الآن.. تتشابك السحب الثقيلة السوداء في سماء ليبيا الشاسعة.
الآن تصحو حرائق قديمة من عمر "استقلال" المملكة عن الاستعمار الإيطالي، وحرائق جديدة اندلعت منذ تفكيك نظام القذافي قبل سنوات.
المواجهات المندلعة منذ بداية 2019 شهدت متغيرات ميدانية عديدة، تداولت فيها حكومة الوفاق وميليشيات خليفة حفتر السيطرة على مدن الساحل الغربي والمواقع القريبة من الحدود التونسية، فيما تركزت المواجهات بشكل أساسي في جنوب وجنوب شرق وجنوب غرب طرابلس.
وقد تأثرت العمليات العسكرية ونتائجها بالأدوار الدولية، حيث إن الفاعلين الدوليين أسهموا بشكل واضح في استمرار الصراع من خلال دعم طرفَيه، نتيجة تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية لهؤلاء الفاعلين.
وتسود تكهنات في بعض الأوساط الدولية عن ضرورة التعامل مع الصراع في ليبيا على أنه سيكون "صراعاً طويل الأمد"، في ظل التنافس الدولي المحموم على النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في البلاد.
جولة جديدة يدخلها الخصوم بكل ما أوتوا من قوة ومن رباط الخيل، وأيضاً بكل ما يُنعم به حلفاء خارجيون، من المحيط إلى الخليج إلى القطب الشمالي.
على التراب الليبي أطراف كثيرة: فصائل وكتائب وميليشيات لا تحصرها الإحصائيات، ودول إقليمية وغربية تسعى للحصول على غنائم من مميزات موقع ليبيا.
وثروات ليبيا.
ومستقبل ليبيا الذي أصبح نهباً لكل الظنون والاحتمالات.
تسود تكهنات في بعض الأوساط الدولية عن ضرورة التعامل مع الصراع في ليبيا على أنه سيكون "صراعاً طويل الأمد"، في ظل التنافس الدولي المحموم على النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في البلاد.
في هذا التقرير محاولات للإجابة، تبدأ من حكاية تاريخ الليبيين مع النفط.
كانت مملكة ليبيا تحت قيادة السنوسي تعيش ظروف الفقر والأمية والمرض حتى إن اللجنة الخاصة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي وصفت "مملكة الرمال" بأفقر بلد في العالم.
كان سكان ليبيا نحو مليون وخمسة وسبعين ألفاً.
ولم يكن أكثر من ربع السكان بقادرين على كتابة أسمائهم.
لم يكن هناك اقتصاد بأي معنى بعدما دمر الاحتلال الإيطالي والفرنسي طرق تجارة القوافل، وسيطر الطليان على القطاع الزراعي والحرفي، فبلغ معدل دخل الفرد نحو خمسة وثلاثين دولاراً سنوياً.
لم تتوفر بنيةٌ للمواصلات أو الاتصالات، بينما افتقدت البلاد لأي قطاع صناعي أو مصادر للطاقة.
القذافي يعرض على المواطنين نصيبهم من النفط
منذ استيلاء معمر القذافي على السلطة بانقلاب عسكري ضد الملك إدريس عام 1969، فقدت ليبيا فرصاً عديدة لنهضة شعبها وتقدمه. فالحكم الشخصي الذي اعتمد على عائلة القذافي ودائرة ضيقة من المقربين والأتباع، أدى إلى حرمان الجماهير العريضة من عوائد الثروة في بلادهم، بل واستخدام تلك الثروة في شراء الأنصار، وترويض المعارضة أو قمعها.
وفي إحدى خطبه بمناسبة عيد ثورة الفاتح عام 2006، انتقد الرئيس الراحل معمر القذافي النهج الاقتصادي لبلاده، في الاكتفاء بالنفط مصدراً للإيرادات.
وقال القذافي: "إن ليبيا البالغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة لا تنتج أي شيء وإنها لا تبيع الا النفط وتستهلك كل شيء" مديناً ما وصفه "بمجتمع استهلاكي ينتظره مستقبل بائس حين ينفد النفط في نهاية المطاف".
بعد ذلك، وفي خطاب ألقاه في بنغازي أمام مؤتمر الشعب العام (البرلمان) في 2008، فاجأ القذافي مواطنيه قائلاً: على الليبيين أن يستعدوا ليتسلم كل واحد منهم نصيبه من عائدات النفط، وباستثناء وزارات الخارجية والدفاع والداخلية والعدل، سيتم إلغاء باقي الوزارات.
وظلت هناك فجوة بالغة من مليارات الدولارات تظهر سنوياً بين عائدات النفط والغاز الليبي وبين الإنفاق الحكومي.
هذه الاستثمارات تموَّل مباشرة من عائدَي النفط والغاز. فهذا البلد النفطي وصل إيراده في عام 2009 إلى 35 مليار دولار عندما كان إنتاجه لا يزيد على 1.4 مليون برميل يومياً.
وبعد أسابيع من اندلاع ثورة 17 فبراير/شباط الليبية عام 2011، وقبل مقتل القذافي، بدأ الحديث عن أمواله الطائلة التي سرقها من ثروات الليبيين.
إنها معركة أخرى بدأها الزعيم الليبي وأبناؤه قبل انتفاضة شعبهم: معركة توزيع ثروة العائلة، التي قدَّرها بعض الخبراء بحوالي 100 مليار دولار أمريكي، وإخفائها في ملاذات آمنة في أنحاء مختلفة من العالم.
ديلي تلجراف، فبراير/شباط 2011
وتحت عنوان "أسرة القذافي تتطلَّع لإخفاء 3 مليارات جنيه إسترليني مع سمسار بورصة في حي ماي فير"، كتبت التايمز البريطانية عن جهود إخفاء ثروة القذافي "المسروقة" من عائدات النفط وجيوب الليبيين عبر السنين"، كما يرى التقرير.
ويقول التقرير إن القذافي قد أودع بشكل سري 5 مليارات دولار أمريكي لدى شركة متخصصة بإدارة الثروات، في حي ماي فير الفخم وسط لندن.
وتابعت وزارة الخزانة البريطانية وقتها جهود تعقُّب وتجميد أرصدة القذافي وأسرته في بريطانيا، والتي تُقدَّر بمليارات الدولارات، بالإضافة إلى عقارات منها منزل فخم مكوَّن من ثماني غرف نوم، تعود ملكيته لابنه سيف الإسلام شمالي لندن، وتتجاوز قيمته 10 ملايين جنيه إسترليني (16 مليون دولار أمريكي).
الاستيلاء على أهم ثروات ليبيا لعقود طويلة أدى إلى تجريف البلاد من قوتها، ووضعها على حافة حرب أهلية، يتصارع فيها الأشقاء على الذهب الأسود، وهذا ما تشرحه السطور التالية.