رأسمالية
ما بعد كورونا

الرأسمالية أصبحت في عين العاصفة بعد وباء الفيروس التاجي COVID-19.

احتفل الخصوم بوفاتها متأثرة بضربة كورونا القاضية، بعد عدة أزمات متلاحقة.

وجدد الأنصار ثقتهم في نظرية تشبه طائر الفينيق في انبعاثه المستمر من الرماد.

الرأسمالية التي تحكم معظم العالم منذ عشرات السنين، حصلت على ثقة العالم بعد سقوط غريمتها الشيوعية، وقال المفكرون: إنها نهاية التاريخ، الذي أقفل تطوراته على انتصار نهائي وأبدي للسوق الحرة.

وعاد خصومها يشمتون في انهيارها مثل فقاعة عام 2008.

لكنها تماسكت، وتجاهلت صيحات التحذير من تطورها المتوحش على حساب الإنسانية، قبل أن يصل السيد كورونا إلى الأرض، ويوقف بإشارة من يده كل هذا الصخب: ها هي رأسماليتكم في ميزاني، فانظروا كيف استعدّت للأزمة، وكيف أدارتها.

وانطلقت سهام النقد من جديد، ضد نظرية وضعت الربح والفوز والمنافسة أهدافا وأولويات، على حساب تنمية الإنسان، ورعايته وحمايته.

فأين الحقيقة؟

الرأسمالية تعاني في هذا الوقت العصيب، والانهيار الكبير يضرب منطقة اليورو على مستوى الشركات، ويخطط الاتحاد الأوروبي لإعداد «خطة مارشال» ترمم الاقتصاد الغربي.

جاء فيروس كورونا يدعو الجميع لإعادة النظر في البنية التحتية الاقتصادية والسياسية القائمة والفجوة المستمرة بين الأغنياء الذين يمثِّلون نسبة 1% وفئة 99% الأكثر فقرًا من مجموع السكان.

قائمة الانتقادات للرأسمالية أصبحت أكثر طولا بعد الفيروس، وأصبحت مادة يومية لصفحات الرأي والاقتصاد في العالم بأسره.

لكن المناورة والتفاوض هما مصدر قوة النظام الرأسمالي؛ الذي طالما استفاد من تناقضاته وأزماته لتجديد منظومته الاقتصادية. 

الرأسمالية تحيا بالتأكيد على الأزمات وفترات الازدهار الاقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفرة. 

لقد نجحت الرأسمالية في تجاوز أزماتها العامة مثل كساد الثلاثينيات من القرن الماضي، والحرب العالمية الثانية، وصراع البقاء الذي خاضته ضد الشيوعية.

فكيف تجدد نفسها هذه المرة؟

هذا التقرير يستعرض مسيرة الرأسمالية وأسباب تفوقها، وأهم الانتقادات التي تعرضت لها قبل أزمة الوباء وبعده، ومستقبلها في عالم ما بعد كورونا.

البعض يفضلونها
متحررة جدا!

الرأسمالية نظرية تمنح الإنسان حرية العمل ومراكمة الأرباح
والصعود الاجتماعي.. والحق في الحلم

قبل نهاية الألفية السابقة بسنوات، نشر المفكر الأمريكي فوكوياما نبوءته الشهيرة عن نهاية التاريخ، بتسجيل الرأسمالية نصرا حاسما ونهائيا على كل ما عداها.

كانت النبوءة احتفاء بانتصار الليبرالية في معاركها ضد النازية والفاشية ثم الشيوعية لاحقا، وأزمة الكساد، وغيرها.

كانت تحلق بلا منافس.

لكن في عام 2014 احتفت الصحف الأمريكية بربع قرن على النبوءة، بتكذيبها جملة وتفصيلا: لم تنتصر الديمقراطية الليبرالية التمثيلية على كافة أشكال الحُكم الأخرى.

ولا السوق والتجارة الحرة تعملان بكفاءة، بل تتراجعان.

وها هو صراع عالمي جديد يشهد حربا باردة ثانية، بين الولايات المتحدة من جانب وبين الصين وروسيا من جانب آخر.

على مدار السنوات الماضية راجع فوكوياما الكثير من أفكاره.

تحدث في كتابات لاحقة عن انحطاط وتراجع مؤسسات الديمقراطية والدولة، بل إنه قدم انتقادات لليبرالية الجديدة، التي تساهم في التضييق على الطبقة الوسطى.

يقول فوكوياما إن الثراء في مقابل الفقر بالمعنى المادي ليس هو لب المشكلة، وإنما هو الشعور بالإهانة الذي يترافق مع اللامساواة، "أن تكون فقيراً يعني أن تصبح لا مرئياً للبشر من حولك، وإهانة أن أكون لا مرئياً أسوأ من الفقر نفسه".

والبعض يتهمونها بقسوة القلب!

الرأسمالية تنحاز للأغنياء والاحتكارات الكبرى
وتحرم الفقراء من الأمان.. والحلم 

بسبب الخسائر التي تجنيها الرأسمالية من هذا العزل، قاوم كثير من السياسيين اليمينيين إجراءات الوقاية من كورونا في بداية تفشي المرض.

وقد عبر دان باتريك، المذيع الأمريكي وأحد مؤيدي ترامب، عن وجهة النظر اليمينية في أحد أكثر أشكالها تطرفًا وهو يتحدث عن أن الأفراد الأكثر عرضة للإصابة بعدوى كورونا هم الكبار سنًا، وأن هؤلاء عليهم التضحية بحياتهم في سبيل إنقاذ الاقتصاد، بل إنه هو شخصيًا على استعداد للتضحية بحياته في سبيل إنقاذ هذا الكيان الافتراضي
المسمى بـ «الاقتصاد».

التخبط الأمريكي في مواجهة فيروس كورونا له مرجع في أفكار الاقتصادي الكلاسيكي توماس مالتوس «الذي طرح فكرة أن هناك كثيرًا من الفقراء غير المنتجين في العالم، لذا فإن الأوبئة العادية والأمراض كانت ضرورية وحتمية لجعل الاقتصادات أكثر إنتاجية».

كشفت الأزمة عن أن هيمنة منطق الاستثمار له آثار كارثية على حياة البشر لا تقل خطرًا عن الأوبئة. 

هيمنة الاستثمار تعني توجيه كل الطاقات المالية والبشرية والتقنية نحو الأنشطة المربحة كما تقضي قواعد الرأسمالية، وإن كانت ترفية لخدمة طبقة صغيرة، في مقابل التقشف عن خدمات أساسية يمكن أن تدار بالخسارة لبعض الوقت من أجل التحوط لحالات استثنائية مثل تفشي الأوبئة.

تجني شركات التأمين والأدوية المليارات، لكنها لا تستثمر في البحث عن أدوية للأمراض المحتملة أو النادرة.

ولا ترمي أموالها في أبحاث غير مضمونة الربح، لتنقذ الإنسانية من فيروس لا يفرق بين فقير في شوارع دلهي، وبين أثرى أثرياء العالم في كاليفورنيا أو نيويورك.

عالمنا ينفق آلاف المليارات على إنتاج وتجارة الأسلحة المربحة، ويتقاعس عن تخصيص 12 مليار دولار كافية لجعل المياه النقية والصحية متوافرة في كل بيت في العالم.

عالمنا انشغل بتطوير أنظمة التجسس الإلكترونية وبرامجها التي قضت على خصوصية البشر، وجعلت كل مكالمة هاتفية، وكل محادثة في العالم، مسجلة في خوادم الأجهزة الأمنية، ولم ينشغل بتطوير تقنيات تطوير اللقاحات ضد الفيروسات، والأمراض المعدية، كما يستطيع أن يفعل.

رغم أن الولايات المتحدة تنفق 17% من الدخل القومي على الصحة، فإن نسبة من لديهم تأمين صحي شامل فيها لا يتجاوز 30%.

لماذا؟

لأن معظم الإنفاق يذهب لجيوب شركات التأمين، وليس للمواطنين وصحتهم ولا الصحة الوقائية أو الأولية، ولأن أسعار الخدمات العلاجية التي تفرضها الشركات خيالية.

النظام الرأسمالي "المتوحش" كما يصفه المثقف الفلسطيني مصطفى البرغوثي، الذي لم يخجل عن مراكمة المليارات في جيوب ثمانية أشخاص، يملكون ما يملكه نصف البشرية جمعاء، وما ذكرنا به هذا الفيروس أن الإنفاق العالمي على الصحة لا يتجاوز 40 دولاراً للفرد في العام في البلدان الفقيرة، ونحو 1000 دولار في أغنى بلدان العالم أي الولايات المتحدة.

في مارس/ أذار 2020، أثار المرشح الأمريكي الديمقراطي بيرني ساندرز Bernie Sanders مجددا معضلة الصحة العامة التي أبرزها انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة. 

وكتب يقول إن "فيروس كورونا يسلط الضوء على العيوب الكامنة في نظامنا الصحي والاقتصادي". 

أضاف: أمر مأساوي بشكل لا يصدق أن يتحدث 13% من الأميركيين، أو حوالي 34 مليون شخص، عن وفاة صديق أو فرد من العائلة مؤخرًا بسبب عدم قدرته على تسديد نفقات العلاج من مرض ما، وفقًا لاستطلاع للرأي العام أجرته لمؤسستي Gallup و West Health.

سلوك هذه الشركات يظهر مدى التناقض بين الرأسمالية والمفهوم الإنساني للرعاية الصحة. 

أسعار الأدوية الباهظة والحصول على براءات اختراع الأدوية التي يطورها غالبًا باحثو الجامعات وباحثون آخرون ليست سوى مجرد جزء من المشكلة. 

لقد أحجم حيتان الدواء أيضًا عن تطوير المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات التي قد نحتاجها بشدة. 

من المربح بالنسبة لهم أن تنتج أدوية الضعف الجنسي من أن تنتج جيلًا جديدًا من المضادات الحيوية لمحاربة موجة السلالات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، والتي تقتل مئات الآلاف من المرضى في المستشفيات في جميع أنحاء العالم. 

يطالبون بحمايتهم من قوانين مكافحة الاحتكار لأنها المحرك الرئيسي لأبحاث العقاقير، في حين أنها في الواقع تنفق على الإعلانات أكثر من إنفاقها على البحث والتطوير. 

عادةً ما يجري تطوير الأدوية واللقاحات المتطورة، التي تسوقها الشركة، في شركات التكنولوجيا الحيوية الصغيرة التي تتسم بالديناميكية، والتي تستفيد بدورها من الأبحاث من الجامعات العامة. 

حيتان الدواء، في جوهرهم، نموذج للرأسمالية الريعية، وقد يعيق الثورة الناشئة في مجال التصميم البيولوجي وإنتاج اللقاحات.

في عام 2012 تلقت البلدان النامية دخلا إجماليا يزيد قليلا عن 2 تريليون دولار، من القروض والمساعدات والاستثمارات والتحويلات المالية وغيرها.

وفي نفس العام، خرج منها 5 تريليونات دولار في اتجاه البلدان المتقدمة.

هذا التدفق الصافي للثروة، أي 3 تريليونات دولار، هو أكبر 24 مرة من جميع ميزانيات المعونة في العالم مجتمعة.

مقابل كل دولار من المساعدات التي تحصل عليها البلدان النامية، تفقد 24 دولارا في صافي التدفقات الخارجية. 

مقابل كل مدرسة يتم بناؤها أو بئر يتم حفرها أو سلة غذاء ترسل إلى البلدان النامية، يتلقى أرباب العمل والمصارف في الغرب 24 مثلا للقيمة من خلال الديون والفوائد ونهب الموارد والاحتيال.

ظل البنك الدولي طيلة عقود يسعى لتحقيق شعاره بعالم خال من الفقر عن طريق تقديم قروض لبلدان العالم النامي.

كان يقدم القرض، ثم يبيعه لمستثمري "وول ستريت" بعوائد مجزية تصل إلى 15%. 

ولكي تحصل دولة على القرض، تخضع لبرنامج "التقويم الهيكلي" الذي يطلبه صندوق النقد الدولي في حال عدم قدرتها على تسديد القروض التي تلقتها. برنامج يتبنى خطاب التبادل الحر، وآليات السوق المفتوحة، ويحدد أولويات الإنفاق العام والاستثمار.

وعند العجز عن السداد، تضطر الدولة المدينة إلى بيع الأصول العامة وخفض الإنفاق العام والاستيلاء على أموال المعاشات، وغيرها.

لا رأسمالية دون منافسة. 

هذه المقولة الثابتة في أي كتاب مدرسي أو غير مدرسي يقدم للاقتصاد صارت اليوم محل تشكك. 

في أبريل 2017، استبعد موظفو شركة طيران يونايتد الأمريكية أحد المسافرين بينما أصر هو على السفر، فأخرجوه مسحولاً ينزف من الطائرة. 

فيديو الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي، أجبر الشركة على الاعتذار والتسوية بعد تجاهل الأمر. 

كان من المنتظر أن تؤدي الحادثة لهبوط أسهم الشركة، وتراجع المسافرين عن استخدام طائراتها. 

لكن العكس هو الذي حدث. 

ارتفعت الأسهم بعد أن اكتشفت السوق بفعل الحادثة أن المسافرين ليس لديهم خيار. الشركة مسيطرة ضمن احتكار القلة لقطاع الطيران الأمريكي، وتتحكم في الحصة الغالبة من السوق الأمريكي.

تقلل الاحتكارات من اختيارات المستهلكين، وتحدد الأسعار بأعلى من قيمتها فيما يسميه الاقتصاديون "تشوهات الأسعار".

وبالأساس تضمن معدلات ربحية مرتفعة جداً لحاملي الأسهم على حساب الأغلبية.

الليبرالية لم تقدم للشعوب سوى واحد من سبعة أجزاء من الكعكة لأقلية من سكان العالم وهي الطبقة المتوسطة، وهو ما لم يقلص تكديس رأس المال لكبار الرأسماليين، ولكنها حققت هدفها من نزع الفتيل الثوري، وتمكنت من ذلك حتى حقبة السبعينات من القرن العشرين، وحينما وجد الرأسماليون أنفسهم في مأزق كانت العولمة هي الحل للهروب من تحكم أجهزة الدول، كما يحلل عالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين.

لكن الرأسمالية هي أيضا نظام عالمي، لذلك فهي تجبر العمال على التنافس على مستوى عالمي، مما يؤدي إلى تشكيل طبقة أكبر فأكبر من الفقراء وعديمي الملكية، الذين يمكن للشركات الكبرى استغلالهم. 

وبهذه الطريقة يتمكن "خالقو الثروة" من أن يدفعوا أجورا هزيلة لمجموعة من العمال في بلد ما، بينما يخفضون أجور الآخرين، مع الاستمرار في تهنئة أنفسهم على مجهودهم الهائل للحد من الفقر!

بسبب الخسائر التي تجنيها الرأسمالية من هذا التقييد، قاوم كثير من السياسيين اليمينيين إجراءات الوقاية من كورونا في بداية تفشي المرض.

وقد عبر دان باتريك، المذيع الأمريكي وأحد مؤيدي ترامب، عن وجهة النظر اليمينية في أحد أكثر أشكالها تطرفًا وهو يتحدث عن أن الأفراد الأكثر عرضة للإصابة بعدوى كورونا هم الكبار سنًا، وأن هؤلاء عليهم التضحية بحياتهم في سبيل إنقاذ الاقتصاد، بل إنه هو شخصيًا على استعداد للتضحية بحياته في سبيل إنقاذ هذا الكيان الافتراضي
المسمى بـ «الاقتصاد».

التخبط الأمريكي في مواجهة فيروس كورونا له مرجع في أفكار الاقتصادي الكلاسيكي توماس مالتوس «الذي طرح فكرة أن هناك كثيرًا من الفقراء غير المنتجين في العالم، لذا فإن الأوبئة العادية والأمراض كانت ضرورية وحتمية لجعل الاقتصادات أكثر إنتاجية».

كشفت الأزمة عن أن هيمنة منطق الاستثمار له آثار كارثية على حياة البشر لا تقل خطرًا عن الأوبئة. 

هيمنة الاستثمار تعني توجيه كل الطاقات المالية والبشرية والتقنية نحو الأنشطة المربحة كما تقضي قواعد الرأسمالية، وإن كانت ترفية لخدمة طبقة صغيرة، في مقابل التقشف عن خدمات أساسية يمكن أن تدار بالخسارة لبعض الوقت من أجل التحوط لحالات استثنائية مثل تفشي الأوبئة.

تجني شركات التأمين والأدوية المليارات، لكنها لا تستثمر في البحث عن أدوية للأمراض المحتملة أو النادرة.

ولا ترمي أموالها في أبحاث غير مضمونة الربح، لتنقذ الإنسانية من فيروس لا يفرق بين فقير في شوارع دلهي، وبين أثرى أثرياء العالم في كاليفورنيا أو نيويورك.

عالمنا ينفق آلاف المليارات على إنتاج وتجارة الأسلحة المربحة، ويتقاعس عن تخصيص 12 مليار دولار كافية لجعل المياه النقية والصحية متوافرة في كل بيت في العالم.

عالمنا انشغل بتطوير أنظمة التجسس الإلكترونية وبرامجها التي قضت على خصوصية البشر، وجعلت كل مكالمة هاتفية، وكل محادثة في العالم، مسجلة في خوادم الأجهزة الأمنية، ولم ينشغل بتطوير تقنيات تطوير اللقاحات ضد الفيروسات، والأمراض المعدية، كما يستطيع أن يفعل.

رغم أن الولايات المتحدة تنفق 17% من الدخل القومي على الصحة، فإن نسبة من لديهم تأمين صحي شامل فيها لا يتجاوز 30%.

لماذا؟

لأن معظم الإنفاق يذهب لجيوب شركات التأمين، وليس للمواطنين وصحتهم ولا الصحة الوقائية أو الأولية، ولأن أسعار الخدمات العلاجية التي تفرضها الشركات خيالية.

النظام الرأسمالي "المتوحش" كما يصفه المثقف الفلسطيني مصطفى البرغوثي، الذي لم يخجل عن مراكمة المليارات في جيوب ثمانية أشخاص، يملكون ما يملكه نصف البشرية جمعاء، وما ذكرنا به هذا الفيروس أن الإنفاق العالمي على الصحة لا يتجاوز 40 دولاراً للفرد في العام في البلدان الفقيرة، ونحو 1000 دولار في أغنى بلدان العالم أي الولايات المتحدة.

في مارس/ أذار 2020، أثار المرشح الأمريكي الديمقراطي بيرني ساندرز Bernie Sanders مجددا معضلة الصحة العامة التي أبرزها انتشار فيروس كورونا في الولايات المتحدة. 

وكتب يقول إن "فيروس كورونا يسلط الضوء على العيوب الكامنة في نظامنا الصحي والاقتصادي". 

أضاف: أمر مأساوي بشكل لا يصدق أن يتحدث 13% من الأميركيين، أو حوالي 34 مليون شخص، عن وفاة صديق أو فرد من العائلة مؤخرًا بسبب عدم قدرته على تسديد نفقات العلاج من مرض ما، وفقًا لاستطلاع للرأي العام أجرته لمؤسستي Gallup و West Health.

سلوك هذه الشركات يظهر مدى التناقض بين الرأسمالية والمفهوم الإنساني للرعاية الصحة. 

أسعار الأدوية الباهظة والحصول على براءات اختراع الأدوية التي يطورها غالبًا باحثو الجامعات وباحثون آخرون ليست سوى مجرد جزء من المشكلة. 

لقد أحجم حيتان الدواء أيضًا عن تطوير المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات التي قد نحتاجها بشدة. 

من المربح بالنسبة لهم أن تنتج أدوية الضعف الجنسي من أن تنتج جيلًا جديدًا من المضادات الحيوية لمحاربة موجة السلالات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، والتي تقتل مئات الآلاف من المرضى في المستشفيات في جميع أنحاء العالم. 

يطالبون بحمايتهم من قوانين مكافحة الاحتكار لأنها المحرك الرئيسي لأبحاث العقاقير، في حين أنها في الواقع تنفق على الإعلانات أكثر من إنفاقها على البحث والتطوير. 

عادةً ما يجري تطوير الأدوية واللقاحات المتطورة، التي تسوقها الشركة، في شركات التكنولوجيا الحيوية الصغيرة التي تتسم بالديناميكية، والتي تستفيد بدورها من الأبحاث من الجامعات العامة. 

حيتان الدواء، في جوهرهم، نموذج للرأسمالية الريعية، وقد يعيق الثورة الناشئة في مجال التصميم البيولوجي وإنتاج اللقاحات.

في عام 2012 تلقت البلدان النامية دخلا إجماليا يزيد قليلا عن 2 تريليون دولار، من القروض والمساعدات والاستثمارات والتحويلات المالية وغيرها.

وفي نفس العام، خرج منها 5 تريليونات دولار في اتجاه البلدان المتقدمة.

هذا التدفق الصافي للثروة، أي 3 تريليونات دولار، هو أكبر 24 مرة من جميع ميزانيات المعونة في العالم مجتمعة.

مقابل كل دولار من المساعدات التي تحصل عليها البلدان النامية، تفقد 24 دولارا في صافي التدفقات الخارجية. 

مقابل كل مدرسة يتم بناؤها أو بئر يتم حفرها أو سلة غذاء ترسل إلى البلدان النامية، يتلقى أرباب العمل والمصارف في الغرب 24 مثلا للقيمة من خلال الديون والفوائد ونهب الموارد والاحتيال.

ظل البنك الدولي طيلة عقود يسعى لتحقيق شعاره بعالم خال من الفقر عن طريق تقديم قروض لبلدان العالم النامي.

كان يقدم القرض، ثم يبيعه لمستثمري "وول ستريت" بعوائد مجزية تصل إلى 15%. 

ولكي تحصل دولة على القرض، تخضع لبرنامج "التقويم الهيكلي" الذي يطلبه صندوق النقد الدولي في حال عدم قدرتها على تسديد القروض التي تلقتها. برنامج يتبنى خطاب التبادل الحر، وآليات السوق المفتوحة، ويحدد أولويات الإنفاق العام والاستثمار.

وعند العجز عن السداد، تضطر الدولة المدينة إلى بيع الأصول العامة وخفض الإنفاق العام والاستيلاء على أموال المعاشات، وغيرها.

لا رأسمالية دون منافسة. 

هذه المقولة الثابتة في أي كتاب مدرسي أو غير مدرسي يقدم للاقتصاد صارت اليوم محل تشكك. 

في أبريل 2017، استبعد موظفو شركة طيران يونايتد الأمريكية أحد المسافرين بينما أصر هو على السفر، فأخرجوه مسحولاً ينزف من الطائرة. 

فيديو الحادثة على وسائل التواصل الاجتماعي، أجبر الشركة على الاعتذار والتسوية بعد تجاهل الأمر. 

كان من المنتظر أن تؤدي الحادثة لهبوط أسهم الشركة، وتراجع المسافرين عن استخدام طائراتها. 

لكن العكس هو الذي حدث. 

ارتفعت الأسهم بعد أن اكتشفت السوق بفعل الحادثة أن المسافرين ليس لديهم خيار. الشركة مسيطرة ضمن احتكار القلة لقطاع الطيران الأمريكي، وتتحكم في الحصة الغالبة من السوق الأمريكي.

تقلل الاحتكارات من اختيارات المستهلكين، وتحدد الأسعار بأعلى من قيمتها فيما يسميه الاقتصاديون "تشوهات الأسعار".

وبالأساس تضمن معدلات ربحية مرتفعة جداً لحاملي الأسهم على حساب الأغلبية.

الليبرالية لم تقدم للشعوب سوى واحد من سبعة أجزاء من الكعكة لأقلية من سكان العالم وهي الطبقة المتوسطة، وهو ما لم يقلص تكديس رأس المال لكبار الرأسماليين، ولكنها حققت هدفها من نزع الفتيل الثوري، وتمكنت من ذلك حتى حقبة السبعينات من القرن العشرين، وحينما وجد الرأسماليون أنفسهم في مأزق كانت العولمة هي الحل للهروب من تحكم أجهزة الدول، كما يحلل عالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين.

لكن الرأسمالية هي أيضا نظام عالمي، لذلك فهي تجبر العمال على التنافس على مستوى عالمي، مما يؤدي إلى تشكيل طبقة أكبر فأكبر من الفقراء وعديمي الملكية، الذين يمكن للشركات الكبرى استغلالهم. 

وبهذه الطريقة يتمكن "خالقو الثروة" من أن يدفعوا أجورا هزيلة لمجموعة من العمال في بلد ما، بينما يخفضون أجور الآخرين، مع الاستمرار في تهنئة أنفسهم على مجهودهم الهائل للحد من الفقر!

وهذا تفسير آخر لوصول رجل بعقلية ترامب لعرش الدولة الأعظم في زماننا.

يعتبر البعض أن سياسات رؤساء مثل أوباما وكلينتون، وتغاضيهم عن معاناة الضعفاء، ساعدت في انتخاب دونالد ترامب نهاية 2016. 

"المستقبل مخيف. فقد انتهى العصر النيوليبرالي في الولايات المتحدة بانفجار الفاشية الجديدة. وأدى الانتصار السياسي لدونالد ترامب إلى تحطيم المؤسسات في الحزبين الديمقراطي والجمهوري المرتبطين كلاهما بحكم قوة المال وحكم رجال السياسية المتسلِّلين إلى السلطة" كما يرى الباحث كورنيل ويست  Cornell West.

اختار أوباما تجاهل جرائم وول ستريت، ورفض خطة الإنقاذ لأصحاب المنازل الذين خسروا لصالح البنوك، ولم يحرك ساكنا إزاء عدم المساواة وجرائم الحرب، مثل قتل المدنيين الأبرياء خارج البلاد بواسطة طائرات أميركية دون طيار.

إنها النزعة غير الإنسانية التي تنتهي بوهم الحل عبر الفاشية.

زياد رحباني: السيستم الرئيسي للحرية الرأسمالية، قل ما تشاء لكن شيئا لن يتغير 

وجدت الأيديولوجية النيوليبرالية الترحيب أيضًا لدى العديد من المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

وفرضت نفسها على نطاق غير مسبوق من الحكومات والمؤسسات في جميع أنحاء العالم، فأخذت عنها معظم الدول النامية ما توصي به من إصلاحات بنيوية. 

خلال أزمة الديون في المكسيك عام 1982، على سبيل المثال، عندما قال صندوق النقد الدولي: "سوف ننقذكم". وفي الواقع، ما كانوا يفعلونه هو "إنقاذ البنوك الاستثمارية في نيويورك وتنفيذ سياسة التقشف". وتم تنفيذ سيناريو مماثل في مواجهة أزمة اليونان الأخيرة. وفي نهاية المطاف، تبيَّن أنهم "أنقذوا البنوك ودفعوا المواطنين مرغمين إلى التسديد من خلال اتباع سياسة التقشف". 

في الغرب والدول النامية، تقلص دور الدولة إلى مجرد وكالة لتنظيم الخوف ومنع التجمعات العامة. 

وأصبحت منظمة الصحة العالمية مؤسسة عالمية لا تقدِّم بحكم الواقع سوى إحصاءات عن حالات الإصابة والوفيات ونطاق انتشار فيروس كورونا. 

خلال العقود الثلاثة الماضية، كان للنظام النيوليبرالي كلمته في توجيه السياسات العامة في الدول، ولم يكن أمام العمال اليائسين أي خيار سوى "العمل لفترة أطول وأصعب، والوفاة في سن مبكر". 

وإذا استمر الوباء الجديد حتى أوائل صيف 2020، فلن يتمكن العمال من تغطية نفقاتهم المعيشية.

وقد لا يحصلون على فرص مواتية للتعويض عما خسروه من مصدر دخل.

سيضطر عدد كبير من الشركات الصغيرة إلى إعلان الإفلاس. 

وهذا بعض ما كشفته كورونا

إعادة النظر في السياسات غير العادلة واستعادة سلطات الدولة من "الشركات" وطريق ثالث

يبدو أن أزمة كورونا جاءت خصيصا لتختبر صلابة الرأسمالية واستدامتها.

لقد وضعت أزمة كورونا الرأسمالية أمام خيارين: إما الحفاظ على حياة البشر أو استمرار دوران عجلة الإنتاج.

نحن أمام فيروس لا تعرف البشرية حتى الآن سبيلاً لعلاجه، والحل الوحيد لتقليل الخسائر البشرية هو تقييد حركة المواطنين.

هذا التقييد يعني توقف حركة الإنتاج والأسواق وكل أشكال الحياة الاقتصادية المعتادة.

ترتبك حضارتنا قليلا أمام الحدث المهيب، ثم تبدأ في تعلم أهم الدروس "الاقتصادية" من غزوة الفيروس.

قد يكون الفيروس سيئًا، لكن المنطق الاقتصادي التبسيطي الساذج قد يفرض ضرورة استمرار الحياة حتى يكون لدينا مصل.

كان هذا بالفعل هو رد الفعل الأول للحكومة البريطانية: البلاد ستظل مفتوحة للعمل.

المهندس نجيب ساويرس الذي ينتمي إلى أغنى عائلة في مصر اقترح  ثلاثة حلول لإنهاء الإغلاق مع الحفاظ على اقتصاد البلاد في حالة جيدة: الاقتراح الأول الذي طرحه ساويرس هو تقسيم العمال إلى مجموعتين: مجموعة تعمل في الأيام الزوجية والأخرى في الأيام الفردية والثاني أن يعمل الموظفون ويناموا في المصانع وعدم العودة إلى عائلاتهم، لتقليل حركتهم. 

أما الاقتراح الثالث فهو استيراد مجموعات اختبار لتمكين الناس من الكشف عن مرضهم والحجر الصحي بأنفسهم في المنزل.  

المهم أن تبقى عجلة الإقتصاد في حالة دوران.

سقط المنطق البريطاني، وقوبلت اقتراحات الملياردير المصري بالاستهجان، وارتفعت الأصوات تنادي بالانحياز للإنسانية وحماية الأرواح.

حذر الصندوق من أن تفشي الوباء في هذه المناطق ستكون آثاره وخيمة في البلدان النامية التي تعاني من ضعف بالغ في الخدمات الصحية. 

والمدهش أن الصندوق هو الذي دافع لسنوات عن سياسات التقشف وخصخصة الخدمات العامة في هذه البلدان. 

كان الصندوق لعقود، يدفع حكومات بلدان نامية مثل مصر لجعل علاج عجز الموازنة العامة على رأس الأولويات، وتقليص دور الدولة لإتاحة المجال للقطاع الخاص لكي يقدم خدماته بطريقة هادفة للربح. 

تبنى الصندوق فلسفة تدافع بشدة عن نمط الإنتاج الرأسمالي، وتعتبر التوجه نحو قيام الدولة بأنشطة غير هادفة للربح تشويهًا للاقتصاد، واستطاع أن ينشر فلسفته في البلدان النامية بحكم سيطرته عليها بالديون.

وظلت سياسات التقشف والخصخصة تأكل من قواعد السياسات الاجتماعية بشكل مستمر لأن الربح كان هدفًا لا نهاية له.

الانهيار الاقتصادي الذي ستتسبب فيه استمرار الإجراءات المقيدة للحركة ستكون له آثار كارثية أيضًا على حياة البشر، وهذا صحيح جزئيًا، ولكن بلدان الغرب الرأسمالي لم تصل بعد إلى هذا المستوى من التردي الاقتصادي، كل ما تحتاجه فقط هو المزيد من الإجراءات الاقتصادية الاستثنائية لإعادة توزيع الثروات والدخول حتى تتم السيطرة على المرض.

مثل هذه الإجراءات الاستثنائية هو ما يزعج اليمين بطبيعة الحال؛ لأن التمادي فيها يقود للمزيد من الحديث عن ضرورة فرض المزيد من الضرائب على الدخول والثروات العليا.

هناك نتيجة أكبر لتفوُّق الأيديولوجية النيوليبرالية في سنوات ما قبل كورونا، وهي انهيار سلطة الدولة مقابل تعاظم نفوذ الشركات.

انتقلت السلطة عمدًا إلى أيدي "الشركات العابرة للحدود الوطنية والتي لا تخضع للمساءلة. 

أصبحت قوى السوق هي سيدة الموقف. 

وانطوى هذا التحوُّل على مخاطر بسبب تضاءل قدرة الحكومة على الاستجابة لاحتياجات ناخبيها. 

وأدَّى هذا التحوُّل أيضًا إلى عدم تمكين شرائح الهامش من تسلُّق السلم الاجتماعي.

ربما تكون دول ما بعد كورونا قد تعلمت الدرس القاسي، بعدم التفريط في سلطاتها لسطوة الشركات ورغبتها اللانهائية في التوسع.

لكن الشركات تبدو بعيدة عن استيعاب ما جرى، وها هي الشركات الكبرى الأميركية وحليفاتها من الشركات متعددة الجنسيات تستعد لكسب الغنيمة من العائدات المالية المرتقبة بعد التوصل إلى صنع لقاح ضد فيروس كورونا!

يتوقَّع العديد من خبراء المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات فيروس كورونا وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجددًا إلا بحلول عام 2031. 

واعتبر محللون في مؤسسة Goldman Sachs أن تداعيات الفيروس الجديد تدحض فرضية أن الاقتصاد الأميركي خالٍ من عناصر الركود كما كان شائعًا بحلول عام 2020. 

قبل أيام من حلول الذكرى الخامسة لثورة يناير المصرية، احتفلت هوليوود بفكرتها، عبر منح جائزة أفضل مسلسل في 2015 للمصري سام إسماعيل، مؤلف ومنتج “مستر روبوت“.

وعلى الموقع العربي لجوائز غولدن غلوبز، الذي تديره جمعية مراسلي هوليود، ورد أن المسلسل مستوحى من الثورة المصرية.

في الربيع العربي اتجه غضب الشعوب ضد الحكام، أما في أمريكا فيصب الشباب غضبه عادة على الشركات العملاقة التي تتمتع بنفوذ يفوق البيت الابيض والكونجرس، وهي تفرض سلطتها على المؤسسات الحكومية من خلال شراء دعم السياسيين، لتتحكم في قرارات سياسية تخدم مصالحها، على حساب الانسان البسيط.

البطل قرر أن “ينتقم للإنسان البسيط الذي لا حول له ولا قوة في النظام الاقتصادي المعاصر، أمام شركات ضخمة تستغله وتنهب أمواله من دون أن يعرف”، كما يضيف الموقع.

لا يتواصل إليوت مع محيطه، بل يوجه رسائله من العقل الباطن إلى المشاهد مباشرة.

عندما سألته الطبيبة النفسية عن سبب غضبه، ظل صامتاً، لكننا سمعنا صوته يخاطبنا بوضوح، محاولا الإجابة: “ربما لأننا نرى ستيف جوبز عظيماً، رغم علمنا أنه ربح الملايين من انحناء ظهور الأطفال في تجميع أجهزة أبل. ربما الشعور بأن جميع أبطالنا مزيفون، وأن العالم بأجمعه مجرد خدعة كبيرة. تواصلنا المزيف عبر المواقع الاجتماعية يمنحنا شعوراً واهماً بالحميمية. نحن نريد أن نكون مخدرين، لأن عدم التصنع مؤلم، ونحن جبناء. اللعنة على المجتمع”.

يرى إليوت، ومعه جماعة القراصنة السريين، أن الوقت قد حان أمام الشباب المعزول المظلوم ليغضب ويثور، وأن يكف عن لعب دور الروبوت المدرب على أداء أشياء لا يفهمها، تلقي بالمزيد من الأموال في خزائن الأغنياء، ولا يبقى للفقراء إلا الحلم بالجنة ونعيمها.

النظام العالمي الحديث قد دخل أزمة النهاية، وليس من المحتمل أن يمتد وجوده إلى أكثر من خمسين عامًا مقبلة.

في عام 1999 نشر عالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين Immanuel Wallerstein نبوءته المخيفة عن "نهاية العالم كما نعرفه".

قال إن النسق العالمي الراهن الذي يتسم بحدة القمع واللامساواة والاستقطاب لن يدوم طويلاً، وأن العالم سيتجه ليكون أكثر ديمقراطية، لكن عبر صراع عالمي حول النسق العالمي الجديد.

العالم سيكون أكثر عنفاً من الحرب الباردة، مع تكهن بتزايد الاستقطاب الاقتصادي بين الشمال والجنوب، واستفزازات عسكرية بين الجنوب والشمال الذي سيجد صعوبة في الوقوف أمام ذلك المد.

الجيل الثاني من المهاجرين لن يتمكن من الاندماج الاجتماعي، وفي هذه الحالة ستعود أوروبا الغربية لأوضاع ما قبل 1848، عام صدور البيان الشيوعي. الأوضاع ستكون أكثر قسوة؛ فلم يعد هناك يقين بين الشعوب بأن التاريخ يقف إلى جانب التقدم، أو أن الديمقراطية ستحقق الرخاء والعدالة.

ما الذي يحشد الشعوب؟ 

يجيب فالرشتاين بأن ما يحشدهم ليس القمع، بل الأمل والإيمان بنهاية القمع نفسه.

لا توجد دولة مستقلة ولها سيادة حتى الولايات المتحدة ليست ذات سيادة بسبب هيمنة الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

كل هذا دفعه للتنبؤ بفشل النسق العالمي الحديث وكذلك الحضارة الرأسمالية.

الآن وسط مصاعب الانتقال التاريخي من نظام عالمي دام خمسة قرون إلى نظام آخر، مصاعب بوزن ثورات وحروب كبرى يمكن أن تندلع في أي وقت، هنا ليس بوسعنا التيقن من نوع النظام الذي سيخلف سابقه، فقط المعلوم علم اليقين في هذه اللحظة الراهنة أن هذا النظام الغريب الذي نعيش فيه، قد وصل إلى مرحلة لن يستطيع بعدها الاستمرار في أداء مهامه بعد الآن.

هذه الجائحة سوف تشكل نظاماً عالمياً جديداً، بحيث يتراجع تأثير وحضور الدول، وتتجه نحو الانكفاء الذاتي ونصبح أمام عالم منغلق وحبيس جغرافيته، عالم أقل نمواً وتواصلاً.

سوف يرشح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لا همينة ولا نفوذ، عالم يولي القيم الإنسانية وينشد الحماية الصحية والبيئية للبشرية قاطبة.

سوف تفقد الكيانات الاقتصادية الكبيرة تأثيرها وحضورها، وتنشغل بترميم أوضاعها الاقتصادية المنهارة بفعل الكساد. 

سيكون بمقدور الصين التعافى سريعاً وبسط نفوذها الاقتصادي على العالم وفرض واقعها الجديد عبر الجسور الصحية التي مدتها للعالم.

لن تستطيع أمريكا أن تبقى سيدة وحيدة متربعة على عرش العالم سياسياً، بعد الترنح الاقتصادي وضخ  أكبر حزمة مساعدات اقتصادية في تاريخها والتي تقدر بـ 2.2 تريليون دولار لمساعدة الأفراد والشركات في مواجهة التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي فيروس كورونا.

من سنوات كثيرة ترتفع الأصوات منادية بحاجة العالم إلى نظام اقتصادي ليس كالرأسمالية المنفلتة أو الاشتراكية الموجهة مركزيا.

الأحداث التي دفعت للبحث عن طريق ثالث هذا التفكير كثيرة.

انهيار النظام الاشتراكي في أوروبا الشرقية.

وتغير أسس العمل الاقتصادي في الصين باتجاه اشتراكية السوق، أي مزاوجة دور الدولة مع دور السوق.

ما أفرزته أزمة النظام الرأسمالي من تشكيك في أسس وثوابت النظام الرأسمالي والتي دفعت الدول الرأسمالية إلى اتخاذ خطوات أدت إلى تدخل الدول الرأسمالية في التأثير على القرار الاقتصادي بصورة مباشرة.

الطريق الثالث نظام اقتصادي يأخذ بالاعتبار احترام الملكية الخاصة ومصلحة المجتمع معا.

يبدو أن أزمة كورونا جاءت خصيصا لتختبر صلابة الرأسمالية واستدامتها.

لقد وضعت أزمة كورونا الرأسمالية أمام خيارين: إما الحفاظ على حياة البشر أو استمرار دوران عجلة الإنتاج.

نحن أمام فيروس لا تعرف البشرية حتى الآن سبيلاً لعلاجه، والحل الوحيد لتقليل الخسائر البشرية هو تقييد حركة المواطنين.

هذا التقييد يعني توقف حركة الإنتاج والأسواق وكل أشكال الحياة الاقتصادية المعتادة.

ترتبك حضارتنا قليلا أمام الحدث المهيب، ثم تبدأ في تعلم أهم الدروس "الاقتصادية" من غزوة الفيروس.

قد يكون الفيروس سيئًا، لكن المنطق الاقتصادي التبسيطي الساذج قد يفرض ضرورة استمرار الحياة حتى يكون لدينا مصل.

كان هذا بالفعل هو رد الفعل الأول للحكومة البريطانية: البلاد ستظل مفتوحة للعمل.

المهندس نجيب ساويرس الذي ينتمي إلى أغنى عائلة في مصر اقترح  ثلاثة حلول لإنهاء الإغلاق مع الحفاظ على اقتصاد البلاد في حالة جيدة: الاقتراح الأول الذي طرحه ساويرس هو تقسيم العمال إلى مجموعتين: مجموعة تعمل في الأيام الزوجية والأخرى في الأيام الفردية والثاني أن يعمل الموظفون ويناموا في المصانع وعدم العودة إلى عائلاتهم، لتقليل حركتهم. 

أما الاقتراح الثالث فهو استيراد مجموعات اختبار لتمكين الناس من الكشف عن مرضهم والحجر الصحي بأنفسهم في المنزل.  

المهم أن تبقى عجلة الإقتصاد في حالة دوران.

سقط المنطق البريطاني، وقوبلت اقتراحات الملياردير المصري بالاستهجان، وارتفعت الأصوات تنادي بالانحياز للإنسانية وحماية الأرواح.

حذر الصندوق من أن تفشي الوباء في هذه المناطق ستكون آثاره وخيمة في البلدان النامية التي تعاني من ضعف بالغ في الخدمات الصحية. 

والمدهش أن الصندوق هو الذي دافع لسنوات عن سياسات التقشف وخصخصة الخدمات العامة في هذه البلدان. 

كان الصندوق لعقود، يدفع حكومات بلدان نامية مثل مصر لجعل علاج عجز الموازنة العامة على رأس الأولويات، وتقليص دور الدولة لإتاحة المجال للقطاع الخاص لكي يقدم خدماته بطريقة هادفة للربح. 

تبنى الصندوق فلسفة تدافع بشدة عن نمط الإنتاج الرأسمالي، وتعتبر التوجه نحو قيام الدولة بأنشطة غير هادفة للربح تشويهًا للاقتصاد، واستطاع أن ينشر فلسفته في البلدان النامية بحكم سيطرته عليها بالديون.

وظلت سياسات التقشف والخصخصة تأكل من قواعد السياسات الاجتماعية بشكل مستمر لأن الربح كان هدفًا لا نهاية له.

الانهيار الاقتصادي الذي ستتسبب فيه استمرار الإجراءات المقيدة للحركة ستكون له آثار كارثية أيضًا على حياة البشر، وهذا صحيح جزئيًا، ولكن بلدان الغرب الرأسمالي لم تصل بعد إلى هذا المستوى من التردي الاقتصادي، كل ما تحتاجه فقط هو المزيد من الإجراءات الاقتصادية الاستثنائية لإعادة توزيع الثروات والدخول حتى تتم السيطرة على المرض.

مثل هذه الإجراءات الاستثنائية هو ما يزعج اليمين بطبيعة الحال؛ لأن التمادي فيها يقود للمزيد من الحديث عن ضرورة فرض المزيد من الضرائب على الدخول والثروات العليا.

هناك نتيجة أكبر لتفوُّق الأيديولوجية النيوليبرالية في سنوات ما قبل كورونا، وهي انهيار سلطة الدولة مقابل تعاظم نفوذ الشركات.

انتقلت السلطة عمدًا إلى أيدي "الشركات العابرة للحدود الوطنية والتي لا تخضع للمساءلة. 

أصبحت قوى السوق هي سيدة الموقف. 

وانطوى هذا التحوُّل على مخاطر بسبب تضاءل قدرة الحكومة على الاستجابة لاحتياجات ناخبيها. 

وأدَّى هذا التحوُّل أيضًا إلى عدم تمكين شرائح الهامش من تسلُّق السلم الاجتماعي.

ربما تكون دول ما بعد كورونا قد تعلمت الدرس القاسي، بعدم التفريط في سلطاتها لسطوة الشركات ورغبتها اللانهائية في التوسع.

لكن الشركات تبدو بعيدة عن استيعاب ما جرى، وها هي الشركات الكبرى الأميركية وحليفاتها من الشركات متعددة الجنسيات تستعد لكسب الغنيمة من العائدات المالية المرتقبة بعد التوصل إلى صنع لقاح ضد فيروس كورونا!

يتوقَّع العديد من خبراء المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات فيروس كورونا وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجددًا إلا بحلول عام 2031. 

واعتبر محللون في مؤسسة Goldman Sachs أن تداعيات الفيروس الجديد تدحض فرضية أن الاقتصاد الأميركي خالٍ من عناصر الركود كما كان شائعًا بحلول عام 2020. 

قبل أيام من حلول الذكرى الخامسة لثورة يناير المصرية، احتفلت هوليوود بفكرتها، عبر منح جائزة أفضل مسلسل في 2015 للمصري سام إسماعيل، مؤلف ومنتج “مستر روبوت“.

وعلى الموقع العربي لجوائز غولدن غلوبز، الذي تديره جمعية مراسلي هوليود، ورد أن المسلسل مستوحى من الثورة المصرية.

في الربيع العربي اتجه غضب الشعوب ضد الحكام، أما في أمريكا فيصب الشباب غضبه عادة على الشركات العملاقة التي تتمتع بنفوذ يفوق البيت الابيض والكونجرس، وهي تفرض سلطتها على المؤسسات الحكومية من خلال شراء دعم السياسيين، لتتحكم في قرارات سياسية تخدم مصالحها، على حساب الانسان البسيط.

البطل قرر أن “ينتقم للإنسان البسيط الذي لا حول له ولا قوة في النظام الاقتصادي المعاصر، أمام شركات ضخمة تستغله وتنهب أمواله من دون أن يعرف”، كما يضيف الموقع.

لا يتواصل إليوت مع محيطه، بل يوجه رسائله من العقل الباطن إلى المشاهد مباشرة.

عندما سألته الطبيبة النفسية عن سبب غضبه، ظل صامتاً، لكننا سمعنا صوته يخاطبنا بوضوح، محاولا الإجابة: “ربما لأننا نرى ستيف جوبز عظيماً، رغم علمنا أنه ربح الملايين من انحناء ظهور الأطفال في تجميع أجهزة أبل. ربما الشعور بأن جميع أبطالنا مزيفون، وأن العالم بأجمعه مجرد خدعة كبيرة. تواصلنا المزيف عبر المواقع الاجتماعية يمنحنا شعوراً واهماً بالحميمية. نحن نريد أن نكون مخدرين، لأن عدم التصنع مؤلم، ونحن جبناء. اللعنة على المجتمع”.

يرى إليوت، ومعه جماعة القراصنة السريين، أن الوقت قد حان أمام الشباب المعزول المظلوم ليغضب ويثور، وأن يكف عن لعب دور الروبوت المدرب على أداء أشياء لا يفهمها، تلقي بالمزيد من الأموال في خزائن الأغنياء، ولا يبقى للفقراء إلا الحلم بالجنة ونعيمها.

النظام العالمي الحديث قد دخل أزمة النهاية، وليس من المحتمل أن يمتد وجوده إلى أكثر من خمسين عامًا مقبلة.

في عام 1999 نشر عالم الاجتماع الأميركي إيمانويل فالرشتاين Immanuel Wallerstein نبوءته المخيفة عن "نهاية العالم كما نعرفه".

قال إن النسق العالمي الراهن الذي يتسم بحدة القمع واللامساواة والاستقطاب لن يدوم طويلاً، وأن العالم سيتجه ليكون أكثر ديمقراطية، لكن عبر صراع عالمي حول النسق العالمي الجديد.

العالم سيكون أكثر عنفاً من الحرب الباردة، مع تكهن بتزايد الاستقطاب الاقتصادي بين الشمال والجنوب، واستفزازات عسكرية بين الجنوب والشمال الذي سيجد صعوبة في الوقوف أمام ذلك المد.

الجيل الثاني من المهاجرين لن يتمكن من الاندماج الاجتماعي، وفي هذه الحالة ستعود أوروبا الغربية لأوضاع ما قبل 1848، عام صدور البيان الشيوعي. الأوضاع ستكون أكثر قسوة؛ فلم يعد هناك يقين بين الشعوب بأن التاريخ يقف إلى جانب التقدم، أو أن الديمقراطية ستحقق الرخاء والعدالة.

ما الذي يحشد الشعوب؟ 

يجيب فالرشتاين بأن ما يحشدهم ليس القمع، بل الأمل والإيمان بنهاية القمع نفسه.

لا توجد دولة مستقلة ولها سيادة حتى الولايات المتحدة ليست ذات سيادة بسبب هيمنة الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

كل هذا دفعه للتنبؤ بفشل النسق العالمي الحديث وكذلك الحضارة الرأسمالية.

الآن وسط مصاعب الانتقال التاريخي من نظام عالمي دام خمسة قرون إلى نظام آخر، مصاعب بوزن ثورات وحروب كبرى يمكن أن تندلع في أي وقت، هنا ليس بوسعنا التيقن من نوع النظام الذي سيخلف سابقه، فقط المعلوم علم اليقين في هذه اللحظة الراهنة أن هذا النظام الغريب الذي نعيش فيه، قد وصل إلى مرحلة لن يستطيع بعدها الاستمرار في أداء مهامه بعد الآن.

هذه الجائحة سوف تشكل نظاماً عالمياً جديداً، بحيث يتراجع تأثير وحضور الدول، وتتجه نحو الانكفاء الذاتي ونصبح أمام عالم منغلق وحبيس جغرافيته، عالم أقل نمواً وتواصلاً.

سوف يرشح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لا همينة ولا نفوذ، عالم يولي القيم الإنسانية وينشد الحماية الصحية والبيئية للبشرية قاطبة.

سوف تفقد الكيانات الاقتصادية الكبيرة تأثيرها وحضورها، وتنشغل بترميم أوضاعها الاقتصادية المنهارة بفعل الكساد. 

سيكون بمقدور الصين التعافى سريعاً وبسط نفوذها الاقتصادي على العالم وفرض واقعها الجديد عبر الجسور الصحية التي مدتها للعالم.

لن تستطيع أمريكا أن تبقى سيدة وحيدة متربعة على عرش العالم سياسياً، بعد الترنح الاقتصادي وضخ  أكبر حزمة مساعدات اقتصادية في تاريخها والتي تقدر بـ 2.2 تريليون دولار لمساعدة الأفراد والشركات في مواجهة التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي فيروس كورونا.

من سنوات كثيرة ترتفع الأصوات منادية بحاجة العالم إلى نظام اقتصادي ليس كالرأسمالية المنفلتة أو الاشتراكية الموجهة مركزيا.

الأحداث التي دفعت للبحث عن طريق ثالث هذا التفكير كثيرة.

انهيار النظام الاشتراكي في أوروبا الشرقية.

وتغير أسس العمل الاقتصادي في الصين باتجاه اشتراكية السوق، أي مزاوجة دور الدولة مع دور السوق.

ما أفرزته أزمة النظام الرأسمالي من تشكيك في أسس وثوابت النظام الرأسمالي والتي دفعت الدول الرأسمالية إلى اتخاذ خطوات أدت إلى تدخل الدول الرأسمالية في التأثير على القرار الاقتصادي بصورة مباشرة.

الطريق الثالث نظام اقتصادي يأخذ بالاعتبار احترام الملكية الخاصة ومصلحة المجتمع معا.

جاء فيروس كورونا ليُعلّم الإنسان ما لم يكن يعلم.

يقول الوباء لكل البشر، أيا كانت مواقعهم ومناصبهم وثراوتهم، إننا عالم واحد.

مصيرنا واحد.

والخطر علينا واحد.

كل الأسلحة النووية، والهيدروجينية، وقاذفات القنابل، والطائرات، وكل الجدران والحدود، لن تستطيع حماية طفل، أو رئيس، أو مسن واحد، من الإصابة بفيروس كورونا.

العقل يدعونا إلى حراك ثوري عالمي لإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية بما يضمن وضع مصلحة الإنسان وسلامة الكرة الأرضية فوق كل المصالح.

حراك يُنهي كل أشكال العنصرية، والتمييز، والتسلط السياسي في عالمنا.

ولا يجوز أن تمر تجربة الوباء العالمي القاسية دون دروس، فهي نتاج العولمة التي لا يمكن إعادتها إلى الوراء.