هل يحكم "العسكر" أميركا؟

مخاوف من اتساع نفوذ جنرالات البنتاغون على قرارات السلطة المدنية في شن الحروب العسكرية والدبلوماسية وعلاقاتهم الوثيقة بالمجمع الصناعي العسكري 

في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وقبل الانتخابات الرئاسية الأميركية التي خسرها ترمب بثلاثة أيام، كان الاتصال الأول.

رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي بنظيره الصيني، ليطمأنه بأن الولايات المتحدة لن توجه ضربة عسكرية أو نووية ضد الصين.

بل ذهب ميلي إلى حد التعهد بأنه سينبه نظيره في حال الاستعداد لشن هجوم أميركي حتى لا تكون مفاجأة.

ثم أجرى ميلي اتصالا آخر بعد أسابيع لتأكيد المعنى.

الاتصالان كانا بدون علم ترامب، ولا الإدارة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية.

وثارت الأوساط البرلمانية في الكونغرس، واعتبر النوّاب سلوك رئيس الأركان خيانة، وعملا لصالح الأعداء، لإنه "قوّض القائد العام للقوات المسلحة وسرب معلومات سرية بقدر من الخيانة إلى الحزب الشيوعي الصيني لتحذيرهم من صراع مسلح محتمل".

ودعا ألكسندر فيندمان، وهو ضابط جيش متقاعد وكان أحد الشهود الرئيسين ضد ترمب خلال إجراءات مساءلته الأولى، إلى عزل ميلي لأنه اغتصب السلطة المدنية.

وكسر التسلسل القيادي.

وانتهك المبدأ المقدس للسيطرة المدنية على الجيش بما يعد سابقة خطيرة.

ومبدأ السيطرة المدنية على العسكريين له جذوره في دستور الولايات المتحدة، الذي يعتبر أن القوات المسلحة مسؤولة أمام الرئيس والهيئة التشريعية، الكونغرس.

وبدءاً من عام 1947، بنى الكونغرس مؤسسات قوية صُمّمت بهدف الحفاظ على تلك العلاقة. 

لكن ما حدث بعد ذلك هو أن سيطرة المدنيين تآكلت بصمت لكن بوتيرة ثابتة، منذ الثمانينيات.

وربما لا يزال كبار الضباط يتّبعون الأوامر ويتجنبون العصيان العلني، لكن نفوذهم قد تنامى، فيما تعثّرت آليات الرقابة والمساءلة أيضاً.

انتهاء الحرب الباردة لم يفتح لأمريكا أبواب عصر من السلام والهدوء، بل كان إيذانا بدخول أمريكا في سلسلة من الحروب التي لا تنتهي في معظم قارات العالم.

معظم هذه الحروب كانت بضغوط من المؤسسة العسكرية التي أصبحت الطرف الأقوى في كل ملفات الأمن القومي الأمريكي.

وبالتنسيق مع المجمع الصناعي العسكري، المسؤول عن ظاهرة «الحروب التي لا تنتهي» التي تخوضها الولايات المتحدة منذ سنوات، خصوصًا في كل من العراق وأفغانستان.

كما باتت شركات الأسلحة اللوبي الأقوى اليوم داخل الولايات المتحدة. 

لكن الضحية الأولى أمريكياً لكل هذه الحروب كان المبدأ المقدس بسيطرة المدنيين على العسكريين في القرار.

مبدأ أقره الدستور، وأضاعته حروب الجنرالات الطامحين إلى النفوذ، والطامعين في الثراء.

هذا التقرير يستعرض صعود "العسكرة" في القرار الأمريكي من نهاية الحرب الباردة، حتى الانسحاب المدوّي من أفغانستان، ومؤشرات هذا النفوذ المكتسب، وتحذيرات الباحثين الأمريكيين من بقاء القرارات الكبرى رهينة في مبنى وزارة الدفاع الأمريكية.

الصدام مع سيد البيت الأبيض

مؤشرات تنامي نفوذ العسكريين في العقود الثلاثة الأخيرة وتنامي نفوذهم إلى درجة رفض قرارات للرئيس

لا ينال القادة العسكريون كل ما يريدونه على الدوام، غير أنهم غالباً ما يحصلون على أكثر مما يستحقون. 

ويتّسع نطاق صلاحياتهم كي يشمل نطاقاً أوسع من تلك القرارات التي تتصدر عناوين الصحف وتكون متعلقة بنشر القوات خارج البلاد أو تقليص عديدها.

هكذا لخصت مجلة فورين أفيرز في تقرير حديث لها طبيعة ما يجري في صراع مدني عسكري في قاعات صناعة القرار الأمريكي.

ورصد التقرير على امتداد العقود القليلة الماضية، كيف أحبط كبار القادة العسكريين بانتظام قرارات رئاسية حول السياسة العسكرية أو أخَّروا تطبيقها.

ويتجلى نفوذ العسكريين مئات المرات يومياً من خلال المناورات البيروقراطية داخل وزارة الدفاع الأميركية، والمناقشات المتعلقة بالسياسات في البيت الأبيض وأيضاً الإدلاء بشهاداتهم أمام البرلمان.

تتولّى تلك التفاعلات الروتينية توجيه عملية صنع القرارات بعيداً عن المدنيين في مكتب وزير الدفاع.

وتدفع بها نحو أصحاب البزّات العسكرية رغم أن القواعد "المكتوبة" تلزمهم بالعكس. 

ومع حلول 2018، تدهور ذلك الوضع إلى درجة استنتجت فيها لجنة استراتيجية الدفاع الوطني، التي شكّلها الكونغرس من أعضاء في الحزبين، أن الافتقار إلى أصوات مدنية تسهم في صنع القرار المتعلق بالأمن القومي، عمل على "تقويض مفهوم السيطرة المدنية". 

تلك المشاكل صارت أكثر حدّة خلال إدارة ترمب، حين أصبح المدنيون بلا أي تأثير في مكاتب وزارة الدفاع.

أصبحوا موظفين غير ثابتين يعملون بالنيابة وفي وظائف شاغرة.


"فيتو" عسكري يوقف قرارات رئاسية

في صيف 2020 قتلت الشرطة الأمريكية جورج فلويد، وهو أمريكي منحدر من أصول إفريقية، وقامت القيامة.

وعاشت الولايات المتحدة وقتا عصيبا من الاحتجاجات العنيفة والمظاهرات، وبعجرفته الاعتيادية هدد ترامب بإنزال الجيش إلى شوارع المدن التي تشهد احتجاجات.

وزير الدفاع مارك إسبر لم ينتظر كثيرا، وظهر في ندوة صحافية لم تكن مبرمجة ورد بحزم واضح على ترامب قائلا “الجيش لن ينزل إلى الشوارع، لقد أدى اليمين لحماية الشعب والوطن”.

من الصعب قيام إسبر بهذه الخطوة من دون ضغط من الجيش، وتنسيق مع كبار الجنرالات أصحاب النفوذ في قرارات البنتاغون، وهو الذي يعلم بتسرع ترامب في القرارات ومنها احتمال إقالته فورا. 

ولم تكن المرة الأولى التي يصطف فيها جنرالات البنتاغون ضد قرار للرئيس. 

في السنوات الأخيرة، انتصر "العسكريون" في الكثير من المواقف التي استدعت خلافا مع "المدنيين" في البيت الأبيض.

كولن باول في 1993، حينما تولى رئاسة هيئة الأركان المشتركة، منع الرئيس بيل كلينتون من إنهاء الحظر على المثليين للالتحاق بالقوات المسلحة. 

اشتكى الرئيسان باراك أوباما وترمب حصار الضباط لهما عبر تقليص الخيارات العسكرية المتاحة وتسريب معلومات.

وأجبروا الرئيسين أيضاً على زيادة عدد القوات مع أنهما لم يكونا يؤيدان ذلك.

وأشار جنرالات أوباما إلى أنهم لن يقبلوا بأقل من اتخاذ الإجراءات اللازمة بهدف مكافحة التمرد في أفغانستان مكافحة شرسة، على الرغم من معارضة البيت الأبيض ذلك. 

وكان ترمب يعتقد أن كبار القادة العسكريين يقاومون أوامره بسحب القوات من أفغانستان وسوريا، بدعوى أنها سياسات من شأنها أن تلحق الأذى بالأمن القومي.


وبوادر "تمرد" عسكري على رئيس مثل ترامب

وفي عهد ترمب، هلّل عدد من الديمقراطيين لجنرالات عاملين أو متقاعدين رفضوا الانصياع إلى قرارات الرئيس. 

وفي حالة قصوى، حثّ بعض معارضي ترمب كبار القادة العسكريين على التفكير في إزاحة الرئيس من منصبه. 

في أغسطس/ آب 2020، كتب اثنان من الجنرالات المتقاعدين المعروفين جيداً، رسالة مفتوحة إلى مارك ميللي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، يطلبان منه فيها بخلع الرئيس ترامب إذا رفض أن يغادر منصبه بعد خسارته انتخابات 2020. 

ربما طمأنت تلك الإشارات من يشعرون بالقلق بشأن سياسات ترمب التي تعاني الفوضوية والغرابة.

لكنها قوّضت السيطرة المدنية من خلال اقتراح أن مهمة العسكريين تتمثل في إبقاء السلطة التنفيذية تحت السيطرة. 

وحينما يؤيد السياسيون التمرد العسكري الذي يصبّ في مصلحتهم، فإنهم يلحقون الأذى الطويل الأمد بمبدأ الأسبقية المدنية.


وزير الدفاع أصبح عسكريا "غير متقاعد"

هناك مثلا إصلاحات عام 1947 التي نصّت على أن وزير الدفاع لا يمكن أن يكون جنرالاً تقاعد قبل فترة قصيرة، واشترطت مرور سبع سنوات على تقاعده.

بشكل متزايد، يستعين السياسيون بمن لديهم خبرة عسكرية كي يديروا البنتاغون، حتى لو تمر السنوات السبع على تقاعدهم. 

هكذا، قرّر ترمب تعيين الجنرال المتقاعد ماتيس، وزيراً للدفاع، وفعل بايدن الشيء نفسه حين أسند المنصب نفسه إلى لويد أوستن. وفي الحالتين كلتيهما، توجّب على الكونغرس أن يتنازل عن شرط تقاعد الضباط مدة سبع سنوات على الأقل، قبل السماح لهم بالإمساك بأرفع منصب في الوزارة. 

وبالتالي، فقد مَثَّل ترشيح ماتيس وأوستن قطيعة مع تقاليد وقوانين طُبّقَتْ لأكثر من سبعة عقود.


تأثير الجنرالات على المنافسة بين الحزبين

يحاول السياسيون في الحزبين الرئيسين الاستفادة من هيبة العسكريين في مواجهة النقد وهجمات منافسيهم. 

وغالباً ما يزعم المرشحون في إطار الحملات الانتخابية أن القوات تفضلهم على خصومهم. 

في ذلك السياق، حمل أحد إعلانات ترمب في الانتخابات الرئاسية 2020 شعار "ادعموا قوّاتنا".

واستشهد بايدن باستطلاع للرأي في صحيفة "الأزمنة العسكرية" يظهر أنه هو الذي يحظى بدعم العسكريين. 

وعلى الدوام، يسعى المرشحون إلى كسب تأييد الجنرالات المتقاعدين بل يستخدمونهم رأس حربة في الهجوم على خصومهم السياسيين. 

على تلك الشاكلة، عمد مايكل فلين خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في 2016، وهو مستشار ترمب الذي كان في ذلك الحين قد أمضى مجرد سنتين خارج الخدمة، إلى انتقاد هيلاري كلينتون مُنافِسَة ترمب، وشجّع الحشد على ترديد هتاف "احبسها".

وفي أكثر من مرّة، ألقى ترمب إبّان ولايته الرئاسية خطابات لها طابع حزبي قوي أمام جمهور من عسكريين نظاميين يرتدون زيّهم الرسمي.


البنتاغون يساهم في "عسكرة" الشرطة أيضا

لعب البنتاغون دورا رئيسيا في تسليح قوات الشرطة الأمريكية، مما ساهم في مشاهدة حلقات التدمير في البلاد بعد أن استخدمت الشرطة أسلحة عسكرية.

حدث ذلك لأول مرة ضد أولئك الذين احتجوا على قتل المراهق الأسود الأعزل مايكل براون في فيرغسون بولاية ميسوري في عام 2014.

واستمر عنف الشرطة ضد المجتمع الأسود في أعقاب مقتل جورج فلويد.

وأثر البنتاغون سلبا على الشرطة الأميركية من خلال "برنامج 1033"، والذي نقل في السنوات الأخيرة كميات هائلة من المعدات العسكرية الزائدة، وأحيانا بشكل مباشر من ساحات القتال في “الحروب الأبدية”، إلى إدارات الشرطة في جميع أنحاء البلاد.

نعم، أسلحة قتالية للشرطة، بلغت قيمتها  1.8 مليار دولار منذ 1993، وتشمل581 ألف قطعة منها دبابات ومركبات مقاومة للألغام وبنادق هجومية.

ووجدت دراسة أجريت عام 2017 أن أقسام الشرطة التي تلقت مثل هذه المعدات هي التي قتلت المدنيين بشكل أكبر من المفترض أن تحميهم وتخدمهم.


زيادة عدد الجنرالات الكبار

يشعر الكثيرون في الولايات المتحدة أن البنتاجون قد عمد إلى زيادة أعداد الجنرالات والأدميرالات منذ عام 2001، بذريعة الحرب على ما يُسمي بالإرهاب، لإظهار الجدية أمام الشعب.

بينما توضح الأرقام أن تلك الأعداد الغفيرة من الجنرالات في النهاية من يدفع رواتبهم ورواتب مساعديهم، هو الشعب الأمريكي الذي يدفع الضرائب.

وازداد معدل القيادات المرموقة ، أي الضباط من أصحاب الأربعة نجوم، مقارنة بالعدد الإجمالي للقوات، بنسبة قدرها 65%.

يحظى جنرالات الطبقة العليا من ضباط الجيش الأمريكي بمزايا كثيرة تتصل بالثروة والنفوذ أثناء الخدمة وبعدها، وربما كان أكبر هذه المزايا اقتناع الشعب الأمريكية بقداسة المؤسسة العسكرية ونزاهتها المطلقة، كما تشرح السطور التالية.

مصنع الأبطال الخارقين

كيف صنع الجيش الأمريكي لنفسه هالة مقدسة تحميه من المساءلة الشعبية والقانونية

يفضل أغلب الأميركيين أن يضعوا العسكريين على قاعدة حجرية كتلك المخصصة للتماثيل، ويتأملوهم من بعيد، كما يقول تقرير فورين أفيرز

وأصبح ترديد شعار "ادعموا قواتنا" بديلاً عن أداء الواجب الوطني الذي يقضي بمساءلة المؤسسة التي تخدمها تلك القوات.

وتتردد أعداد كبيرة من المواطنين في الإفصاح عن آرائهم ردا على أسئلة الاستبيانات عن القوات المسلحة.

ويتحفّظون أكثر من ذلك بكثير حينما يتعلق الأمر بانتقاد القادة العسكريين. 


بداية نفوذ البنتاجون في السياسة الخارجية 

أقرّ الكونغرس "قانون الأمن القومي" عام 1947 لتنظيم مهام الحرب الباردة مع المعسكر السوفيتي، وتأسيس ذلك القانون الكيان الذي سيصبح في نهاية الأمر وزارة الدفاع،.

اختار القانون أن يضع على رأسها وزير دفاع مدني، من شأنه أن يغنيها بالخبرة في إدارة السياسات البيروقراطية والمحلية. 

الوظيفة الحصرية لوزير الدفاع الأمريكي هي ضمان أن تكون النشاطات العسكرية متوائمة مع أهداف الأمة التي يحددها القادة السياسيون المنتخبون. 

ومنح الكونغرس الوزير كوادر مدنية للاستفادة من خبراتهم في الحكومة والأعمال التجارية والميدان الأكاديمي.

وفي 1986، أبطل الكونغرس من دون قصد أشياء كثيرة في ذلك القانون. 

أجرى الكونغرس إصلاحاً واسعاً في قانون 1947، جرّد القادة المدنيين من سلطات وموارد كثيرة، ومنحها إلى نظرائهم العسكريين. 

واستنادا إلى ذلك القانون، حلّت كوادر عسكرية كبيرة بديلاً من المدنيين في وزارة الدفاع وبقية القطاعات الحكومية. 

ومثلاً، يعتمد السفراء وغيرهم من المسؤولين المدنيين في أحيان كثيرة حاضراً، على القيادات الإقليمية للجيش الأمريكي وأساطيله الكبرى، للحصول على خدمات لوجستية. وأصبح لهؤلاء القادة صلاحيات دبلوماسية فعلية بحكم الأمر الواقع.

وأصبح متاحا لهم إجراء اتصالات متكررة مع نظرائهم العسكريين في الخارج، بل وقادة الحكومات الأجنبية. 

وبالتالي، تزايدت أعداد المسؤولين العسكريين ممن يديرون برامج المساعدة والتعاون الأمني وتنامَى نفوذُهم، ما أسهم في تهميش نظرائهم المدنيين في وزارة الخارجية.

ونجح العسكريون في فرض "تقليد" جديد على الصحافة والرأي العام، هو عدم جواز محاسبة العسكريين، أو انتقادهم، أو حتى طلب معلومة منهم.


هوليوود تمنح الجنرالات عباءة السوبرمان

ينجذب الأميركيون بشكل متزايد إلى القوات المسلحة كأنها صنم يتعبدونه، حسب تعبير التقرير الذي نشرته فورين بوليسي.

يعتقد هؤلاء أن الوطنيين الحقيقيين يتمثّلون في من يرتدون الزي العسكري. 

ويثق الجمهور في أميركا بالعسكريين أكثر من أي مؤسسة وطنية أخرى، حسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "غالوب". 

ويعني ذلك الإعجاب إلى جانب تراجع الثقة بالمنظمات المدنية، أن قطاعات كبيرة من السكان تعتقد أن من يلبسون الزي العسكري يجب أن يديروا القوات المسلحة، بل ربما الدولة نفسها أيضاً.

واستغل جنرالات البنتاغون الظاهرة، وقرروا الاستفادة منها.

من خلال زيادة الإنفاق العسكري، عملت القوات المسلحة بمهارة على إعادة تأهيل صورتها عبر الثقافة الشعبية. 

ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، تعاون البنتاغون في صناعة أفلام ذات ميزانيات ضخمة مثل توب غان Top Gun، بطولة توم كروز.

وساعدت وزارة الدفاع على إنتاج أفلام الأبطال الخارقين على غرار كابتن مارفل. 

وكذلك تعلمت المؤسسة العسكرية أنها تستطيع التأثير في حبكات القصص وتعزيز تميّز علامتها التجارية، من خلال توفيرها للمعدات مشروطاً بموافقتها على نصوص الأفلام.

فيديو دقيقة ونصف: إعلان فيلم Top Gun

العسكريون في منافسة حادة مع نظرائهم المدنيين على صناعة القرار، لكن الحافز الأكبر لهم هو النفوذ الشخصي، والثروات الهائلة التي يجنيها الجنرال في الخدمة وبعد التقاعد، كما تستعرض السطور التالية.

تجار الحروب

شبكات المصالح التي تشجع الحروب وتستأجر مراكز الأبحاث وتدمج الجنرالات المتقاعدين "بالمثلث الحديدي"

بعد فترتين في مقعد الرئيس بين 1953 إلى 1961، توجه الرئيس دوايت أيزنهاور إلى الشعب الأمريكي بكلمة وداع أصبحت من أشهر  الخطب في تاريخ أمريكا.

ذلك أن أحدا لا ينسى التحذير الذي أطلقه الرجل بشجاعة نادرة، ضد شبكات المصالح العسكرية.

أطلق عليهم الرجل تعبير "المجمع الصناعي العسكري".

وحذّر من "النفوذ الذي لا مبرر له، سواء كان بطلب أو بغير طلب من المجمع الصناعي العسكري".

وكان يقصد التحالف بين المؤسسة العسكرية الضخمة ممثلة في وزارة الدفاع (البنتاغون) وكبريات شركات الصناعات العسكرية.

تحالف يتمتع بنفوذ واسع على الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويمنحه الكونغرس موافقات بصورة روتينية على كل مقترحاته التي يرسلها لنواب الشعب.

ويمرر في مجلسيه -النواب والشيوخ- ميزانيات الدفاع من دون نقاشات أو تحفظات ذات قيمة.

وتعد الميزانية العسكرية إحدى القضايا النادرة التي يتنافس فيها الحزبان على إرضاء البنتاغون.

هذه الميزانية العسكرية التي تقترب قيمتها من 800 مليار دولار سنويا، تتخطى إجمالي ميزانيات الدفاع لأكبر 10 دول من حيث الإنفاق العسكري، وهي الصين والسعودية وروسيا والهند وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية والبرازيل.

لا أحد يجرؤ على السؤال أو المساءلة.

شركات السلاح ومراكز الأبحاث في خدمة اللوبي

تقوم ماكينة معقدة من شركات "اللوبي" بالضغط على أعضاء الكونغرس لزيادة ميزانية الدفاع أو الاحتفاظ بحجمها على الأقل. 

وإضافة إلى شركات السلاح الكبرى -التي تسعى لمضاعفة تعاقداتها مع الحكومة الأميركية- تضم واشنطن مراكز بحثية مختلفة تدعم تضخم الميزانية العسكرية وتدافع عن ذلك.

يساهم باحثون معروفون يحظون بالتقدير، في إلهاب مشاعر المواطنين بالقلق من أعداء غير واضحين لأمريكا، والحلم الأمريكي.

وبدلا من الحديث عن انخفاض التهديد للولايات المتحدة صاحبة أقوى جيوش العالم وأكبر ميزانية عسكرية، يتم التركيز على زيادة التهديدات.

والمبالغة في ارتفاع حجم المنافسة الإستراتيجية من الصين وروسيا.

وتدق أجراس الإنذار بشأن مخاطر إيران وكوريا الشمالية، إضافة إلى التهديدات الإرهابية.


الملايين التي "تختفي" في أفغانستان والعراق

لأن كل "غزوة" للجيش الأمريكي خارج الحدود، تفيض بثمارها على أشخاص وجهات وشركات عديدة.

حتى مع صور الانهيار والفوضى في الإجلاء من كابل، يتجنب الأمريكيون طرح أسئلة جادة حول من المستفيد من إنفاق 241 مليون دولار يوميا لمدة 20 عاما! 

ولا يمكن فهم ما جرى ويجري سواء في أفغانستان أو العراق، إلا بعد تفكيك وفهم كيف وزعت هذه الأموال.

وإلى أي حسابات بنكية انتهى بها المطاف.

حسابات مرتبطة بالشركات الكبرى أو شركات المتعاقدين الحكوميين التي يمتلك أغلبها مسؤولون عسكريون سابقون.

ويشير تقرير المفتش الخاص لشؤون أفغانستان بالبنتاغون، إلى وجود 22 ألفا و500 من المتعاقدين الممولين من ميزانية البنتاغون في أفغانستان بتكلفة تبلغ مئات الملايين من الدولارات سنويا.

والملايين التي يجنيها الجنرال المتقاعد

في الولايات المتحدة، تسمح ظاهرة "الباب الدوار" بخروج مسؤول حكومي للعمل في شركات ومؤسسات خاصة، ثم يعود مرة أخرى بعد سنوات للعمل الحكومي وتولي مناصب حكومية رفيعة مرة أخرى.

هذا السيناريو يخلق شبكة معقدة من العلاقات الشخصية والخاصة التي لا تتردد في توريط الولايات المتحدة في حروب لا طائل منها. 

وما يكسبه الجنرال بعد التقاعد قد يكون أكثر مما يجنيه طوال الخدمة.

كل المسؤولين السابقين ينضمون لمجالس شركات تصنيع السلاح الكبرى، أو كبريات صناديق الشركات الاستثمارية أو يعملون في شركات اللوبي. 

وزير الدفاع الحالي الجنرال لويد أوستن -بعد تقاعده في 2016- انضم إلى مجالس إدارات عدة شركات على رأسها شركة رايثيون، أحد أكبر مصنعي السلاح الأميركي التي يعد البنتاغون عميلها رقم واحد. 

وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس يعمل مستشارا لشركة "جنرال ديناميكيس" أحد أكبر مصنعي السلاح الأميركي، التي يعد البنتاغون عميلها رقم واحد، مقابل راتب سنوي يبلغ 900 ألف دولار.

وعلى الرغم من افتخار الأميركيين بديمقراطية بلادهم، فإنها تتمتع أيضا بنظام سياسي قد يكون الأكثر فسادا في العالم؛ ولا يدرك معظم الأميركيين هذه الحقيقة لأن الفساد هناك يكتسب الصفة القانونية. 

ورغم أن أغلب الأميركيين يؤمنون بأن حكومتهم "حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب"، فإن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهي تبدو "حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات"، وعلى رأس هذه الجماعات يأتي المجمع العسكري الصناعي.

فيديو أقل من دقيقتين: إيزنهاور في خطبة الوداع يحذر من المجمع الصناعي العسكري، ويقول إن "كل بندقية يتم تصنيعها، وكل سفينة حربية يتم تدشينها، وكل صاروخ يتم إطلاقه، يعني في النهاية سرقة من أولئك الذين يجوعون ولا يجدون الطعام، ويشعرون بالرد ولا يجدون الملابس"

سيدي الرئيس أوباما..
إحذر نفوذ الجنرالات

نفوذ العسكريين على القرارات الأمريكية يهدد بعدم الاستقرار محليا ودوليا وطغيان الحروب على  مبادرات التعايش

في عام 2009، صدرت ورقة مهمة عن مركز السياسة العالمية في واشنطن، توصي بتحويل دفة السياسة الخارجية من الطابع الهجومي الذي طغى عليها.

كتب الورقة الباحث دونالد. اف. هير الذي عمل في وزارة الخارجية لمدة عشر سنوات وأمضى أكثر من ربع قرن محللا سياسيا رفيع المستوى في مكتب وزير الدفاع حتى 2006.

من أعماق خبرته بمناورات الغرف المغلقة ومناورات الجنرالات، استخلص "هير" توصية إلى الرئيس الجديد وقتها باراك أوباما، ملخصها هو اعتماد سياسة خارجية عالمية وليست إمبريالية.

قال إن السياسة التوسعية سوف تقوض دور وزارة الدفاع.

والأفضل هو الاعتماد على أجهزة المخابرات وأجهزة فرض القانون لمواجهة الأخطار الإرهابية، وتحويل الإمكانيات العسكرية من العمليات القتالية إلى عمليات حفظ الأمن والاستقرار.

اقترحت الدراسة على وزير الدفاع خفض ميزانية البنتاغون بنسبة 20% على مدار أربع سنوات.

وتقليل دور البنتاغون القيادي في الحرب على الإرهاب.

والاستعانة بقوة قتالية صغيرة الحجم لمواجهة أي أخطار مستقبلية.

لكن ما نسيه الباحث هو أن هناك صعوبة بالغة في تنفيذ هذه التوصيات.

الجنرالات لن يتنازلوا بسهولة عن المزايا المكتسبة والموازنات غير المسبوقة حتى في أيام الحرب الباردة لصالح الدبلوماسية.

وأوباما كان يعرف ذلك، فذهل إلى عكس ما نصح به الباحث النزيه!

باشر بالفعل أولى خطوات التقارب من الجيش ووزارة الدفاع على أمل تحقيق درجة من الثقة المتبادلة تقيه شر "الجنرالات" إلى حين تحقيق نجاحات اقتصادية أو سياسية.

وهكذا، ولمرة ليست أخيرة، وقف الجنرالات سدا منيعا ضد ما يريده ساكن البيت الأبيض.


أمريكا تعيش "اقتصاد حرب" بصورة دائمة

يوجد داخل المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة من يشخصون اقتصاد بلادهم بأنه اقتصاد حرب.

بمعنى أن الولايات المتحدة فى حالة بحث دائم عن عدو يشعل وجوده الحروب، حتى تظل ماكينة اقتصاد الحرب فى دورانها، وأن تظل مصدر إلهام للاستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية، التي تضمن هيمنة أمريكا على النظام العالمى.

وفى الأوقات التى تعانى فيها قطاعات اقتصادية مدنية من متاعب إنتاجية، فإن أكبر مصانع السلاح لا تتأثر بذلك، وتظل تتلقى طلبات لا تتوقف، للتصنيع وتشغيل عمالة جديدة والتطلع إلى استثمارات إضافية مضمونة، وهى بذلك تساعد على إنعاش القطاع الإنتاجى بصفة عامة.

توجد سبع ولايات بأكملها يعيش سكانها على نشاط الصناعات العسكرية، سواء فى مجالات إنتاج السلاح، أو حتى تصنيع ملابس الضباط والجنود، أو الأزرار النحاسية لملابسهم، أو الخيام.

وبخلاف ما حدث من تراجع الاقتصاد المدنى فى السنوات الأخيرة، فإن الاقتصاد العسكرى زاد بنسبة 123% عما كان عليه في 2000.

ولخصها ويليام كوهن، وزير الدفاع فى الولاية الثانية لـ«بيل كلينتون»، فى خطاب أمام اجتماع لمؤسسة مايكروسوفت في مدينة سياتل.

«إن رخاء الشركات أمثال مايكروسوفت لم يكن ليتحقق دون القوة العسكرية التي تملكها الولايات المتحدة».

وطوال العقدين 2000 ــ 2020 إذن كانت الإمبراطورية المترنّحة تقاوم السقوط بواسطة العسكرة، وتعالج جراح التراجع الحضاري والاقتصادي أمام الصين وروسيا.


كل حرب أمريكية كأنها فرصة عظيمة للربح

التراجع في دور الدبلوماسية الأمريكية ليس بالأمر الجديد، أو مرتبط بإدارة "ترامب" فقط، لكنه يرى أن ذلك يعود لعقود مضت، حيث حاول بعض الرؤساء الأمريكيين تقليص نفوذ وزارة الخارجية لصالح المؤسسات العسكرية والاستخباراتية. 

لكن التراجع التدريجي قد بدأ يظهر بوضوح منذ إدارة جورج بوش الأب.

أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 شكلت منعطفًا خطيرًا باتجاه عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية، والاعتماد على القادة العسكريين في المناصب الرئيسية للتفاوض، وهو ما أدى إلى التركيز على الحلول العسكرية بدلًا من الدبلوماسية والسياسية.

لكن هذا التوجه والحرب على الإرهاب وعلى العراق قد أحدث فوضى أكثر مما تحقق من أمن وسلام للولايات المتحدة.

وبالرغم مما أظهره الرئيس "أوباما" من احترام للدبلوماسية الأمريكية، إلا أنه فعليًا كان أكثر عسكرة للسياسة الخارجية الأمريكية من إدارة "بوش" الابن. وفي عهده باعت الولايات المتحدة أسلحة أكثر من أي دولة أخرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

إضعاف الدبلوماسية كان لصالح ازدهار صناعة السلاح الأمريكي.

وشركات الأسلحة باتت اللوبي الأقوى اليوم داخل الولايات المتحدة. 

ويرى الصحفي الأمريكي رونان فارو Ronan Farrow أن منبع قوة شركات الأسلحة يأتي من كونها قوة متداخلة بعمق في جميع مؤسسات صنع القرار الأمريكي.

علاوة ًعلى تمويلها مراكز فكر ومؤسسات بحثية تساعد في تحسين صورتها الذهنية لدى المجتمع المحلي والدولي. 

ويضيف في كتابه "الحرب على السلام: نهاية الدبلوماسية وانحسار النفوذ الأمريكي" أن تلك الشركات تتعامل مع كل حرب أمريكية كأنها فرصة عظيمة للربح من أجل بيع أسلحة أكثر، وعقد صفقات أكبر". 

"في دواليب الحكومة، علينا أن نقاوم ضدّ النفوذ المتنامي للمجمع الصناعي العسكري. إن تهديد الصعود الكارثي موجودٌ وسيستمر، علينا ألا ندع هذا يهدد حرياتنا ومسارنا الديمقراطي".

قالها آيزنهاور قبل 60 عاما، ولم ينتبه أحد.

واستمرار النهج الأمريكي المتعلق بإضعاف الدبلوماسية لصالح العسكرة، ستكون عاقبته تداعيات خطيرة على الأمن القومي الأمريكي. 

والمزيد من تهميش وزارة الخارجية في صياغة السياسة الخارجية لصالح الجيش، يعني مزيدا من الفشل في إيجاد حلول للمشاكل السياسية والأمنية التي تواجهها واشنطن في الخارج، وربما في الداخل أيضا.