سقطت ورقة التوت!

علمانية فرنسا وعنصرية شرطتها.. القصة الكاملة!

"العلمانية لم تقتل أحداً!".. هكذا غرد إيمانويل ماكرون عام 2020 متباهياً بالعلمانية في فرنسا، ومؤكداً على أن ما يراه البعض عنصرية متجذرة في بلد "النور" تجنٍّ لا سند له!

فمن أين يستمد الرئيس الفرنسي كل تلك الثقة؟ إنه الدستور أيها السادة. نعم، فالدستور الفرنسي الحالي، والمعمول به منذ عام 1958 ينص على أن فرنسا دولة علمانية، وفي التفسير: الفصل التام بين الحياة الشخصية والحياة العامة، فالفرد في حياته الخاصة له مطلق الحرية في أن يعتنق ما يشاء ويؤمن بما يشاء دون تدخل من الدولة أو مؤسساتها في تلك الحرية. أما في الحياة العامة فالجميع، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الخلفية الثقافية، مواطنون فرنسيون متساوون في الحقوق والواجبات!

إذا كانت هذه هي المادة الأولى في الدستور الفرنسي، فلماذا أطلق أحد عناصر شرطة المرور الرصاص على صدر مراهق فرنسي من أصول جزائرية في السابعة عشرة من عمره ليرديه قتيلاً في الحال، لأن الفتى "نائل" لم يطع أمر الشرطي بإيقاف سيارته مباشرة؟

والدة "نائل"، الفتى الفرنسي، اعتبرت أن الشرطي "رأى وجهاً عربياً، طفلاً صغيراً، وأراد أن يقتله"! فالفتى من أصول جزائرية. هل يعني هذا أن فرنسا العلمانية تعاني من مشكلة عنصرية؟

ليس بالضرورة؛ إذ ربما يكون ما حدث تصرفاً فردياً لا يعكس الواقع الفعلي. ما السبب إذاً في أحداث الشغب والاحتجاجات العارمة التي اجتاحت فرنسا كرد فعل على مقتل "نائل" برصاص شرطي؟

هذه الأحداث، التي حملت تغطيتها عنواناً رئيسياً حول العالم هو "فرنسا تحترق"، اندلعت في يونيو/حزيران 2023، ويرى ماكرون وحكومته أن أطرافاً "مغرضة" تستغل الحادث لإشعال الأمور، ألا تبدو هذه "التبريرات" مألوفة بعض الشيء بالنسبة لنا في المنطقة العربية؟ "الطرف الثالث" هو من قتل المتظاهرين، هكذا تقال العبارة!

لكن هذه فرنسا، بلد "النور"، فكيف يحدث هذا هناك؟ الحقيقة هي أن هذه ليست المرة الأولى، إذ كانت فرنسا قد شهدت أحداثاً مماثلة في عام 2005، أما لماذا؟ فالسبب كان تعرّض مراهقين (زياد بينا 17 عاماً، وبونا تراوري 15 عاماً) للصعق بالكهرباء في أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة بعد نهاية مباراة كرة قدم، حيث لجأ المراهقان إلى محطة كهرباء فرعية في ضاحية كليشي سو بوا بباريس.

ولم تكن تلك أيضاً المرة الأولى، إذ شهدت ثمانينيات القرن الماضي حريقاً مماثلاً ولنفس السبب أيضاً: الشرطة تقتل مراهقين فرنسيين، من أصول أجنبية!

لماذا تتكرر تلك الحرائق في فرنسا بنفس الأطراف وبنفس الظروف وربما لنفس الأسباب؟ هذا هو السؤال الأهم في قصة عنوانها "العلمانية نظرياً والعنصرية تطبيقاً والشرطة أداة التطبيق الأولى"، فدعونا نروي القصة منذ بداياتها الأولى.

قصة العلمانية في فرنسا

ترجع جذور العلمانية إلى تاريخ قديم قدم الثورة الفرنسية ذاتها، حيث تعتمد الدولة الفرنسية نظاماً علمانياً تاماً، يعد جزءاً من إرث الثورة وفلاسفتها التنويريين، الذين نظّروا لفصل الكنيسة عن الدولة والمجتمع.

الثورة الفرنسية يعتبرها كثير من المفكرين والباحثين حول العالم واحدة من أهم الأحداث في التاريخ البشري المعاصر، وليس فقط في تاريخ فرنسا وأوروبا، ويرجع ذلك بالأساس إلى الأفكار والشعارات التي رفعها مفكرون وفلاسفة أصبحوا ملء السمع والبصر، من أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهم.

كان فولتير تحديداً، واسمه فرانسوا ماري أرويه، الملهم الأول للثورة الفرنسية، التي اندلعت عام 1789 واستمرت 10 سنوات، وذلك من خلال كتاباته الغزيرة وأفكاره الجريئة للغاية في ذلك الوقت. كانت فرنسا، شأنها شأن الدول الأوروبية في ذلك الوقت، عبارة عن سلطة ملكية وإقطاعية تتمتع فيها الكنيسة الكاثوليكية وطبقة الإقطاعيين بجميع الامتيازات على حساب باقي قطاعات المجتمع.

وهاجمت كتابات فولتير وغيره من المفكرين السلطة القائمة، الملك والحاشية الإقطاعية ورجال الكنيسة، مطالبة بحرية المعتقد وحرية الفرد بشكل عام والتوزيع العادل للثروات والامتيازات والمساواة بين المواطنين جميعاً، بغض النظر عن المعتقد أو العرق أو المكانة الاجتماعية. ومن خلال كتاباته الغزيرة وبكل الألوان الأدبية، من شعر ونثر ومسرحيات وروايات ومقالات وأبحاث في علم الاجتماع، شجع فولتير الناس على محاربة "السلطة" وانتزاع حريتهم وحقوقهم.

وبرز نجم ساطع للغاية في تلك الفترة من التاريخ الفرنسي هو نابليون بونابرت، الذي أصبح رمزاً للثورة الفرنسية، وخاض حروباً طاحنة في أنحاء أوروبا وحول العالم، وانتهى به المطاف مهزوماً ومنفياً. لكن الثورة الفرنسية نجحت في القضاء على الحكم الملكي والحد من سلطة الكنيسة، لتصبح فرنسا جمهورية وتتعدد تلك الجمهوريات وصولاً إلى الجمهورية الخامسة، التي بدأها شارل ديغول في أعقاب الحرب العالمية الثانية ولا تزال مستمرة.

ربما لا تعنينا كثيراً، في سياق الحديث عن علمانية فرنسا، تفاصيل تلك الفترة من التاريخ الفرنسي على غزارتها وتنوعها وكثرة محطاتها، بقدر ما يعنينا تشكل ذلك المفهوم نفسه، والذي تم تصديره إلى باقي أوروبا وحول العالم، حيث صدر عنه ميثاق يعتبره الكثيرون علامة فاصلة بل وناصعة البياض في التاريخ البشري الحديث، وهو ميثاق "الإنسان المواطن" الذي صدر عن الجمعية العامة في فرنسا في أغسطس/آب 1789، أي بعد 3 أشهر فقط من اندلاع الثورة واقتحام سجن الباستيل، أحد أبرز رموز العصر الملكي/الكنسي المظلم.

ألهمت الثورة الفرنسية كثيراً من الشعوب الأوروبية ووضعت ضربة البداية في إنهاء عصر الإقطاع والملكية وسيطرة الكنيسة، ليبدأ عصر جديد، قال عنه المؤرخ الفرنسي فرانسوا ألارد: "تألفت الثورة لقمع ما يعرف بالنظام الإقطاعي وتحرير الفرد وتوزيع عادل لملكية الأرض، وإلغاء امتيازات النبلاء وإنشاء المساواة وتبسيط الحياة... تختلف الثورة الفرنسية عن الثورات الأخرى في كونها ليست فرنسية فقط، بل تهدف إلى إفادة البشرية جمعاء".

وعلى الصعيد العالمي، ساهمت الثورة الفرنسية في تسريع صعود الجمهوريات والديمقراطيات، وأصبحت نقطة محورية لتطوير الأيديولوجيات السياسية الحديثة، كالليبرالية والاشتراكية وتمكين المرأة والعلمانية بطبيعة الحال، لتصبح "اللائكية" أو العلمانية باللغة الفرنسية رمزاً لحقوق الإنسان وتمكين المرأة والمساواة بين المواطنين وتحرير العبيد، وهي الأفكار الكبرى التي ألهمت حركات التحرر من العبودية والانتخابات وغيرها من أشكال العمل السياسي التي بدأت تتبلور في القرون التالية.

لكن هذه الصورة ناصعة البياض ربما تغفل كثيراً من الأمور الأخرى، التي يراها كثيرون "حالكة السواد" خلال نفس الفترة من التاريخ الفرنسي، وعلى أيدي نفس الأشخاص أيضاً.

الاستعمار الفرنسي وعنصرية الثورة

من الناحية النظرية البحتة، تمثل أفكار ومبادئ العلمانية الفرنسية بالفعل حلماً يتمناه البشر جميعاً داخل فرنسا وخارجها، فالمساواة وحرية المعتقد والتعبير قيم سامية يستحيل أن يشكك أحد في جدواها ومنفعتها، لكن ماذا عن التطبيق؟ كانت الثورة الفرنسية بداية لحشد موارد فرنسا وتنظيم حياة مواطنيها لتحقيق مفهوم الحرب الشاملة، حيث شن الفرنسيون حروباً متتالية داخل القارة الأوروبية وخارجها لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التوسع الاستعماري واستباحة موارد وحياة الشعوب الأخرى في إفريقيا وآسيا والعالم الجديد.

ويعتبر إرث الاستعمار الفرنسي هو الأكثر بشاعة على الإطلاق، بحسب أغلب المراقبين والمؤرخين الفرنسيين أنفسهم، لكن ما قد يمثل مفاجأة حقيقية للكثيرين في هذا الصدد هو إرث فيلسوف الثورة الفرنسية الأشهر نفسه. نعم، فولتير! فقد كان لافتاً للغاية أن يقوم متظاهرون ضد العنصرية، خلال صيف 2020، بتخريب وتلطيخ تمثال فولتير، وقيام جماعات مناهضة للعنصرية بكتابة عبارات مسيئة على صوره!

فقد كشف هذا الجدل، الذي تجدد بعد أكثر من قرنين ونصف من وفاة فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية، عن وجه آخر تماماً للرجل صاحب الأفكار التنويرية وصاحب فكرة العلمانية. إذ كان فولتير أحد المستثمرين في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي تأسست عام 1664 بهدف استغلال ثروات العالم الجديد (الأمريكتين)، وكان أحد أهم مجالات عمل الشركة هو تجارة العبيد الأفارقة الذين كان يتم اصطيادهم وبيعهم كسلع من أجل تحقيق الربح، وذلك بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "فولتير نشر الظلام وليس النور، وعلى فرنسا التوقف عن عبادته".

المدافعون عن الرجل برروا الأفعال المنسوبة إليه بأنه كان "ابناً لزمانه وعصره"، معتبرين أن فرنسا كان لديها الحق في التنافس مع القوى الاستعمارية الأخرى وخصوصاً بريطانيا، وأنه إذا كان هذا التنافس يعني أن يعمل فولتير ضمن نظام اقتصادي يتضمن استغلال العبيد من المستعمرات، فذلك يعتبر "عملاً وطنياً"!

بل إن فولتير نفسه كان يحب تعريف ذاته على أنه "الفيلسوف التاجر"، وكان غنياً يمتلك مالاً وفيراً، أظهرت الوثائق أنه، إضافة إلى أسهمه في شركة الهند الشرقية الفرنسية، استثمر أيضاً بشكل مباشر في سفن كانت تقوم بنقل العبيد من إفريقيا إلى العالم الجديد.

كان جدل تمثال فولتير وغيره من رموز فرنسا الاستعمارية حلقة جديدة من حلقات كشف الحقائق الغائبة، سواء فيما يتعلق بالتطبيق العملي لمبادئ العلمانية أو فيما يتعلق بمدى تطبيق أصحاب تلك المبادئ لها في حياتهم العملية. واللافت هنا أن الجدل الأخير، في صيف عام 2020، كان قد بدأ في العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية) عندما تعرض جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، للموت خنقاً تحت أرجل شرطي أمريكي أبيض، لتندلع مظاهرات عارمة تندد بعنصرية رجال الشرطة وتمتد إلى باقي أنحاء العالم الغربي تحت شعار "حياة السود مهمة".

ومن الطبيعي أن تثير هذه الحقائق عدداً من التساؤلات المفصلية فيما يخص أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية نفسها وعلى رأسها مبادئ العلمانية: هل كان المقصود بحرية وحقوق الإنسان المواطن "حرية وحقوق الإنسان المواطن الفرنسي الأبيض فقط" وليس جميع الناس/المواطنين على اختلاف عقائدهم وألوان بشرتهم؟ يبدو هذا السؤال قديماً، إذا ما تحدثنا عن جذور ونشأة العلمانية الفرنسية، لكنه في حقيقة الأمر "جديد ومتجدد"، في ظل ما تشهده فرنسا من أحداث دامية بدأتها رصاصة ذلك الشرطي التي أودت بحياة "نائل" الفرنسي من أصل جزائري!

وعلى الرغم من أن تاريخ فرنسا الاستعماري لا يزال يمثل جرحاً غائراً في أجساد ضحاياه، سواء في آسيا أم إفريقيا، إلا أن العنصرية هي الأخرى باتت تمثل علامة استفهام كبرى في بلد يتباهى، أكثر من غيره من الدول الغربية، بعلمانيته، التي تتناقض شكلاً ومضموناً مع مفهوم العنصرية. فالعلمانية، كما يقول الدستور الفرنسي، لا تعني فقط الفصل بين الدولة والدين، بل تعني ضمان حرية الفرد في المعتقد ما لم تمثل هذه الحرية تعدياً على المجتمع أو خطراً على الآخرين، لكن الحوادث المتكررة من استهداف عناصر من الشرطة الفرنسية "لمواطنين فرنسيين" بسبب عرقهم أو عقيدتهم تظل لغزاً إجابته معروفة لدى أي مراقب، باستثناء السياسيين الفرنسيين أنفسهم!

عنصرية الشرطة الفرنسية

لجنة الأمم المتحدة "للقضاء على التمييز العنصري" نددت بشدة بالسياسة الفرنسية حيال الأقليات، و"بعدم وجود إرادة سياسية" لديها لمواجهة ما تشهده من "تصاعد" للأعمال العنصرية!

ربما تبادر إلى الذهن أن هذه الفقرة أو هذا الخبر يتعلق بمقتل الفتى "نائل"، الذي تعرّض للقتل يوم 27 يونيو/حزيران 2023، برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير (بالضاحية الغربية لباريس) على خلفية عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية بالتوقف!

لكن حقيقة الأمر هي أن تنديد الأمم المتحدة بعنصرية فرنسا في التعامل مع الأقليات يرجع إلى شهر أغسطس/آب 2010، بحسب تقرير لموقع فرانس24 الفرنسي. نعم، التاريخ صحيح! إذ كان خبراء لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري قد وضعوا فرنسا في قفص الاتهام، منددين "بعدم وجود إرادة سياسية" لدى ما كانت توصف بأنها "بلد النور" لمواجهة ما يشهده من تصاعد  في الأعمال العنصرية. وجاء هذا التنديد في إطار الدراسة الدورية التي تجريها الهيئة الأممية للدول المصدقة على المعاهدة الدولية للقضاء على كل شكل من أشكال التمييز العنصري منذ عام 1965.

على الرغم من أن النقاشات في مثل تلك اللجان التابعة للأمم المتحدة تكون عادة تقنية وتتجنب توجيه انتقادات سياسية مباشرة بهذا الشكل، وبخاصة إلى دولة كفرنسا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وتعامل على أنها قوة عظمى، إضافة إلى سمعتها كحامٍ للعلمانية وأبرز مراكز حقوق حرية التعبير، إلا أنه في ذلك العام كانت الأمور مختلفة تماماً.

وقتها كان نيكولا ساركوزي رئيساً لفرنسا، وقبل تلك الاجتماعات الدورية الخاصة بلجنة مكافحة التمييز والعنصرية التابعة للأمم المتحدة، كان الرئيس الفرنسي قد أدلى بتصريحات علنية صادمة للغاية. فماذا قال ساركوزي؟ تعهد الرئيس الفرنسي بالعمل على تمرير قانون ينص على سحب الجنسية الفرنسية من المدانين بقتل شرطي أو المتزوجين من أكثر من زوجة (تعدد الزوجات)!

تصريحات الرئيس الأسبق لفرنسا، الذي يقبع حالياً تحت الإقامة الجبرية في منزله مرتدياً سواراً إلكترونياً بعد إدانته بالفساد والحكم عليه بثلاث سنوات سجن مع إيقاف التنفيذ، جاءت في سياق أحداث شغب كانت فرنسا قد عاشتها في يوليو/تموز 2010 اندلعت بعد أن قتلت الشرطة شاباً في أحد الضواحي قالت إنه كان لصاً مسلحاً. وخلال أحداث الشغب قتل شرطي وأدين 3 أشخاص بقتله في محاكمة سريعة.

تراجع ساركوزي لاحقاً عن جزء من تصريحاته، وقال إنه سيعمل على إقرار قانون "سحب الجنسية" من أي شخص يعتدي على رجال الشرطة، متراجعاً عن الجزئية الخاصة بتعدد الزوجات، وذلك بعد أن أثارت تصريحاته سيلاً من الانتقادات العنيفة داخل فرنسا وخارجها، من جانب المنظمات الحقوقية والقانونية.

وبالعودة إلى لجنة مكافحة التمييز والعنصرية في الأمم المتحدة، نجد أن الانتقادات العنيفة للغاية والواضحة تماماً بشأن "عدم وجود إرادة سياسية" لدى باريس لمكافحة العنصرية، جاءت بعد نحو 5 سنوات من أحداث شغب واضطرابات عنيفة للغاية في أنحاء فرنسا، على خلفية مصرع مراهقين حاولا الهرب من رجال الشرطة في أعقاب مباراة كرة قدم واختبآ في محطة كهرباء مهجورة فصعقتهما الكهرباء.

وقتها شاهد العالم ما يشاهده اليوم، خلال 2023، من حرق لمقار الشرطة والمباني الحكومية في الأحياء أو الضواحي، على خلفية مقتل "نائل" برصاص الشرطة. ووقتها تعهدت الحكومة الفرنسية بمعالجة مشكلة العنصرية لدى الشرطة، لكن ذلك لم يحدث، وخرج الرئيس الأسبق ساركوزي داعياً لإقرار قانون ينص على "سحب الجنسية" من أي شخص يعتدي على رجال الشرطة!

دعونا نقفز للأمام إلى الأحداث التي اندلعت في أعقاب مقتل "نائل"؛ إذ إن الملاحظ في الأزمة الحالية هو التغيير الواضح في تصريحات وأداء ماكرون نفسه، من التنديد بجريمة مقتل "نائل" واعتبارها "جريمة لا تُغتفر، ولا يمكن تبريرها" في الساعات الأولى بعد وقوعها، إلى اعتبار الاحتجاجات "استغلالاً سياسياً" للأزمة، ثم التركيز على "التنديد بأعمال العنف" واتخاذ موقف "صارم" لمواجهتها.

ويشير هذا التحول إلى النهج الذي تسير عليه الحكومة الفرنسية والرئيس ماكرون في التعامل مع جريمة مقتل "نائل"، وهو ما يراه كثير من المحللين قفزاً على السبب الحقيقي وراء تكرار تلك الجرائم، وهو العنصرية المتجذرة في تعامل الكثير من أفراد الشرطة الفرنسية مع المواطنين، وهو التعامل الذي يقوم بالأساس على اللون أو العرق.

فجماعات حقوقية كثيرة، داخل فرنسا وخارجها، تؤكد وجود "عنصرية ممنهجة" داخل أجهزة إنفاذ القانون في فرنسا، لكن ماكرون ينفي ذلك، علماً بأن الحكومة الفرنسية كانت قد تعهّدت في عام 2020 "بعدم التهاون" مع العنصرية داخل أجهزة إنفاذ القانون.

جان لوك ميلنشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" وجّه انتقادات لاذعة لما وصفه بأنه "تصعيد أمني" للحكومة، في إشارة إلى الوسائل الكبيرة التي اعتمدتها لإخماد أعمال الشغب، وقال ميلنشون إن "التصعيد الأمني يؤدي إلى الكارثة".

خالد الغرابلي، المحلل السياسي في قناة فرانس 24، يرى أن أحد الأسباب وراء التصعيد الخطير الذي يشهده الموقف الحالي في فرنسا هو "عدم ثقة الشباب الغاضبين في تصريحات الحكومة"، مضيفاً أن ما يعيشه "هؤلاء المراهقون والشباب على أرض الواقع يختلف تماماً عن تصريحات ماكرون والحكومة".

وقارن الغرابلي بين ما حدث عام 2005 وما يحدث اليوم في 2023، موضحاً أن "الوضع اليوم أسوأ فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرطة وأبناء الضواحي، حيث راح شاب عمره 17 عاماً ضحية لرصاص الشرطة"، مشيراً إلى أن التصريحات الأولى الصادرة عن المسؤولين سعت إلى "تبرئة الشرطي" لولا أن الواقعة كانت موثقة بالفيديو.

إذ كانت الحكومة الفرنسية قد أدخلت، عام 2017، تعديلات على قانون المرور يسمح لرجال شرطة المرور بإطلاق النار. ومقتل "نائل" يعد ثالث حالة قتل على يد الشرطة خلال العام الجاري في حوادث توقيف مروري، بينما شهد عام 2022 حوالي 13 حالة قتل من هذا النوع، ومعظم ضحايا هذه الحوادث كانوا من أصول عربية أو سوداء، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.

وبعد مقتل "نائل"، قال مراهق فرنسي يُدعى محمد من ضاحية كليشي لموقع ميديابارت الفرنسي: "كان يمكن أن أكون أنا، أو أخي الصغير، الضحية"، إذ إن جريمة مقتل "نائل" جديدة لكن المأساة المتكررة دوافعها واحدة بإجماع المراقبين، وهي العنصرية المتفشية بين رجال الشرطة في فرنسا.

الشرطة الفرنسية "خط أحمر"!

في سياق مقتل "نائل"، أعربت الأمم المتحدة، مرة أخرى، عن قلقها إزاء مقتل المراهق الفرنسي على يد الشرطة الفرنسية، وحثت حكومة البلاد على معالجة "قضايا العنصرية العميقة" في أجهزة إنفاذ القانون. وقالت رافينا شامداساني، الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في مؤتمر صحفي عقدته بمدينة جنيف السويسرية: "حان الوقت لفرنسا للتعامل بجدية مع قضايا العنصرية العميقة والتمييز في أجهزة إنفاذ القانون". وأضافت أنه "يجب فتح تحقيق في أسرع وقت بجميع مزاعم استخدام القوة المفرطة خلال الاحتجاجات في فرنسا".

وشددت المسؤولة الأممية على أهمية التجمع السلمي على خلفية مقتل الشاب، كما دعت السلطات الفرنسية إلى ضمان أن استخدام القوة من قبل الشرطة "يحترم دائماً مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب وعدم التمييز والمساءلة".

الخلاصة في هذه النقطة هي أن العنصرية في تعامل الشرطة الفرنسية مع المواطنين على أساس اللون والعرق هي السبب وراء ما تشهده فرنسا من احتجاجات غاضبة وأعمال شغب وحرق منشآت، لكن ماكرون وحكومته قرروا التعامل مع الموقف "أمنياً" عوضاً عن السعي إلى معالجة جذور المشكلة كما تطالب المنظمات الحقوقية، في تكرار للموقف الرسمي نفسه كلما أطلقت الشرطة الرصاص وأودت بحياة شخص فرنسي قد يكون ذنبه الوحيد هو أنه مهاجر ولو كان حتى من الجيل الرابع للمهاجرين.

فالتساؤلات نفسها مطروحة منذ فترة طويلة بخصوص حالة الشرطة الفرنسية وعجز الحكومات المتعاقبة عن إصلاح هذه المؤسسة المرتبطة بنقابات شرطية قوية. وفي بلد يعاني من اندلاع موجات منتظمة من الاضطرابات التي غالباً ما تؤدي لإطلاق دعوات لقمع مثيري الشغب، يتكرر الأمر ولا أحد يجرؤ على توجيه انتقادات للشرطة.

لكن الخبراء يقولون إن السلطات لم تعد قادرة على غض الطرف عن اتهامات الجماعات الحقوقية بتفشي العنصرية داخل جهاز الشرطة والتصنيف العرقي والقضايا المتعلقة بالتجنيد والتدريب وعقيدة الشرطة ذاتها. وهذا ما عبر عنه المؤرخ الفرنسي، سيدريك ماس، فكتب على تويتر: "الشيء الثابت هو رفض القوى السياسية العمل على أحد عوامل هذا الخليط المتفجر، وهو الشرطة".

وعلى الرغم من أن دولاً أخرى، منها بريطانيا والولايات المتحدة، قد اعترفت بضرورة التعامل على مكافحة العنصرية في صفوف رجال الشرطة، وبدأت بالفعل في اتخاذ بعض الإجراءات في ذلك الاتجاه، إلا أن فرنسا ترفض الاعتراف بأن العنصرية تلعب دوراً في أعمال الشغب أو الاحتجاجات التي تندلع كل فترة.

وقدمت فرنسا نحو 30 تشريعاً بخصوص الجوانب القانونية والنظام في العقدين الماضيين، لم يتضمن أي منها إصلاحاً لقوات الشرطة، منذ الإصلاح الذي جرى عام 1995 ونتج عنه إعطاء نقابات الشرطة سلطات إدارة مشتركة واسعة النطاق، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت النقابات مشاركة في كل شيء يمكن إدارته بصورة مشتركة، بما في ذلك إدارة الموارد البشرية. والنتيجة الملموسة في السنوات التالية هي إبرام اتفاقيات بين النقابات وعدد من وزراء الداخلية.

هذه السلطات الواسعة التي تتمتع بها نقابات الشرطة في فرنسا تضمن ولاء ضباط الشرطة على الأرض، وتجعلهم يدينون بترقيهم الوظيفي للنقابة التي ينضمون لها، ما يعطى قادة هذه النقابات نفوذاً هائلاً على وزراء الحكومة. وبالتالي، فإن وزراء الحكومة الفرنسية الذين حاولوا إصلاح جهاز الشرطة وإضفاء مزيد من الاستقلالية على عمل هيئة مراقبة جهاز الشرطة (آي.جي.بي.إن) فعلوا ذلك على مسؤوليتهم.

ففي يونيو/حزيران 2020، أعد وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير خططاً لإصلاح الشرطة، وشمل ذلك حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال، وإصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة، وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقاً مع العنصرية داخل الجهاز، لكن نقابات الشرطة تدخلت وتم رفض تلك الخطط، بل وتم إعفاء كاستانير من منصبه ليحل محله جيرالد دارمانان في يوليو/تموز 2020. فرانك لوفرييه الذي كان يشغل منصب مستشار الاتصالات للرئيس الأسبق ساركوزي عندما كان وزيراً للداخلية قال لرويترز: "إما أن تدعم الشرطة أو تواجه مشكلات"!

اليمين المتطرف في فرنسا!

ربما يكون تمتع النقابات الشرطية في بلد ديمقراطي مثل فرنسا بكل هذه السطوة أمراً غريباً للغاية، ففي نهاية المطاف، نحن نتحدث عن فرنسا وليس عن دولة سلطوية أمنية يحكمها فرد أو حزب واحد، فأين المؤسسات والهيئات الحقوقية والرأي العام مما يحدث طوال هذه السنوات؟ ولا نتحدث هنا عن تاريخ فرنسا القديم، بل عن العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل، حيث تكررت حوادث القتل بالرصاص أو بالخنق أو غيرها على أيدي أفراد من الشرطة، ما تسبب في اضطرابات عارمة أساءت وتسيء لصورة ما كانت توصف يوماً بأنها "بلد النور"!

لكن كما يقول المثل العربي الشهير إذا عرف السبب بطل العجب! والسبب في تفشي وانتشار العنصرية، سواء في حالة فرنسا خصوصاً أم الدول الغربية عموماً، هو الصعود الصاروخي لتيار اليمين المتطرف، ما أدى إلى مستويات مرتفعة من التأييد باتت تحظى بها أحزاب اليمين المتطرف وما تروج له من أفكار شعبوية متشددة، تركز بالأساس على كراهية المهاجرين ورفض اعتبارهم مواطنين، حتى لو كان الحديث هنا عن الجيل الرابع.

فالسمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء أكانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أم أخرى معارضة لها، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة "أصلية" من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة.

وتشترك جماعات اليمين المتطرف في بعض السمات الرئيسية، كالنزعة القومية، أو ما يمكن وصفه بالشعور بأن بلداً ما وشعب هذا البلد أرقى من غيره. ولدى تلك الجماعات شعور قوي بالهوية الوطنية والثقافية إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يشكل تهديداً على تلك الهوية، ومن ثم فإنها ترفض فكرة التنوع.

وعلى الرغم من أن الأفكار القومية كانت دائمة الحضور في السياسة الأوروبية، إلا أنه في فرنسا تحديداً، يمثل صعود هذا التيار وتحكمه في توجهات السياسة تناقضاً صارخاً مع قيم العلمانية التي يتباهى بها الساسة الفرنسيون، فالعلمانية كما أسلفنا في تعريفها، بحسب الدستور الفرنسي، تفسح المجال أمام حرية الفرد في ممارسة معتقداته الدينية والفكرية دون تدخل من الدولة ومؤسساتها، أو هكذا يفترض أن تكون الأمور!

فالنموذج العلماني الشامل في الحكم في فرنسا، وإن كان يكفل حريّة المعتقد لجميع المواطنين، إلا أنّه يقارب الإسلام تحديداً كجسم "غريب"، والمسلمين كـ"ضيوف مؤقتين"، حتى وإن كانوا أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.

وتجلى ذلك في مواقف وخطابات ماكرون نفسه، وأشهرها موقفه من نشر الرسوم المسيئة لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي يعتبرها الرئيس الفرنسي "حرية تعبير" رغم أن الرأي الغالب في أوروبا وفي جميع الأعراف والقوانين الدولية يؤكد على أن إهانة الرموز الدينية لا تندرج تحت حرية التعبير، كما عبر بابا الفاتيكان نفسه عن رفضه لاعتبار تلك الرسومات المسيئة أو إحراق نسخ من القرآن الكريم حرية تعبير.

ثم جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي حول ما وصفها بالانفصالية الإسلامية لتثير مزيداً من الغموض حول علمانية فرنسا المزعومة، فهل تلك العلمانية "ذات خصوصية ثقافية مسيحية؟".

الأمر الآخر المثير للدهشة حقاً هو هذا الإصرار الرسمي في فرنسا على عدم الاعتراف بوجود أقليات، إذ لا تتعامل فرنسا بحسب لون البشرة، وتحدّ تماماً من استخدام الإحصاءات العرقية، وهو ما يجعل من الصعب الحصول على بيانات توضح أسباب الاستياء المنتشر بين الأقليات العرقية حول استهدافهم من الشرطة والتمييز العنصري ضدهم.

لكن الأدلة على هذا التمييز العنصري من جانب أفراد الشرطة تجاه الأقليات الفرنسية ذات الأصول غير الأوروبية متواترة وكثيفة ويستحيل إنكار وجودها. ففي حكم مهم، ذكرت محكمة الاستئناف في باريس عام 2021 أن "التمييز" كان وراء عمليات الشرطة للتحقق من هوية ثلاثة من طلاب المرحلة الثانوية، وهم مواطنون فرنسيون تعود أصولهم إلى المغرب ومالي وجزر القمر، في أثناء وجودهم بمحطة للقطارات في باريس في عام 2017، وقررت المحكمة في ذلك الوقت منح تعويض لكل منهم بلغ 1500 يورو، إضافة إلى الرسوم القانونية.

لكن تظل مثل هذه الأحكام نادرة، وتقول جماعات حقوقية إن أفراد الشرطة غالباً ما ينتهي بهم الأمر بالتعرض لعقوبات خفيفة، ما يغذي الشعور بالحصانة. عالم الاجتماع سيباستيان روش، رئيس تحرير مجلة (بوليسنج آند سوسايتي) "الشرطة والمجتمع"، قال لرويترز في هذا السياق: "ما نراه هو أن من الصعب على القضاة إصدار قرارات بسجن أفراد الشرطة. ولا يمثل ذلك حالة تنفرد فرنسا بها؛ إذ إنه توجد صعوبات في إدانة ومعاقبة فرد الشرطة أيضاً في الولايات المتحدة ودول الشمال".

المهاجرون يدفعون الثمن!

الصورة إذاً تبدو واضحة إلى حد كبير، أليس كذلك؟ من ناحية تصر فرنسا الرسمية على إنكار وجود الأقليات على أساس أن جميع "الفرنسيين" متساوون أمام القانون، لكن من ناحية أخرى تشير الأحداث والحقائق إلى أن العنصرية تجاه أي مواطن فرنسي غير أبيض في ارتفاع مخيف، وأن التصرف التلقائي من جانب أفراد الشرطة يقوم على أساس تمييزي بحت.

فالدعوات لطرد المهاجرين لا تتوقف، واستهدافهم بالقوانين التمييزية مستمر ويزداد، ولا نتحدث هنا عن الطامحين في الهجرة إلى فرنسا، بطرق شرعية أو غير شرعية، بل نتحدث عن مواطنين فرنسيين ولدوا وعاشوا حياتهم كلها في فرنسا وينتمون للجيل الثالث أو الرابع لأجداد هاجروا أو "جلبتهم" فرنسا نفسها من بلدانهم الأصلية، وربما لم يزر بعضهم بلدانهم الأصلية على الإطلاق ولا يعرفون شيئاً عنها.

وحتى في قلب أحداث الشغب التي تهز الضواحي التي يقطنها أبناء الطبقة العاملة المختلطة عرقياً في محيط المدن الفرنسية، توجّه جماعات حقوقية منذ وقت طويل اتهامات للشرطة بالعنصرية الممنهجة، لكن الحكومات الفرنسية المتعاقبة ترى القصة من منظور مختلف تماماً.

فعندما تسبب فيديو تم تصويره لشرطي فرنسي وهو يجثم بركبتيه على صدر مواطن فرنسي أسود ويخنقه، في اندلاع تظاهرات حاشدة ومطالبات بكبح جماح الشرطة ومعاقبة العنصريين من أفرادها، ماذا كان رد الفعل؟ الدفع بقانون "الأمن الشامل" الذي يجرّم في أي بنوده "تصوير أفراد الشرطة" أثناء قيامهم بعملهم! ورغم الاحتجاجات المنددة بمشروع القانون، الذي قدمته حكومة ماكرون الحالية، إلا أن المساعي قائمة على قدم وساق لتمريره.

وفي السياق ذاته، ارتبط ارتفاع عمليات إطلاق النار المميتة برصاص الشرطة خلال السنوات القليلة الماضية بإصلاح قانون عام 2017، الذي نصّ على توسيع الظروف التي يمكن فيها للشرطي استخدام سلاحه الناري. ودخل القانون حيز التنفيذ في أعقاب هجوم كان متطرفون إسلاميون قد نفذوه في نيس عام 2016. ويسمح القانون لأفراد الشرطة بإطلاق النار إذا اعتقدوا أنه "من المرجح" أن يتسبب السائق في إلحاق أذى بالناس، وبالطبع يمثل هذا النصّ منطقة رمادية تماماً تعطي لأفراد الشرطة، المتهمين أصلاً بالتمييز والعنصرية، مجالاً أوسع للانتقائية وإطلاق الرصاص على من يشاؤون.

ونقلت رويترز تصريحات لرجل شرطة يدعى كايل، من الجناح اليساري بنقابة الشرطة (سي.جي.تي)، قال فيها إن "الأمر غير واضح تماماً ويسمح بحرية أكبر عند إطلاق النار"، مضيفاً: "يتعين إلغاء قانون 2017".

لكن حقيقة الأمر هي أن العنصرية في فرنسا ليست حكراً على عناصر الشرطة، فبعد أن اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، اتخذت السلطات الفرنسية في إقليم إيسون ومنطقة بانتان قراراً بطرد اللاجئين غير الأوروبيين من مراكز الإيواء لإخلاء المكان لاستقبال لاجئين من أوكرانيا، بحسب تقرير للمرصد اليورومتوسطي لحقوق الإنسان منشور في أبريل/نيسان 2022. كما ذكرت تقارير أخرى أن 50 لاجئاً من غينيا ومالي وأفغانستان أُبلغوا بطردهم قريباً من مراكز الإيواء دون حق الاعتراض لإفساح المجال للاجئين الأوكرانيين!

هذه الأحداث المتكررة والمتنوعة تكشف مدى عمق مشكلة العنصرية في فرنسا، على الرغم من الإنكار الرسمي ودفن الرؤوس في الرمال. إذ رصد تقرير لصحيفة The Telegraph البريطانية نسبة الأقليات غير البيضاء في فرنسا، والتي تتراوح بين 10 و20%، وهذا التفاوت الكبير في النسبة يرجع بطبيعة الحال إلى عدم وجود سجلات رسمية فرنسية في هذا الصدد، لكن البيانات الرسمية عن بلد الميلاد تكشف أن حوالي 10.5% - أو 6.9 مليون شخص- ولدوا خارج فرنسا، منهم 5 ملايين من خارج أوروبا، ومعظمهم من أصل إفريقي.

أما عن التمثيل السياسي للأقليات، فلا يشكل أعضاء البرلمان الفرنسي المنتمين للأقليات سوى 6% فقط، كما لا يحتل أياً من المناصب الفرنسية الأربعة الكبرى -رئيس الوزراء، ووزير المالية، ووزير الخارجية، ووزير الداخلية- شخصاً ينتمي للأقليات. وفي عام 2019، أظهر استطلاع أُجري بتكليف من هيئة التمييز التابعة للحكومة الفرنسية أن 42% من المسلمين يشعرون بأنهم يتعرضون للتمييز، وخصوصاً في مكان العمل والسكن.

كما وجدت دراسة حديثة عن مجموعة تمثل السود الفرنسيين أن 91% منهم شعروا بتعرضهم للتمييز في مرحلة ما، وقال قرابة نصف من شملهم الاستطلاع (49%) إنهم تعرضوا لشكل من أشكال الإساءة اللفظية خلال الدراسة، لكن ماكرون وحكومته والمسؤولين في فرنسا لا يعترفون بوجود مشكلة عنصرية وتمييز في بلدهم!