الأكاذيب الـ 6

كيف تفننت ماكينة "الهاسبارا" الإسرائيلية في اختلاق الأكاذيب المؤسِّسة لحرب الإبادة على غزة بعد السابع من أكتوبر؟

عربي بوست

"في إسرائيل تعتبر الأكاذيب صناعة، وهي سلعة رائجة للغاية، وأي شخص يريد أن يقول فيها الحقيقة، سيعتبر جزءاً من صانعي الاكتئاب المثبطين للشعب".

هذا ما قاله حاييم ليفينسون، الكاتب الإسرائيلي بصحيفة هآرتس في مقالة له في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، والذي أصاب في وصف أكثر صناعة يبرع فيها رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وطاقم حكومته والمتحدثون باسم جيش الاحتلال، وهي صناعة الكذب والتضليل التي تجلت في معركة "طوفان الأقصى"، حيث ساق الاحتلال العديد من الكذبات للعالم خلال حرب الإبادة التي يشنها على القطاع؛ كي يكسب حالة من التعاطف والدعم ويبرر جرائمه، ويقنع ذاته بأنه منتصر بعد الفشل الاستخباراتي والعسكري المدوي الذي أصابه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الأمر الذي وصفه ليفينسون في مقاله بأنه أمر يشبه "رش العطور على الهراء".

في هذا التقرير المطول، يرصد "عربي بوست" أبرز الكذبات الإسرائيلية التي روجتها ماكينة "الهاسبارا" الإسرائيلية للعالم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وثبت زيفها، بعدما تورطت دول وحكومات في تبنيها على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وتلقفتها وسائل الإعلام الغربية، في فضيحة مدوية كشفت للعالم السقوط الأخلاقي لهذه الوسائل والمنصات، وحتى للحكومات الغربية التي تمولها.

1- تقطيع رؤوس الأطفال

بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول مباشرة روجت وسائل إعلام إسرائيلية لكذبة، مفادها أن مجموعات من عناصر المقاومة الفلسطينية قامت بقطع رؤوس نحو 40 طفلاً إسرائيلياً في مستوطنات غلاف غزة. وهو الادعاء الذي سرعان ما تبناه دون أي تحقق، الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي ردده بخطابه في الـ10 أكتوبر/تشرين الأول، قائلاً: "إنه اطلع على تقارير تؤكد ذلك"، لكن البيت الأبيض نفى لاحقاً مشاهدة بايدن صور هؤلاء الأطفال بنفسه، مؤكداً أنه سمع عنها فقط من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

لاحقاً أثبتت عدة تحقيقات صحفية عربية وأجنبية زيف ذلك الادعاء الإسرائيلي بالكامل وعدم استناده إلى أي دليل صلب، ليتراجع البيت الأبيض عن تصريحات الرئيس بايدن، حيث قالت وسائل إعلام أجنبية نقلاً عن صحيفة "واشنطن بوست"، إن متحدثاً باسم البيت الأبيض أكد أنه "لا الرئيس بايدن ولا أي مسؤول أمريكي رأى أي صور، أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل"، مضيفاً أن تصريحات بايدن بشأن الفظائع المزعومة استندت إلى مزاعم مسؤولين إسرائيليين في حكومة نتنياهو وتقارير إعلامية محلية. سرعان ما انهارت السردية الصهيونية حول هذه القصة التي ضجت بها وسائل الإعلام الغربية والعالمية.

بعد نحو شهرين، وفي مطلع ديسمبر/كانون الأول، فنّدت صحيفة هآرتس العبرية كأول وسيلة إعلام إسرائيلية تفعل ذلك، ما روّجته تل أبيب عن مزاعم قطع رؤوس الأطفال أو حرق جثثهم، مؤكدةً أن "تلك الرواية غير صحيحة ولا أساس لها في الواقع"، وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "روّج لهذه الأكاذيب في لقاءاته مع الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن".

وتناول تحقيق الصحيفة الروايات التي روجتها مؤسسات حكومية ومسؤولون كبار في إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وكذلك وسائل إعلام غربية مثل "نيويورك بوست" و"ديلي ميل" وغيرهما. وقالت إن ما جرى في ذلك اليوم أدى إلى انتشار قصص رعب لم يحدث أي منها على أرض الواقع، مشيرة إلى أنَّ "بعض هذه الادعاءات قد تبيَّن أنه لا أساس لها من الصحة، حيث أقر جيش الاحتلال بأن إحدى هذه القصص المكذوبة، انتشرت بناءً على مزاعم أدلى بها جندي إسرائيلي واحد على الأقل".

الصحيفة أشارت إلى أن مثل هذا الوصف ظهر في تقرير لشبكة إسرائيل 24، "حيث تقول إحدى المراسلات إن أحد القادة الميدانيين أخبرها بأن ما لا يقل عن 40 طفلاً قُتلوا، وأن الإرهابيين قطعوا رؤوس بعضهم"، وفق مزاعم التقرير.

وأضافت "هآرتس": "أفادت إسرائيل 24 بأن تقارير الفظائع وتقدير الأعداد استندت إلى شهادات الضباط الذين نقلوا الجثث في المستوطنات المحيطة، وتم جمعها خلال جولة للصحفيين الأجانب أجراها متحدث الجيش الإسرائيلي بعد 4 أيام من اندلاع الحرب… كما تكررت أرقام مماثلة في شهادات أعضاء فرق الإنقاذ الإسرائيلية (زكا)، وقد نُقل هذا الوصف لاحقاً على وسائل التواصل الاجتماعي".

الصحيفة العبرية أشارت أيضاً إلى أنه في بعض الأحيان يتم تغيير القصة إلى جثث الأطفال المحروقين أو جثث الأطفال المعلقين على الحبل. وقالت: "على سبيل المثال، نشرت القناة الرسمية لوزارة الخارجية شهادة المقدم جولان فاش من قيادة الجبهة الداخلية، والتي جاء فيها أنه عثر على جثث 8 أطفال محترقة في أحد المنازل".

وأضافت: "كما أشار الحساب التابع لمكتب رئيس الوزراء على منصة إكس إلى مقتل أطفال رضع، عندما نشر صوراً شديدة الخطورة وكتب: هذه صور مرعبة لأطفال قتلوا وأحرقوا على يد وحوش حماس، كما جاء في التغريدة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عرض الصور على وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن". لكن "هآرتس" خلصت إلى أن هذه الأوصاف غير صحيحة في الواقع.

وأكدت الصحيفة أنه "حتى يومنا هذا، لا يوجد مشهد معروف تم فيه اكتشاف أطفال من عدة عائلات قتلوا معاً. وهذا يدل على أن وصف نتنياهو في حديثه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأن إرهابيي حماس أخذوا عشرات الأطفال وقيدوهم وأحرقوهم وأعدموهم، لا يطابق الصورة الواقعية".

اللافت في رواية "قتل الأطفال وقطع رؤوسهم" هو أنه حتى جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسه خرج بتصريحات نفى فيها وجود "معلومات تؤكد ذلك لديه"، لكن الإعلام الغربي الذي تبنى تلك الرواية بكثير من الدراما والبكائيات، وخصص لها ساعات من التغطيات والبث المتواصل، لم يكلف نفسه عناء نفيها لاحقاً، رغم أنه في زمن التضليل الإعلامي، ربما لا يكون للنفي تأثير يُذكر على الرأي العام الغربي.

2- مجزرة "حفلة رعيم"

في صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قالت الشرطة الإسرائيلية إن مقاتلين من كتائب القسام وخلال عبورهم إلى مستوطنات غلاف قطاع غزة، نفذوا هجوماً مميتاً على مهرجان "سوبر نوفا" الموسيقي الذي كان يقام بالقرب من كيبوتس "رعيم"، حيث زعم الاحتلال أن مقاتلي القسام هبطوا بطائرات شراعية وقتلوا وأعدموا ما لا يقل عن 260 من رواد المهرجان، فيما أصيب مئات آخرون.

لكن ما ثبت بعد ذلك وبحسب صحيفتي يديعوت أحرونوت وهآرتس الإسرائيليتين، وموقع استقصائي أمريكي آخر هو (TRNN)، هو أن الاحتلال قتل أعداداً كبيرة من مواطنيه خلال تلك العملية، فيما يبدو أنه توجيه عسكري إسرائيلي يسمى توجيه هانيبال. وتحدثت التقارير عن قيام قوات الاحتلال خلال عملية طوفان الأقصى بقصف أهداف ومواطنين إسرائيليين وضمن ذلك معبر إيرز كيبوتس بئيري، ومهرجان نوفا الموسيقي.

وكشف التقريران لأكبر صحيفتين في إسرائيل، أن مروحيات عسكرية إسرائيلية فتحت النار على مسلحين فلسطينيين ولكنها أصابت إسرائيليين كانوا يشاركون في المهرجان. وقالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن هذا ظهر من تقييم أمني ​​إسرائيلي استند إلى تحقيق أجرته الشرطة مع مقاتلي حماس الذين اعتقلوا في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وبحسب التقييم، فإن مقاتلي حماس لم تكن لديهم معلومات مسبقة عن المهرجان الذي أقيم بالقرب من كيبوتس رعيم، بالقرب من الحدود مع غزة، لأن الحفل تم تمديد موعده قبل الهجوم بفترة قليلة، حسبما تعتقد الشرطة الإسرائيلية.

وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية قد تحدثت أيضاً عن هجوم مروحيات الجيش الإسرائيلي على الحفل. وذكرت الصحيفة أن القوات الإسرائيلية "وجدت صعوبة في التعرف على مقاتلي حماس"، مضيفةً أن طياري المروحيات "استخدموا المدفعية" ضد المدنيين في المهرجان.

وقالت الصحيفة: "لقد صدرت تعليمات لمقاتلي حماس بالاندماج ببطء مع الحشود وعدم التحرك تحت أي ظرف من الظروف. بهذه الطريقة، حاولوا خداع سلاح الجو الإسرائيلي وجعله يعتقد أنهم كانوا إسرائيليين. نجح هذا الخداع لبعض الوقت".

التقرير أضاف أن "الطيارين وجدوا صعوبة في التمييز بين مقاتلي حماس والإسرائيليين".

ولكن اللافت في تقرير الصحيفة، قولها إنه "بعد كشف الخدعة اضطرت مروحيات أباتشي إلى التحرر من كل القيود".  يؤشر ذلك إلى احتمال أن القوات الإسرائيلية كانت تعلم بأن مقاتلي حماس اندسوا داخل الحشود الإسرائيلية وقصفت هذه الحشود عمداً بما فيها من إسرائيليين وفلسطينيين.

وقالت الصحيفة إنه "عندما أدركوا ذلك، قرر بعضهم استخدام القذائف المدفعية ضد مقاتلي حماس بشكل مستقل، دون الحصول على إذن من رؤسائهم". وقدرت الشرطة عدد القتلى في المهرجان بـ364 شخصاً، لكنها لم تكشف عن هوياتهم، وليست هناك تقديرات إسرائيلية بشأن عدد من قتلهم الاحتلال من الإسرائيليين من هذا العدد، ولكن هناك مؤشرات على أن أغلبهم قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي.

شهادات توثق ما فعله الجيش الإسرائيلي بحفل رعيم

في الشهادات التي نشرت بعد ذلك، قالت الإسرائيلية ياسمين بورات (44 عاماً)، التي قبض عليها من قبل مقاومي حماس لفترة خلال "طوفان الأقصى"، إن مدنيين إسرائيليين قُتلوا "بلا شك" على يد الجيش الإسرائيلي، وذلك في حديث إذاعي لها ببرنامج "هذا الصباح" الذي يقدمه الصحفي الإسرائيلي أرييه جولان في "راديو إسرائيل".

وشاهدت ياسمين بورات شريكها، الذي قيّد آسروها الفلسطينيون يديه، يتعرض لإطلاق النار من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية، ثم قاموا بإلقاء قذيفتي دبابة على المنزل الذي كانت فيه. 

ياسمين بورات كانت قد فرت قبل ذلك من مهرجان الموسيقى الإلكترونية الذي تعرض للهجوم، والذي أقيم بين كيبوتس بئيري وكيبوتس رعيم، والذي يضم أيضاً قواعد عسكرية مدمجة بداخلهما. وتعرض هذان الكيبوتسان للهجوم، وتم أخذ العديد من الأسرى منهما. ياسمين بورات هربت إلى كيبوتس بئيري، ودخلت إلى منزل مع شريكها، وبعد ذلك تم أسرهما للحظات من قبل مسلحين. 

وروت للإذاعة الإسرائيلية أنه عندما وصلت القوات الخاصة الإسرائيلية، بدأت بإطلاق النار على الجميع، وأن معظم الأسرى، إلى جانب مسلحي حماس، وقعوا في مرمى النيران، وأن الجميع قُتلوا باستثنائها وأسرتها، التي استخدمت من قبل مسلح كدرع بشرية لضمان سلامته قبل أن يستسلم.

وقالت ياسمين إن المقاتلين الفلسطينيين عاملوهم هم والآخرين "بإنسانية"، بعد أن فرت من مهرجان نوفا للموسيقى وبعد أن نجحوا في إخراجهم من المنزل واحتجزوها مع أسرى إضافيين. وقالت: "بعد ساعة نجح المسلحون في فتح باب الملجأ وأخرجونا نحن الأربعة، اقتادونا إلى منزل كان فيه 8 رهائن إضافيين.. فأصبحنا 12 رهينة مع 40 مسلحاً كانوا يحرسوننا"

وكذبت المستوطنة الإسرائيلية رواية الاحتلال حول تعذيب كتائب القسام للرهائن في مستوطنات غلاف غزة أثناء عملية "طوفان الأقصى". وقالت إن الرهائن كانوا في مرمى النار المتبادلة بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وأضافت: "غالباً كانوا يحاولون قتل مقاومي حماس، ولكنهم (القوات الإسرائيلية) قتلوا الجميع".

الأخطر أن بورات كشفت أيضاً عن تفاصيل أخرى تتعلق بالحادثة، مشيرة إلى إطلاق قذائف من دبابة نحو بيت صغير، مشيرة إلى أن كل من كان في البيت قد قتل ما عدا فتاة اسمها هداس داغان نجت. وحول من كان يتحمل مسؤولية مقتل الرهائن، أجابت ياسمين بطريقة تشير إلى أن قوات الجيش الإسرائيلي هي التي تتحمل المسؤولية.

3- اغتصاب الأسيرات الإسرائيليات

ماكينة الكذب الإسرائيلية لم تتوقف عند افتراءات قطع رؤوس الأطفال أو اتهام المقاومة بقتل المئات في حفل موسيقي لم تكن تعلم بوجوده مسبقاً، بل وجهت اتهامات كاذبة تبنتها وسائل الإعلام والحكومات الغربية كالعادة وكررتها بكثافة دون أي تحقق منها، تتعلق بوقوع عمليات اغتصاب لإسرائيليات قبل قتلهن أو أسرهن خلال عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول، قال مراسل قناة MSNBC الأمريكية إن مسؤولاً إسرائيلياً "أكد" تعرّض نساء للاغتصاب خلال هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة.

وأضاف أن هذه المعلومة نقلت إلى الأمريكيين خلال مكالمة هاتفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث قال مسؤول إسرائيلي لبايدن خلال المكالمة: "إن النساء تعرضن للاغتصاب خلال هجوم حماس المفاجئ"، مضيفاً أن ما حصل "همجية لم نشهدها منذ المحرقة"، على حد تعبيره.

بعد ذلك تبنت وسائل الإعلام الغربية المزاعم تلك وعملت على ترديدها دون أي تحقق، مثل نيويورك تايمز والغارديان وغيرهما. حيث جاء مقال لـ"نيوزويك"، تحت عنوان "التقارير تُفيد بأن حماس تستخدم الاغتصاب سلاحاً في الحرب، أين النسويات؟".

لكن بايدن لم يكتفِ بذلك، بل وضع لمسته الخاصة على هذه المزاعم وقال إن "مسلحي حماس تناوبوا على اغتصاب نساء إسرائيليات ومثلوا بجثثهن خلال هجومهم على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول".

وفي حديثه خلال حفل لجمع تبرعات لأغراض سياسية في بوسطن، قال بايدن إنه "تم خلال الأسابيع القليلة الماضية تداول روايات تحمل قدراً من القسوة التي لا يمكن تصورها"، دون تقديمه أي أدلة حول ذلك.

وأضاف بايدن أن "هناك تقارير"- دون توضيح ماهيتها- عن "اغتصاب نساء مراراً وتشويه أجسادهن وهن على قيد الحياة والتمثيل بجثثهن، وعن إلحاق إرهابيي حماس أكبر قدر ممكن من الألم والمعاناة بنساء وفتيات ثم قتلهن.. إنه أمر مروع".

من جانبها، قالت الشرطة الإسرائيلية بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إنها "تدرس أدلة على عنف جنسي محتمل، من اتهامات بالاغتصاب الجماعي وصولاً إلى التنكيل بالجثث"، لكنها لم تصدر تقارير حول ذلك. 

غير أن شهادات مختلفة لمستوطنات أكدت أنهن لم يتعرّضن لأي اعتداءات، ووصفت إحداهن أنه "تمت معاملتهن بمنتهى الإنسانية"، وذكرت أخرى لاحقاً- أفرج عنها ضمن عمليات صغيرة لتبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال- أن مقاتلي القسام كانوا يعاملونها مثل "الملكة"، ولم يقوموا بلمسها على الإطلاق. كما لم تصدر تقارير من منظمات حقوقية دولية تتحدث عن حالات اغتصاب وقعت خلال عملية "طوفان الأقصى". واعتبرت مشاهد الوداع "الودية" بين مقاتلي "القسّام" والمحتجزين التي تكرّرت عند كل عملية تسليم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أكبر دليل على حسن المعاملة التي تلقاها هؤلاء المحتجزون.

وتأكد في وقتٍ لاحقٍ، أن هذه المزاعم مضللة، حيثُ أخفقت وسائل الإعلام التي تناقلت الخبر في تقديمِ الأدلّة ونسبت الخبر إلى شخصٍ مجهول. كما أن الجيش الإسرائيلي هو الآخر لم يُؤكّد هذه الادعاءات، التي نفتها حركة حماس بشكل جلي وقاطع، وتحدت الاحتلال أن يقدم أدلة على ذلك.

في الوقت نفسه، قام عددٌ من وسائل الإعلام، خاصة الأمريكية منها، بحذف أو تعديل التقارير عن اغتصاب مقاتلي حماس للنساء بعد كل اللغط والجدل الذي حصل، وضمن ذلك جريدة "لوس أنجلوس تايمز" التي عدّلت إحدى مقالاتها حول الموضوع، وحذفت العبارات التي تُشير إلى الاغتصاب بصيغة الجزم مع ملاحظةٍ بأنه "لم يتم إثبات مثل هذه التقارير".

أما صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، فقد نشرت تحقيقاً مطولاً في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 يتحدث عن قصة صورة تداولتها وسائل إعلام إسرائيلية، لامرأة إسرائيلية بفستان أسود ملقاة على الأرض في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ادعت الصحيفة خلال التحقيق أنها تعرضت للاغتصاب قبل مقتلها، لكن تعليقاً على مواقع التواصل الاجتماعي أثار تساؤلات عن صحة رواية الصحيفة الأميركية. 

فقد كتبت مستخدمةً اسمها ميرل ألتر، تعليقاً تعقيباً على فيديو الصحفي الإسرائيلي يوسف حداد، الذي تحدث بدوره عن قصة اغتصاب "غال عبدوش"، وقالت فيه: "أختي (غال عبدوش) لم تغتصب، ولا توجد أوراق طبية واختبارات تثبت تعرضها للاغتصاب، مع الإشارة إلى أن صحيفة نيويورك تايمز التي جاءت إلينا، أشارت إلى أنهم يريدون عمل قصة من أجل تخليد ذكرى غال وزوجها ناجي، ولهذا السبب وافقنا. لو كنا نعلم أن القصة سيكون عنوانها عن الاغتصاب والمذبحة، فلن نوافق عليها أبداً". وتداول نشطاء تعليقها وفندوا قصة الاغتصاب. لكن تعليق ميرل ألتر حُذِف لاحقاً وفتح باب شك في حقيقة مزاعم الصحيفة الأمريكية.

وفي حديث بين سابير براخا أخت غال عبدوش ونوريت لوليخت لحياتي مذيعة برنامج راديو على إذاعة الجيش الإسرائيلي في 1 يناير/كانون الثاني الماضي، قالت فيه أخت "غال" إن العائلة لم تعلم شيئاً عن الاغتصاب. 

من جهتها، قالت رئيسة اللجنة البرلمانية الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني، حول الجرائم المرتكبة بحق نساء خلال هجوم حماس، كوتشاف الكيام ليفي، إن "الغالبية العظمى من ضحايا الاغتصاب والاعتداءات الجنسية الأخرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قُتلوا ولن يتمكنوا أبداً من الإدلاء بشهادتهم"، على حد تعبيرها، في ضعف واضح للرواية الإسرائيلية المزعومة.

4- مجزرة المعمداني

في مساء يوم الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذ طيران جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة مروعة في المستشفى الأهلي المعمداني وسط قطاع غزة، أدت إلى استشهاد نحو 500 شخص معظمهم من الأطفال، لكن الاحتلال تنصل من الجريمة واتهم المقاومة الفلسطينية بالوقوف خلفها، وهو ما تبناه البيت الأبيض على الفور.

وخرج الاحتلال الإسرائيلي برواية مضللة ينأى فيها بنفسه عن عملية القصف التي استهدفت ساحة المستشفى المعمداني، زاعماً أن المجزرة وقعت "بسبب فشل إطلاق صاروخ" من أحد فصائل المقاومة في غزة.

لكن في تحقيق لقناة الجزيرة الإنجليزية، استند إلى لقطات مثبتة بالوقت من عدة مصادر، كشف أن تصريحات الاحتلال أساءت تفسير الأدلة لبناء رواية مضللة، مفادها أن إحدى الومضات التي سجلتها عدة مصادر كانت خطأ في إطلاق الصاروخ.

وبناءً على مراجعة تفصيلية أجرتها القناة لجميع مقاطع الفيديو، خلص التحقيق إلى أن الوميض الذي نسبته إسرائيل إلى خطأ في إطلاق النار، كان في الواقع متسقاً مع نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي "القبة الحديدية" الذي اعترض صاروخاً تم إطلاقه من قطاع غزة وتدميره في الجو.

كما نشر موقع "عربي بوست" تحقيقاً معززاً بالأدلة البصرية للواقعة، وبعد التحقق تبين أن إسرائيل استهدفت على نحو مقصودٍ ساحة المستشفى المعمداني، مشيراً أيضاً إلى أن هذا الاستهداف للمستشفى يأتي بعد أيام من تحذير صدر عن جيش الاحتلال زعم فيه أن "المستشفيات يتم استخدامها كملاجئ"، وطلب أن يتم "إخلاء المستشفيات على الفور"، ومن بينها المستشفى المعمداني الذي رفض الاستجابة لهذه التهديدات بسبب عنايته بعدد كبير من ضحايا القصف والمرضى.

كذلك فإن المشاهد التي تداولتها حسابات دعائية إسرائيلية مع الزعم بأن "صاروخ حماس أصاب المستشفى" تعود لعام 2022، ونشر المراسل العسكري للقناة 11 الإسرائيلية مقطع فيديو، قال فيه إنه يُظهر صاروخاً لـ"حركة الجهاد الإسلامي" يسقط على غزة، لكن بالتحقق من الفيديو تبين أن الفيديو الذي نشره قديم ويعود للعام 2022.

أيضاً نشر مركز مكافحة التضليل التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية، تقريراً يؤكد مسؤولية الاحتلال، وقال التقرير إنه "عند فحص صور قصف المستشفى تبين بوضوح، أن الذخيرة التي كانت لها القدرة على تحويل المنطقة إلى خراب ليست من أنواع الذخيرة التي استخدمتها حماس حتى اليوم".

كما أن صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت هي الأخرى تحقيقاً يفند رواية الاحتلال حول تلك المجزرة البشعة، استناداً إلى العديد من الأدلة التي تحققت منها ورصدتها الصحيفة الأمريكية، لتتراجع وسائل الإعلام الغربية وحكوماتها عن الرواية الإسرائيلية، ويحاول الاحتلال طمس الحقيقة حولها.

وكانت حركة حماس قد أصدرت مذكرة حول تفنيد مزاعم الاحتلال الإسرائيلي بشأن تنصله من مسؤولية مجزرة المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" في مدينة غزة. ووضعت حركة حماس، في مذكرتها أدلة قاطعة على قيام الاحتلال بهذه الجريمة، مشيرةً إلى أن الاحتلال منذ بداية العدوان لم يميز بين الأهداف المدنية والعسكرية، وقد استهدف القصف خدمات الطوارئ وسيارات الإسعاف والدفاع المدني والمدارس والمساجد والكنائس بشكل ممنهج، كما أنه أرسل عدة تحذيرات لعدة مستشفيات، تحذرها بالإخلاء في الأيام الماضية.

ومن الأدلة التي أوردتها حركة حماس، تأكيد مديري مستشفيات في غزة اتصال الاحتلال بهم ومطالبتهم بالإخلاء الفوري، بحجة أن المستشفى يقع ضمن "النطاق الجغرافي للعمليات العسكرية الإسرائيلية"، وأبرز المستشفيات التي تلقت اتصالات من الاحتلال هي "العودة، وكمال عدوان، والإندونيسي، والقدس، والمعمداني، والكويتي". 

بحسب البيان، ففي يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف مساء، أطلق الاحتلال قذيفتين باتجاه المستشفى المعمداني، ثم اتصل جيش الاحتلال بمدير المستشفى د.ماهر عياد، يسأله: "إننا حذرناكم أمس بقذيفتين، فلماذا لم تُخلوا المستشفى حتى اللحظة؟". كما أخبر مدير المستشفى مطران الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا باتصال جيش الاحتلال، الذي اتصل بدوره بالمنظمات الدولية قبل أن يرسل إلى المستشفى رسالة اطمئنان أن باستطاعتهم البقاء في المستشفى.  

أشار البيان إلى مسارعة المتحدث العسكري باسم جيش الاحتلال بنشر تصريح عبر منصتي "إكس" و"تليغرام" فور وقوع المجزرة، قال فيه: "كنا قد أنذرنا بإخلاء المستشفى المعمداني و5 مستشفيات أخريات؛ كي لا تتخذها منظمة حماس ملاذاً لها"، لكنه سرعان ما حذفه. 

كما أكد البيان، أنه قبيل وخلال الحدث لم تطلق فصائل المقاومة أي صواريخ تجاه الاحتلال، ولم تفعّل صفارات الإنذار لدى الاحتلال، ولم تنطلق مضادات القبة الحديدية، مشيراً إلى أن طائرات الاستطلاع للاحتلال تقوم بتصوير ورصد كل شبر في قطاع غزة، فإذا كانت الصواريخ بفعل صواريخ المقاومة، فليخرج للعالم بصورة واحدة تدلل على ذلك. كما تساءل البيان حول ادعاء الاحتلال أن المجزرة بفعل صواريخ "الجهاد الإسلامي، فكيف استطاع الاحتلال أن يحدد ويميز بين صواريخ المقاومة فور إطلاقها (كما يدّعي)؟

كما أشار البيان إلى أن صواريخ المقاومة صواريخ محلية الصنع، وليست لديها قوة تدميرية كالتي تسبب قتل المئات في ضربة واحدة. قائلاً إن "منظومة الاحتلال الحربية توثق وتسجل كل عملياتها باليوم والساعة والدقيقة والثانية، وفي كل المرات السابقة كانت تخرج منظومته الإعلامية لتعلن أو تنفي ما هو أقل من هذه المجازر، فما الذي جعلها تنتظر أكثر من 4 ساعات سوى نسج السيناريوهات؟!".

5- أنفاق المشافي

خلال الحرب البرية على قطاع غزة أُصيب جيش الاحتلال بحالة مرضية حول مستشفيات قطاع غزة التي ادعى أن فيها مراكز تحكم وسيطرة تابعة لقيادة المقاومة الفلسطينية، لكن بعد اقتحامه لهذه المستشفيات وقتل وأسر وتشريد المئات من المرضى والنازحين فيها، تبين أن كل ما كان يدعيه جيش الاحتلال هو محض كذب.

وحاول الاحتلال تقليل أضرار هذه الكارثة الإعلامية عبر الزعم بالعثور على نفق أسفل مستشفى "الشفاء" شمال قطاع غزة في 15 نوفمبر 2023، حيث قال جيش الاحتلال الإسرائيلي في بيان إنه تحرك للكشف عن النفق الذي يبلغ عمقه 10 أمتار وطوله 55 متراً، بناء على معلومات وفرها جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) وجهاز المخابرات (أمان). 

وادعى البيان أن "النفق، الذي يؤدي إليه درج عميق إلى المدخل، يحتوي على دفاعات مختلفة بما في ذلك باب علوي وفتحة إطلاق النار.. هذا النوع من الأبواب تستخدمه حماس لمنع قواتنا من الدخول إلى مقر المنظمة وأصولها الموجودة تحت الأرض". وزعم أنه عثر عند فتحة النفق على سيارة بها العديد من الأسلحة، مشيراً إلى أنه يواصل عملياته للكشف عن مسار النفق.

وبعد اقتحامه مستشفى الشفاء، زعم الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف أسلحة وكمبيوترات لحماس، وتبيّن من الصور التي عرضها الجيش الإسرائيلي، والتي تظهر الحمولة الكاملة المزعومة، أنها مكونة من زي عسكري، 11 بندقية، 3 سترات عسكرية، واحدة عليها شعار حماس، 9 قنابل يدوية، نسختان من القرآن الكريم، سلسلة من المسبحات، وعلبة تمر.

وقد يكون الجيش الإسرائيلي قد دس هذه الأسلحة، وحتى لو فرض أنه عثر عليها، فإن هذا لا يبرر اقتحام المستشفى. وقال بريان فينوكين، أحد كبار المستشارين في مجموعة الأزمات الدولية والمستشار القانوني السابق في وزارة الخارجية الأمريكية لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "لا يبدو أن هذه الأسلحة في حد ذاتها تبرر التركيز العسكري على الشفاء، حتى لو وضعنا القانون جانباً".

وعرض الجيش الإسرائيلي جهاز لاب توب، ثم علق قائلاً: "خلال عمليات تفتيش داخل أحد أقسام المستشفى، عثرت القوات على غرفة تحتوي على وسائل تكنولوجية فريدة ومعدات قتالية ومعدات عسكرية تستخدمها منظمة حماس الإرهابية"، حسب تعبيره.

أما في مستشفى الرنتيسي المخصص للأطفال، فبعد إخلائه من المرضى والأطباء بقوة السلاح في 14 نوفمبر 2023، بزعم وجود أنفاق لقيادة المقاومة أسفله، فشل الاحتلال في إثبات أي من ذلك. والمثير للاستغراب أن جيش الاحتلال اعتمد في روايته على وجود حفاظات للأطفال كدليل على أن هذا المكان كان مسرحاً لعمليات حماس في أسر الأطفال.

وفي أحد الفيديوهات التي نشرتها إسرائيل بعد اقتحامها للمستشفى، يستشهد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بربطة شعر على الأرض كدليل على أن حماس احتجزت رهائن في قبو المستشفى. وكُتب على الحائط "طوفان الأقصى".

ويظهر في الصورة جدول دوام مدون عليه أيام الأسبوع، وأسماء عاملين في المستشفى، فيما يبدو واضحاً أنه جدول عمل أسبوعي، زعم هاغاري أن هذه الكتابة هي لأسماء مقاتلي حماس المكلفين بحراسة الأسرى الإسرائيليين باللغة العربية، رغم أنها في الواقع مجرد أيام الأسبوع، ولكن المتحدث يحاول خداع غير المتحدثين باللغة العربية بطريقة مثيرة للسخرية!

كما عرض جيش الاحتلال مصعد مستشفى الرنتيسي المؤدي إلى مخزن المواد الطبية على أنه فتحة نفق! ولهذا فإن جلب عدد من الأسلحة وترتيبها بدقة، وهي أسهل حجة للقول إن هذه الأسلحة وجدت في المستشفى، وبعد كل ذلك لم يظهر أي معتقل لحماس في هذه الغرفة التي يروّج لها الجيش الإسرائيلي أنها ثكنة عسكرية.

وأمام كل ذلك فندت وزارة الصحة الفلسطينية هذه الادعاءات الإسرائيلية وقالت في بيان، إن ما عرضه الاحتلال في مستشفى الرنتيسي للأطفال هو تمثيلية سمجة، لا يوجد عليها دليل واحد يستحق الرد، وأضافت أن الاحتلال عد وجود حفاظات أطفال في مستشفى للأطفال وفيه نازحون أدلة استثنائية.. أي استخفاف هذا بعقول الناس وعقول العالم، حسب بيان الوزارة.

وقبل هذين المستشفيين، وتحديداً في الخامس من نوفمبر 2024، زعمت إسرائيل أنها عثرت على مدخل نفق تابع لحركة حماس بالقرب من مستشفى الشيخ حمد الممول من قطر، وكان في الواقع خزان مياه للمستشفى. 

حيث عرض الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري مقطع فيديو ما قال إنه نفق يقع أسفل مستشفى حمد بن خليفة، الذي موّلته حكومة دولة قطر لخدمة السكان في القطاع. وأظهر الفيديو فتحة النفق التي زعم هاغاري أن جيش الاحتلال اكتشفها خلال العملية البرية الحالية، كما عرض ما قال إنه إطلاق نار قام به مقاتلو حماس من داخل المستشفى على الجنود الإسرائيليين. 

وقد نفى رئيس المكتب الإعلامي في حكومة غزة سلامة معروف مزاعم هاغاري، وأكد استعداد الحكومة لاستقبال أي لجنة تفتيش دولية للوقوف على أوضاع المستشفى أو غيره من المستشفيات. وأكد معروف -في مؤتمر صحفي- أن المستشفيات تستخدم لتقديم العناية الطبية للجرحى والمرضى فقط، وقال إن ما عرضه جيش الاحتلال ليس إلا فبركة وتضليلاً، يهدفان لتبرير قصف مستشفيات القطاع.

كما أعرب رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة السفير محمد العمادي عن استنكار دولة قطر الشديد لمزاعم المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بوجود أنفاق تحت مستشفى الشيخ حمد للأطراف الصناعية في غزة دون أدلة ملموسة أو تحقيق مستقل، واعتبرها محاولة مفضوحة لتبرير استهداف الاحتلال للأعيان المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس وتجمعات السكان وملاجئ إيواء النازحين.

6- "الأونروا" تخدم حماس

آخر حملات إسرائيل الدعائية والتحريضية استهدفت وكالة الأونروا لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والشاهد الأخير على حق العودة التي تقدم خدماتها لملايين اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة ودول الجوار، حيث استغل الاحتلال الحرب على غزة لتنفيذ مخططاته القديمة بتصفية "الأونروا"، وقطع الدعم الدولي عنها، الذي استمر لعقود طويلة. 

وفي 26 يناير/كانون الثاني 2024، أوقفت أمريكا دعم "الأونروا" ولحقت بها 16 دولة، وتم تجميد تمويل بقيمة 442 مليون دولار للوكالة، بعدما قدمت إسرائيل لعدد من الدول "تقريراً استخباراتياً"، تضمن مزاعم واتهامات لـ12 من موظفي "الأونروا" (البالغ عددهم بغزة 13 ألفاً) بـ"المشاركة" في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي شنته فصائل فلسطينية على مستوطنات بغلاف غزة. 

سلمت إسرائيل نسخاً من "التقرير الاستخباراتي" المزعوم لوكالات وصحف غربية، ولم تسلمه إلى الأمم المتحدة أو "الأونروا"، وتضمن أيضاً مزاعم بأن 190 من موظفي "الأونروا" هم من مقاتلي حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ولفتت وسائل إعلام تلقت نسخاً من التقرير إلى أنه خلا من الأدلة. 

ولعبت منظمات ومؤسسات تعمل كجهات ضغط (لوبي) لصالح إسرائيل، إضافة لمسؤولين أمريكيين، دوراً رئيسياً في حملة منظمة هدفت لدفع أمريكا ودول أخرى إلى تعليق مساعدات "الأونروا" في غزة بعد تشويه سمعتها لسنوات، في خطوة تهدف لحلها بالكامل، فيما تظهر بيانات أن جهات أمريكية تدعم تعليق المساعدات، تتلقى دعماً من أطراف داعمة لإسرائيل.

على سبيل المثال، تُعد منظمة "مراقبة الأمم المتحدة" (Un Watch) من أبرز الجهات التي تحركت من أجل وقف تمويل الأونروا وإنهاء عملها في غزة، ومنذ عام 2015 وحتى يناير/كانون الثاني 2024، قدّمت 10 تقارير مليئة بالمزاعم، متهمةً "الأونروا" بأن المعلمين العاملين لديها في غزة "يروّجون للقتل، وكراهية اليهود، ومعاداة السامية، وأنه يتم استغلالها من قِبل الفصائل الفلسطينية"، وهي اتهامات نفت "الأونروا" صحتها مراراً.

وفي تحقيق لـ"عربي بوست" حول الدور الذي لعبته هذه المنظمة، وجد أنها تمتلك علاقات قوية في أمريكا مع جماعات ضغط، وجهات مؤيدة لإسرائيل، ويقع مقرها الرئيسي في جنيف، ومُسجلة في الولايات المتحدة ومُعفاة من الضرائب منذ أكتوبر/تشرين الأول 2011. 

كثفت المنظمة من نشاطها قبل القرار الأمريكي بوقف تمويل "الأونروا" وبعده، في خطوة تهدف لتجويع سكان القطاع ودفعهم لمغادرة أرضهم، إذ ترى المنظمة أن "الأونروا" هي من الأسباب التي تساعد على بقاء الفلسطينيين في أرضهم.

حظيت تقارير المنظمة الهادفة لقف تمويل "الأونروا"، بدعم وترويج من قِبل "إيباك"، وهي جماعة الضغط الأمريكية الإسرائيلية التي تُعد من بين أبرز اللوبيات القادرة على التأثير بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وأعلنت "إيباك" في موقعها الإلكتروني، عن دعمها لوقف تمويل الأونروا، واستشهدت بما تضمنه أحدث تقرير لمنظمة "مراقبة الأمم المتحدة" من اتهامات لـ"الأونروا" تهدف إلى القضاء عليها. تردد "إيباك" ما تذهب إليه منظمة "مراقبة الأمم المتحدة" بأن "الأونروا" تمثل "عقبة أمام السلام"، "وأنه ينبغي استبدالها".

ولا يقتصر التحرك لحرمان الفلسطينيين من المساعدات، على منظمات ومؤسسات في أمريكا داعمة لإسرائيل، فهنالك مسؤولون أمريكيون بارزون يلعبون دوراً رئيسياً في هذا الاتجاه أيضاً، من أبرزهم عضو الكونغرس (الجمهوري) كريس سميث، وهو عضو بارز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، وقدم سميث تشريعاً يهدف إلى اتخاذ أمريكا قراراً بوقف تمويل "الأونروا". 

وسميث هو الرئيس المشارك لتجمع "حلفاء إسرائيل"، ويعرف التجمع نفسه في موقعه الإلكتروني بأنه "التجمع الحزبي الوحيد المؤيد لإسرائيل في مجلس النواب الأمريكي"، وأيد النائب قرار الإدارة الأمريكية الأخير بوقف تمويل "الأونروا"، وقال في تصريحات لجلسة استماع لجنة فرعية في مجلس النواب الأمريكي، إن قرار الإدارة "رد طال انتظاره". 

يحظى تشريع قطع الدعم عن "الأونروا" بدعم أيضاً من النائبيْن الجمهورييْن، بريان ماست، وجو ويلسون، ويردد النواب الجمهوريون الداعمون لقطع المساعدات عن الفلسطينيين، نفس اتهامات إسرائيل ومراكز ومؤسسات الضغط في أمريكا، لـ"الأونروا"، ويزعمون أن الوكالة الأممية تُعلم "معاداة السامية، وكراهية إسرائيل". 

أنفاق حماس تحت مدارس "الأونروا"!

لم تكتفِ إسرائيل في حرب الشائعات على "الأونروا" بذلك، ففي 11 فبراير 2024 قال الجيش الإسرائيلي إنه اكتشف شبكة أنفاق يبلغ طولها مئات الأمتار ويمتد جزء منها تحت مقر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في غزة. ووصف الجيش ذلك بأنه دليل جديد على استغلال حركة حماس لوكالة إغاثة الفلسطينيين الرئيسية.

وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن كواليس زيارة أحد الأنفاق التابعة لحركة حماس التي ادّعى الاحتلال الإسرائيلي أنها تقع أسفل مقر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وأنها مجمع عسكري للحركة، ولكن لم يعثر الصحفيون الذين قاموا بزيارة النفق على أي معدات عسكرية، ولم يكن به سوى صفوف من خوادم الكمبيوتر التي يزعم الاحتلال الإسرائيلي أنها كانت بمثابة مركز اتصالات واستخبارات للحركة، كما أنها لا تقع أسفل المقر، وإنما تبعد عنه بمسافة أكثر من نصف ميل.

وبحسب الصحيفة، قال مسؤولون إسرائيليون إن المجمع، وهو جزء من مجموعة من الأنفاق والغرف الجوفية المنحوتة من التربة الرملية في قطاع غزة، يقع أسفل مباني وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مدينة غزة، ويبدو أنه يعمل بالكهرباء المستمدة من إمدادات الطاقة التابعة للأمم المتحدة.

وتابعت أن مراسلي الصحيفة الذين زاروا النفق وجدوا أنه يمر أسفل مدرسة تديرها الأمم المتحدة، تقع بالقرب من المقر الرئيسي للوكالة، ولم يعثر الصحفيون على أي معدات عسكرية أو أي شيء يدل على استخدام الحركة هذا النفق لأغراض عسكرية.

وأوضحت الصحيفة أن الأنفاق التابعة لحركة حماس ممتدة أسفل مساحات شاسعة في القطاع، وتقعد بالتالي تحت كل المباني الموجودة في بعض المناطق في القطاع منها التابعة للأمم المتحدة والمدارس والمستشفيات، وليس بالضرورة أن تكون للاستخدام العسكري.

وتابعت أن الصحفيين لم يروا بأنفسهم أي أغراض عسكرية أو استخباراتية لحماس داخل النفق، كما أنه يبعد حوالي نصف ميل عن مقر "الأونروا"، وداخل النفق شوهد الكثير من الأسلاك والأرفف السوداء التي ادعى الجيش الإسرائيلي أنها تستخدم كخوادم للكمبيوتر، وبدت كل الغرف الأخرى فارغة، فيما عدا غرفة واحدة كانت تحتوي على خزنة وحامل خادم فارغ، وادّعى الجيش الإسرائيلي أنه صادر أجهزة الكمبيوتر.

وقال دوج مادوري، مدير شركة الإنترنت كينتيك، ومقرها سان فرانسيسكو، إنه من دون معرفة ما هو موجود على الخوادم، سيكون من الصعب معرفة ما تم استخدامه من أجله.

وادعى المسؤولون الإسرائيليون أن موقع منشأة عسكرية تابعة لحماس تحت منشآت مهمة تابعة للأمم المتحدة هو دليل على استخدام حماس على نطاق واسع للبنية التحتية المدنية الحساسة كدروع لحماية أنشطتها المسلحة. 

وأوضحت الصحيفة أن ادعاءات إسرائيل باستخدام هذا النفق لأغراض عسكرية، يمكن أن يؤدي لتعقيد وضع "الأونروا"، التي تواجه بالفعل أزمة بسبب تسريب معلومات إسرائيلية غير مؤكدة بشأن مشاركة موظفي الوكالة في عملية طوفان الأقصى.

"الأونروا"، قالت في بيان لها، إن "التقارير عن الأنفاق تحت مقرها في غزة تستحق إجراء تحقيق مستقل، وأضافت أنها ليست لديها الخبرة العسكرية والأمنية ولا القدرة على إجراء عمليات تفتيش عسكرية لما هو موجود أو قد يكون تحت مبانيها".

وأشارت الصحيفة إلى أن إعلان إسرائيل عن اكتشاف النفق يتزامن مع تعرض حكومة الاحتلال لانتقادات دولية واسعة ومكثفة بسبب إدارتها الحرب في غزة، والتي تضمنت عمليات عسكرية وحشية وانتهاك للمستشفيات ومباني الأمم المتحدة والمنشآت المدنية الأخرى، ما تسبب في استشهاد أكثر من 28 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وفقاً للسلطات الصحية الفلسطينية. 

ماكينة "الهاسبارا" القاتلة

في النهاية، كما استغلت إدارة بوش هجمات 11 سبتمبر لتبرير "حرب صليبية" كاسحة أعلنت فيها العالم ساحة معركة، يستخدم نتنياهو ماكينة البروباغندا الإسرائيلية لشن "الحملة الصليبية" التي كان يستعد لها طوال حياته السياسية لتدمير الفلسطينيين، كما تصف ذلك مجلة "ذي إنترسبت".

ومع تجاوز عدد الشهداء في غزة، على أقل تقدير، 27 ألف شخص، فإن العديد من الروايات التي نشرتها الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية لتبرير المذابح ضد الفلسطينيين، باتت تخضع لمزيد من التدقيق؛ وتم فضح معظمها بشكل نهائي كما تقول المجلة.

ويدرك نتنياهو قوة السردية والسيطرة عليها، خاصة عند استهدافه للجمهور الأمريكي. فعلى مدى عقود، عمل هذا الرجل على تطوير عقيدة الدعاية الإسرائيلية المتمثلة في "الهسبارا" - وهي فكرة مفادها أن الإسرائيليين يجب أن يكونوا عدوانيين بشأن "شرح" وتبرير أفعالهم للغرب، للتلاعب بخصومهم وحتى حلفائهم، المحليين والدوليين، لخدمة مصالح إسرائيل وأهدافها.

وكما يقول الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في مذكراته لعام 2020: "إن رؤية نتنياهو لنفسه باعتباره المدافع الرئيسي عن الشعب اليهودي، سمحت له بتبرير أي شيء من شأنه أن يبقيه في السلطة".

لذلك شنت إسرائيل حملة حرب معلومات كانت مهمتها الرئيسية تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وإغراق الخطاب العام بسيل من الادعاءات الكاذبة التي لا أساس لها ولا يمكن التحقق منها. حيث يستشهد المسؤولون الإسرائيليون بشكل روتيني بالمحرقة، ويقارنون حماس بالنازيين أو بتنظيم داعش، ويصورون أحداث 7 أكتوبر كدليل على "جهد منظم لارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب اليهودي".

إن آلة الدعاية الإسرائيلية "مزيّتة" وتستطيع التحرك بشكل سريع في جميع الاتجاهات وإطلاق وابل من الأكاذيب أسبوعياً، وبوسع أي شخص أن ينظر إلى الحرب على غزة التي تستمر منذ 4 أشهر أن يتتبع نمطاً محدداً: تختار إسرائيل قضية ما تلهب مشاعر الغرب، وتطالب بالاهتمام العالمي بأجندتها على حساب أي مسألة أخرى.

كل أسبوع تقريباً، وأحياناً كل يوم، تطلق الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي وابلاً جديداً من الادعاءات الزائفة التي تهدف إلى تبرير المذبحة المستمرة في غزة. المستشفيات هي حماس، والأمم المتحدة هي حماس، والأونروا هي حماس والصحفيون هم حماس، وبعض الأوروبيين الناقدين لإسرائيل هم حماس، ومحكمة العدل الدولية معادية للسامية. وهذا التكتيك فعال كما تقول مجلة ذي "إنترسبت"، طالما أن الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء الغربيين دأبوا على تبني مزاعم إسرائيل -التي لم يتم التحقق منها- كدليل على "عدالة القضية اليهودية".