من الجرائم سوى التجرؤ على "منافسة" واشنطن في الاقتصاد أو النفوذ.

شعار أمريكا أولاً تحقق، لكنه أصبح: أمريكا أولاً وأخيراً، ولا أحد بجانبها.

واللافت هنا هو سرعة هذا التدهور في وضع الولايات المتحدة وسمعتها على المسرح الدولي، والذي يرجع إلى القرارات العشوائية التي يتخذها ترامب بناءً على حسابات لحظية ضيقة، عكس ما يُفترض بدولة تقود العالم أن تتصرف به. ومن المهم هنا الإشارة إلى التراجع الكبير في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أن أصبحت كل الملفات يديرها ترامب ومستشاره الأقرب صهره غاريد كوشنر، ويمكن هنا الرجوع لشهادة وزير الخارجية السابق ريكس تليرسون أمام الكونغرس والتي كشف فيها كيف يتم اتخاذ القرارات بشأن السياسة الخارجية في عهد ترامب.

أمريكا جيمي كارتر VS أمريكا ترامب

ولو تذكرنا مثالاً إيجابياً على السلطة الأمريكية في المجال السياسي، لوجدنا أن الرئيس جيمي كارتر نجح في توظيفها في توقيع اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، انسحبت بموجبها الأخيرة من الأراضي المصرية المحتلة في شبه جزيرة سيناء، على الرغم من أن الاتفاقية شهدت معارضة شرسة في كل من مصر وإسرائيل.

لكن تحت إدارة ترامب، فشلت وساطة الولايات المتحدة في إقناع إثيوبيا بالتوقيع على مشروع اتفاق مع مصر بشأن سد النهضة، بل صدرت تصريحات إثيوبية تتهم واشنطن بممارسة ضغوط على أديس أبابا، في تذكير صارخ بما فقدته الولايات المتحدة من "سلطة" ضرورية لأي قائد عالمي.

ثم جاء كورونا ليكشف القيادة الهشة للرئيس ترامب

هل فتنة كورونا هي الموعد لنهاية الحقبة الأمريكية؟

سؤال طرحه الكاتب البريطاني دانيال فينكلشتاين، معتبراً أن أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد في عقر دارها كشفت إلى أي مدى تراجع عصر أمريكا القيادي في العالم.

فيروس كورونا المستجد لا يحترم أحداً ولا يعرف الحدود، ولا يعترف بزعامة الولايات المتحدة.

الفيروس لا يتكلم الإنجليزية ولا أي لغة محددة.

هو لا يقطن في دولة بعينها، بل هو أزمة دولية واختبار عسير للنظام العالمي القائم. 

ولكن أين القيادة الدولية لمواجهة ذلك؟ وأين الريادة الأمريكية المفترضة للرد على هذا الفيروس؟

أظهر الفيروس أنه لا يوجد زعيم لهذا العالم. 

ترامب غير قادر في الأصل على قيادة رد الفعل الأمريكي تجاه الأزمة، ناهيك عن توجيه أو إلهام المؤسسات الدولية. الولايات المتحدة لم تقدم أي نوع من المساعدات لأي دولة حول العالم، ليس هذا وحسب؛ بل تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين -باستثناء ترامب- إلى أن النظام الصحي هناك معرَّض للانهيار، وقد يكون غير قادر على مواجهة التفشي في الداخل الأمريكي.

لكن اللافت أنَّ عرض المساعدة الوحيد وجَّهته إدارة ترامب لإيران، وجاء الرد الإيراني ساخراً، في إشارة أخرى إلى فقدان الولايات المتحدة ليس فقط لمضمون القيادة، ولكن أيضاً للقيادة من حيث الشكل على الأقل.

المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، رفض العرض، واصفاً الولايات المتحدة بأنها "بحاجة لمن يساعدها".

واتهم الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إدارة ترامب بالكذب: "لو أرادوا المساعدة حقاً فما عليهم سوى رفع العقوبات.. عندها سنتمكن من التعامل مع تفشي فيروس كورونا".

واختتم الكاتب مقاله بالدعوة إلى تأسيس "هيكل عالمي لا يعتمد فقط على الولايات المتحدة".

بناء أي قوة في موقع القائد العالمي يستغرق وقتاً وجهداً، ويتطلب استراتيجية طويلة الأمد تلتزم بها للنهاية.

لكن وضع القيادة هذا يمكن فقدانه بطريقتين: 

الطريقة الأولى تكون درامية من خلال تكاليف ثقيلة لحرب تُنهي اقتصاد البلد حتى لو انتصرت تلك القوة في الحرب، كما خرجت بريطانيا المنتصرة في الحرب العالمية، لكن تكلفة الحرب أزاحتها من قيادة العالم.

أما الطريقة الثانية فتكون تدريجية وتحدث من الداخل، وتشمل تحولاً ثابتاً عن الاستراتيجية طويلة الأمد نحو التركيز على المصالح قصيرة الأمد.

والبلطجة بدلاً من التعاون مع الدول الأخرى.

وفرض عوائق تجارية وقائية تجاه الدول الأخرى، كما يفعل ترامب ضد الصين وتركيا والمكسيك، ويهدد باستخدامها ضد أوروبا واليابان والهند وبقية دول العالم.

الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى يعتمد على انطباعات وتحليلات، يتحدث أغلبها عن التباين بين وضع أمريكا الحالي، والوضع الذي اعتادت أن تكون عليه في الماضي. 

مشكلة هذا الاتجاه تكمن في أنه يعتمد على تحليل وضع القوة الأمريكية في مدة زمنية معينة، ويرتكز على الأزمة العالمية التي تعصف بها في ظل حكم ترامب. هذا الرأي يغفل أيضاً المنظور التاريخي ومعايير القوى العظمى التي يمكن الاتفاق عليها.

يقول التاريخ إن تدهور القوى العظمى هو نتيجة تغيرات جذرية في التوزيع العالمي لأشكال القوة، والذي عادة ما يأخذ فترات زمنية ممتدة ليتشكل، ونادراً ما تسقط القوى العظمى فجأة.

الحقبة الأمريكية تعني عصراً نادراً لإمبراطورية تحكم العالم

العصر الذي بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

الحرب التي شهدت إفلاس الإمبراطوريات العظمى في العالم، فيما كان الإفلاس أخلاقياً لدى البعض، وسياسياً لدى آخرين، واقتصادياً في معظم الحالات وفي بعض الأحيان كان الإفلاس في الجبهات الثلاث.

عصر شهد خطة الرئيس الأمريكي هاري ترومان بإعادة إعمار أوروبا ومساعدتها مالياً، وجعل أمنها على قمة الأولويات.

عصر تميز بالهيمنة الثقافية لسينما هوليوود وموسيقى الروك آند رول.

عصر الازدهار الكبير للرأسمالية الغربية.

والمواجهة النووية مع الاتحاد السوفييتي السابق، قبل الانهيار الفكري والسياسي للدولة الشيوعية.

نهاية حقبة الهيمنة الأمريكية تختلف عن المملكة المتحدة، إذ ليست الولايات المتحدة مُفلسةً ولا مُفرطةً في التوسُّع الإمبريالي. وهي ما تزال الدولة الأقوى في العالم، وربما ستظل مُحتفظةً بنفوذٍ أكبر من أي دولةٍ أخرى، ولكنَّها لن تُحدِّد شكل النظام العالمي أو تُهيمن عليه كما كانت تفعل ما يقرب من ثلاثة عقود.

ولن يبقى من تلك الحقبة سوى الأفكار الأمريكية.

إذ كانت الولايات المتحدة دولةً ذات هيمنةٍ فريدةٍ من نوعها، حيث وسَّعت نفوذها لإنشاء النظام العالمي الجديد الذي كان يحلم به الرئيس وودرو ويلسون، وبدأ تحقيقه على يد الرئيس فرانكلين روزفلت. وهو عالَمٌ خُلِقَ نصفه بعد عام 1945، ويُطلقُ عليه أحياناً "النظام العالمي الليبرالي"، وانشقَّ عنه الاتحاد السوفييتي ليبني عالمه الخاص. 

غير أنَّ "العالَم الحُرَّ" صمد أمام الحرب الباردة، وتوسَّع بعد عام 1991 ليشمل معظم أرجاء العالم. وأسفرت أفكاره الخاصة عن "استقرارٍ ورخاء" دام على مدار ثلاثة أرباع قرن. 

السؤال الآن هو: هل سينجو النظام العالمي الذي رعته الولايات المتحدة رغم أفول نجم النفوذ الأمريكي؟ 

أم أنَّ الولايات المتحدة ستشهد هي الأخرى تراجع إمبراطورية الأفكار الخاصة بها؟