مليون مسلم في معسكرات «تغيير العقيدة»

الإيغور يعانون أكبر جريمة إنسانية وطائفية على وجه الكوكب
في ظل صمت عالمي بلا مثيل، ولا مؤشرات على نهاية للمأساة.

مثل كل إخوانهم من مسلمي الإيغور في الصين، وهم أكثر من مليون نسمة تعيش في الإقامة الجبرية.

في معسكرات "تصحيح العقيدة"، أو كما تسميها سلطات بكين معسكرات «إعادة التثقيف».

الإيغور يعانون أكبر جريمة إنسانية وطائفية على وجه الكوكب، في ظل صمت عالمي بلا مثيل، ولا مؤشرات على نهاية للمأساة.

فرخاد واحد منهم.

يعيش فرخاد في حالة من الشك حول مصير زوجته مريم، التي كانت تزور بلدتها في أرتوس بشينجيانغ شمال غرب الصين، وبعثت برسالةٍ مذعورة لفرخاد تقول إنَّ الشرطة اعتقلتها.

ومنهم الطلاب الذين حجزوا تذاكر عودتهم إلى مدينتهم بنهاية الفصل الدراسي، أملاً في عطلةٍ هادئةٍ عقب الامتحانات، وصيفٍ يقضونه في لم شملٍ سعيد مع العائلة في أقصى غرب الصين. وبدلاً من ذلك، سيعلمون أنَّ آباءهم ذهبوا.

وأقاربهم اختفوا.

وجيرانهم فُقِدوا.

وجميعهم محتجزون داخل شبكةٍ مُتوسِّعة من معسكرات الاعتقال التي بُنِيَت لاحتجاز الأقليات العرقية المسلمة.

كتب فرخاد لزوجته: «يا روحي، ماذا يمكنني أن أفعل؟».

ردت عليه مريم: «لا تفعل أي شيء. لا تأتِ للصين. لا تبحث عني»

وتوجه الطلاب إلى السلطات بعدة أسئلة، أولها: أين عائلتي؟

وكان الرد: "إنَّهم في مدرسة تدريب جهَّزتها الحكومة. أقاربكم ليسوا مُجرمين، ولكنَّهم لا يستطيعون مُغادرة تلك المدارس".

الإيغور Uyghurs يشكلون أقلية في الصين، مع أقليات مسلمة أخرى مثل الكازاخ والهوي والأوزبك، وآخرين محتجزين في شبكةٍ من معسكرات الاحتجاز في شمال غرب مقاطعة شينجيانغ الصينية.

نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019، هي الموعد الذي حددته السلطات للانتهاء من "دمج" 1.69 مليون مواطن من الأقلّيات العرقية، في جسد أمة المليار و386 مليون نسمة.

ما هي حكاية المليون مسلم المسجونين في "مدارس الشيوعية الصينية"؟

كيف بدأت المأساة؟

وكيف يعيش الإيغور وإخوانهم فصولها الحزينة، غير الآدمية؟

هذا التقرير يستعرض قصة أكبر اعتقال جماعي لسكان أقلية في العالم في الوقت الراهن، الأسباب والاحتمالات، وعناء الحياة داخل مقاطعة شينجيانغ، أو في المنفى خارجها. 

ذهب جين بونين إلى شينجيانغ Xinjiang للكتابة عن مطاعم الصين، ولكن بعد 18 شهراً اكتشف كيف يعيش مسلمو الإيغور في رعب وخوف من الاضطهاد والاعتقال و"إعادة التعليم" الإجبارية. والتعليم هنا لا يعني الرياضيات والأدب بل الهوية والتاريخ الصيني. 

يختبرونهم لاحقاً ومن يفشل فإلى السجن وبئس المصير.

روى جين بونين لصحيفة The Guardian كيف دخل مطعم كريم لأولّ مرةٍ بهدف الكتابة عنه ضمن دليل مطاعم الإيغور في «الصين الداخلية»، ذات الطابع التقليدي الصيني.

ونظراً لأنه قضى عقداً في البحث حول الإيغور -وهي أقلية عرقية ذات أغلبية مسلمة تتركز بصورة أساسية في أقصى غرب منطقة شينجيانغ، خارج الصين الداخلية- كان الغرض من مشروعه لإعداد دليل الطعام هذا أن يكون عملاً مسلياً وفرعياً لدراساته اللغوية الاعتيادية.

في مطعم كريم وجد بونين الأرز، بيلاو، وتبادل أطراف حديث مهمة عما يجري للإيغور.

بينما كان مرتادو مطعم كريم يتجاذبون أطراف الحديث في ربيع 2017، كان مسقط رأسهم في شينجيانغ -التي تضم أكثر من 10 ملايين من الإيغور- يخضع بالفعل لما سمّته الدولة الصينية "الهجوم الشامل الذي يستهدف التطرف الديني والإرهاب".

سأل نفسه: متى وكيف وأين بدأت الأحداث؟

كان السكان الأصليون لمناطق الإيغور الحالية من الشعوب الإندو- إيرانية القديمة، ذوي الملامح القوقازية الذين يمتون بصلة قرابة للإيرانيين والأفغان الحاليين، بينما تبدو الملامح الآسيوية الناتجة من تدفق الدماء التركية على الإيغور واضحة. 

هم شعوب تركية، واحدة من 56 عرقية في جمهورية الصين الشعبية. يتركزون في منطقة تركستان الشرقية ذاتية الحكم، والتي تعرف باسم شينجيانغ، على مساحة تعادل 1/6 مساحة الصين، وبعضهم يعيش أيضا في بعض مناطق جنوب وسط الصين، ويدينون بالإسلام.

بعض قبائل الإيغور اعتنقت الإسلام في القرن الحادي عشر الميلادي.

رفع العلم الصيني فوق مسجد محلي أغلقته السلطات في مدينة كاشغار القديمة في يونيو 2017.

رفع العلم الصيني فوق مسجد محلي أغلقته السلطات في مدينة كاشغار القديمة في يونيو 2017.

احتلت الصين منطقة "تركستان الشرقية" وضمتها إليها في العام 1949، وأسمتها شينجيانغ، أي الإقليم الجديد. 

وبين الصينيين والإيغور حاجز كبير وتاريخي من الدم لا يجف.

تعرض الإيغور لمذبحتين مروعتين على يد الصينيين، الأولى عام 1863، والثانية عام 1949، عندما ألغت الصين الحكم الذاتي لتركستان الشرقية وضمتها إليها بعد قتل مئات الآلاف من المسلمين.

حاجز من الدم، ومن انتفاضات الإيغور المتتالية من أجل الاستقلال.

بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، كثف النظام الصيني مطاردته للاستقلاليين الإيغور، واستعاد بعضهم من باكستان وكازاخستان وقرغيزستان، مستغلاً ما يسمى "الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب".

وفي عام 2009، شهد الإقليم احتجاجات جديدة تطالب بالاستقلال عن الصين، سقط فيها أكثر من 200 شخص. ومنذ ذلك الحين والسلطات الصينية تشدد من الإجراءات الأمنية على سكان الإقليم.

وأخذ المسؤولون مسألة الأمن إلى درجات قصوى جديدة بعد أن تولى شي جين بينغ رئاسة الصين في عام 2012، وطالب بإنهاء الهجمات الدامية المتزايدة ضد الصين من قبل الإيغور. امتدت هذه الهجمات إلى مناطق أخرى في الصين، بما في ذلك هجوم وقع في عام 2014، عندما قتل جناة يحملون السكاكين 31 شخصاً بالقرب من محطة قطار. وأصبحت السجون ومعسكرات إعادة التأهيل سلاحاً في حملة الحكومة لقمع الاضطرابات.

وتُحمِّل السلطات الصينية المسؤولية عن العنف بصورة شمولية "لإرهابيين" غير محدَّدين، لكنها تُلمّح بين الفينة والأخرى لحركة تركستان الشرقية الإسلامية، التي نتحدث عنها في السطور التالية.

حركة شرق تركستان الإسلامية، أو حزب الإسلامي التركستاني الآن، هي منظمة مسلحة إيغورية انفصالية تدعو إلى إنشاء دولة إسلامية مستقلة في تركستان الشرقية شمال غرب الصين.

وتكافح هذه الحركة من أجل الحصول على استقلال إقليم شينجيانغ ذي الغالبية المسلمة من عرقية الإيغور.

تم تصنيفها من قبل الأمم المتحدة سنة 2002 كمنظمة إرهابية، كما أدرجت واشنطن علناً حركة شرق تركستان الإسلامية على قائمة التنظيمات الإرهابية في 2002. ووصفت الخارجية الأمريكية عام 2006 الحركة بأنها "صاحبة التسليح الأكبر بين مجموعات الإيغور العرقية الانفصالية".

اللافت أن واشنطن كانت تدعم الحركة في بدايتها، في سنوات الخلاف مع المعسكر الشرقي والشيوعية!

مؤسس وزعيم التنظيم هو حسن محسوم، ولا توجد تأكيدات على تاريخ بدء الحركة، لكن نشاطها أصبح ظاهراً في بداية التسعينيات فيما يبدو، إذ ألقت الشرطة الصينية القبض على محسوم عام 1993، بدعوى "تورطه في أنشطة العنف والإرهاب".

نجح محسوم في الهرب عام 1997 إلى أفغانستان، حيث أقام في معسكر تدريب للمقاتلين هناك، ثم سرعان ما تحول إلى مدرب للمقاتلين، قبل أن يُقتل برصاص الجيش الباكستاني عام 2003.

تصاعدت الطموحات الانفصالية للإيغور في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي منح بعض المجتمعات الإسلامية في وسط آسيا الاستقلال. 

وتحولت حركة تركستان الشرقية إلى سياسات أكثر راديكالية، تستهدف إنشاء دولة إسلامية في آسيا الوسطى، تضم إليها شينجيانغ. واتهمتها الحكومة الصينية، منذ بداية التسعينيات حتى الآن بأنها وراء العشرات من الهجمات حول الأراضي الصينية، كان من بينها ثلاثة أحداث عنف رئيسية خلال أولمبياد بكين عام 2008.

كما زعمت الحكومة الصينية أن حسن محسوم التقى أسامة بن لادن في عام 1999، وتلقى وعوداً بالدعم المالي. واعتقلت الولايات المتحدة 22 مسلحاً إيغورياً في مناطق القتال في أفغانستان وپاكستان في 2006، بناء على معلومات أنهم على صلة بتنظيم القاعدة. وقد اُعتقلوا لمدة تتراوح بين 5 إلى 7 سنوات في اقامة منفصلة في معسكر غوانتانامو.

اختفت حركة تركستان الشرقية من عناوين الأخبار، لكن لم يتوقف العنف، ولا القمع الجماعي لسكان الإقليم.

وسعت بكين طوال عقودٍ إلى قمع مقاومة الإيغور للحكم الصيني في سنجان.

وبدأت حملة القمع الحالية في أعقاب موجة العنف المناهض للحكومة والصين، بما في ذلك أعمال شغب عرقية عام 2009 في أورومتشي عاصمة المقاطعة، وهجوم مايو/أيار عام 2014 على أحد الأسواق في الشارع -مما أسفر عن مصرع 39 شخصاً.

لكن الحملة التي بدأتها حكومة الصين منذ ذلك الوقت تُعدّ غير مسبوقة في القمع والمطاردات وانتهاك كل الحقوق الآدمية، كما تشرح السطور التالية.

تعرفنا على خمسة منهم.

بين عشرات الرجال الذين ظهرت صورهم في معسكر الاحتجاز الرهيب في إقليم شينجيانغ الصيني، تعرف أصدقاء ومعارف على 5 منهم وأكدوا هويتهم ومهنتهم.

كانوا يستمعون إلى "خطاب مناهضة التطرف" بمعسكر في مدينة هوتان في أبريل/نيسان 2017.

هؤلاء الخمسة من بين 1.5 مليون شخص محتجز من الإيغور وأقليات عرقية مسلمة أخرى، بتهمة "احتضان آراء دينية متطرفة وآراء غير صحيحة سياسياً"، وتم احتجازهم في معسكر سياسي لإعادة التأهيل في منطقة سنجان

الصورة تظهر رجلاً تعرّف عليه أصدقاؤه

الصورة تظهر رجلاً تعرّف عليه أصدقاؤه

تلك المعسكرات تحتجز الناس ضد إرادتهم ويتعرضون للتلقين السياسي ويواجهون معاملة صعبة على أيدي المشرفين ويتعرضون لسوء التغذية والظروف الصحية الصعبة في تلك المعسكرات المزدحمة.

معسكرات تلقين.

معسكرات إعادة تأهيل.

معسكرات توجيه فكري وسياسي.

ما هي الحكاية وكيف بدأت؟

في تقريرها لعام 2017، كشفت منظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية عن الانتهاكات التي تمارسها الصين في شينجيانغ، "منطقة حكم ذاتي تضم 11 مليوناً من الإيغور الأتراك المسلمين، كثفت السلطات المراقبة الجماعية والتواجد الأمني رغم غياب أدلة تثبت وجود تهديد منظم. اعتمدت أيضاً سياسات جديدة تُنكر حقوق الإيغور الثقافية والدينية".

التفاصيل تشبه الكابوس.

وسعت حكومة منطقة شينجيانغ إجراءاتها الأمنية الشديدة بالفعل عبر توظيف آلاف عناصر الأمن.

أجبرت السلطات السكان في منطقة أورومتشي، عاصمة الإقليم، على تثبيت تطبيقات مراقبة على هواتفهم الخلوية. 

سحبت السلطات بصورة تعسفية جوازات سفر عدد من السكان.

احتجزت السلطات آلاف الإيغور وغيرهم من المسلمين بصورة تعسفية في مراكز أجبروا فيها على الخضوع لـ "تربية وطنية".

أمرت السلطات الطلاب الإيغور الذين يدرسون بالخارج، بما في ذلك مصر، بالعودة إلى شينجيانغ؛ فوراً.

اعتقلت السلطات المصرية من لم يعودوا، ربما بناء على طلب الصين.

اعتقل بعض من عادوا؛ وحكمت محكمة شينجيانغ على العالِم المسلم حبيب الله طهتي بالسجن 10 سنوات بعد عودته من "جامعة الأزهر" في مصر.

أفادت دراسة أجريت في عام 2016، انضمام 114 على الأقل من الإيغور إلى داعش، لكن تختلف التقديرات كثيراً ومستوى المشاركة لا يزال غير مؤكد.

وفي أبريل/نيسان، أصبحت لوائح مكافحة التطرف في شينجيانغ، بحظر إطلاق لحى "غير طبيعية" أو ارتداء حجاب في الأماكن العامة، نافذة المفعول. 

دورية شرطة تتجول داخل سوق للأطعمة الليلية في منطقة سنجان التابعة للأويغوريين قبل يوم واحد من عيد الفطر

دورية شرطة تتجول داخل سوق للأطعمة الليلية في منطقة سنجان التابعة للأويغوريين قبل يوم واحد من عيد الفطر

وأصدرت السلطات قانوناً جديداً يمنع أولياء الأمور من تسمية أطفالهم بعشرات الأسماء ذات الدلالات الدينية، مثل صدّام والمدينة على أساس أن ذلك يمكن أن "يزيد الحَمِيّة الدينية".

في تقرير العام التالي، قالت هيومان رايتس ووتش: تظهر أبحاثنا، لأول مرة، أن شرطة شينجيانغ تستخدم المعلومات التي جُمعت بطريقة غير قانونية عن الناس وتوظّفها ضدهم. 

من يخضع للرقابة؟

تستهدف منصة الشرطة جمع بيانات 36 فئة من المسلمين، تشمل مثلاً:

 من توقفوا عن استخدام الهواتف الذكية.

من سافروا إلى الخارج في رحلات "طويلة".

من لا "يختلطون بالجيران".

من "جمعوا المال أو المعدات بحماسة للمساجد"، إلخ.

الذين انطبقت عليهم إحدى الصفات السابقة ذهبوا إلى معسكرات التلقين، حيث تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب والإذلال وانتهاك العقائد والآدمية، كما تشرح السطور التالية.

أحد المساجد في إقليم  شينجيانغ

منذ 2018، كثفت الصين من الاحتجاز التعسفي الجماعي، بما يشمل في مراكز الاحتجاز والسجون قبل المحاكمة، وهي مرافق رسمية، وفي معسكرات "التلقين السياسي"، التي لا أساس لها بموجب القانون الصيني.

ومنذ 2018 تفرض السلطات على المسلمين الترك في شينجيانغ قيوداً غير عادية:

سحبت جميع جوازات السفر.

ألزمتهم بطلب تصاريح للسفر من بلدة إلى أخرى.

يخضعون إلى تلقين سياسي مستمر.

يخضعون للرقابة على الممارسات الدينية.

أخضعت السلطات أيضاً سكان شينجيانغ إلى مراقبة واسعة.

نشرت أكثر من مليون موظّف لمراقبة الناس، بما في ذلك من خلال برامج تطفلية يُكلَف المراقبون فيها بالبقاء في منازل الناس بانتظام.

تشير تقديرات موثوقة إلى وجود مليون شخص محتجزين إلى أجل غير مسمى في هذه المعسكرات، حيث يُجبَر المسلمون الأتراك على تعلم لغة الماندرين الصينية، والإشادة بالحكومة والحزب، والتخلي عن العديد من المظاهر المتعلقة بهويتهم المتميّزة. 

المبنى الذي يحتجز فيه الإيغورمكتوب عليه عبارات باللغة-الصينية والإيغورية لتلقين السكان

المبنى الذي يحتجز فيه الإيغورمكتوب عليه عبارات باللغة-الصينية والإيغورية لتلقين السكان

وكل من يقاوم ذلك، يعتبر فاشلاً في "التعلم" ويعاقب.

فما الذي يحدث في معسكرات التلقين؟

النزيلة السابقة لهذه المعسكرات غولي (23 عاماً)، ذهبت إليها بعد القبض عليها، بسبب تقارير تذكر أنَّها "كانت ترتدي حجاباً وتصلي".

ووصفت غولي مبنى عريضاً من طابقٍ واحد احتُجزَت فيه مع حوالي 230 امرأةً. وفي الداخل، طُلب من النساء أن ينشدن أغنيات وطنية لساعتين في معظم الأيام، وحفظ قانون تأديبي من 10 نقاط، والخضوع لجلسات نقدٍ ذاتي. وبالليل، تتناوب السجينات المراقبة للتأكد من أنَّ أياً منهن لا تغطي وجهها أو تدير ظهرها للكاميرات المثبتة على الجدار.

كانت معظم النساء من الإيغور أو الكازاخ، وقلةٌ منهن كنَّ من عرقية الهان الصينية. وقالت إحدى النساء لغولي إنَّها كانت هناك لأنَّ الشرطة وجدت رسالة «عيد سعيد» على هاتفها. 

لم تتعرض غولي لأي إساءةٍ بدنية، لكنَّ الضغط النفسي كان بالغاً. 

وتتذكر غولي امرأةً في الزنزانة المقابلة لزنزانتها، كانت يداها مقيدتين برجليها لأربعة أيام.

كايرات سمرقند، وهو مسلم كازاخي، نزيل سابق أيضاً، ويقول إنَّ المساجين لم يُطلَب منهم صراحةً التخلي عن دينهم، لكنَّ المعنى كان واضحاً، مضيفاً: «كانوا يقولون، ليس هناك دين. الحكومة والحزب سيعتنيان بك». وسُمح لسمرقند بترك المعسكر بعد أن حاول الانتحار.

قبل كل وجبة، كان على المساجين أن يشكروا الرئيس الصيني شي جين بينغ، وكانوا مطالبين بحفظ أسماء كبار القادة الصينيين عن ظهر قلب وإنشاد أغنياتٍ وطنية. كانت إحدى الأغنيات تقول: 

لو لم يكن هناك حزب

لو لم يكن هناك شي جين بينغ

لما كان هناك وطن 

وحكى محتجزون سابقون في معسكرات الاحتجاز في تقريرٍ حديث لمنظمة هيومان رايتس ووتش عن تقييدهم بالأسرّة أو الكراسي.

وتعرضهم للحرمان من النوم.

فضلاً عن الضرب والتعليق من الأسقف والجدران. 

ويزعم الذين قضوا أوقاتاً في تلك المراكز أنهم أُجبروا على الخضوع لبرنامج تلقين ديني مُكثّف، يتم حثّهم فيه على نبذ الإسلام، والثناء على الحزب الشيوعي الصيني.

وقال أحد السجناء السابقين بأحد المراكز المشار إليها، إن النزلاء المُسلمين يُرغَمون على تناول لحم الخنزير والمشروبات الكحولية.

يُظهر أوم بيكالي ، وهو كازاخي سُجن وأُرسل إلى "معسكر لإعادة التأهيل" في الصين ، كيف تم تقييده بالسلاسل أثناء احتجازه ، في 6 مارس / آذار 2019.خلال مقابلة معه في إسطنبول

يُظهر أوم بيكالي ، وهو كازاخي سُجن وأُرسل إلى "معسكر لإعادة التأهيل" في الصين ، كيف تم تقييده بالسلاسل أثناء احتجازه ، في 6 مارس / آذار 2019.خلال مقابلة معه في إسطنبول

وحكى ثمانية محتجزين سابقين لصحيفة The Telegraph ذكريات التعذيب الذي لاقوه على أيدي رجال الحكومة الصينية، وكيف كانوا يكبلون ويهددون بالأسلحة النارية، ويتعرضون للتفتيش البدني، ويُصعقون بصواعق كهربائية، ويُجبرون على الخضوع لتلقينٍ سياسيٍ حول الحزب الشيوعي الحاكم.

تُطلق السلطات على مراكز الاحتجاز اسم مراكز التدريب المهني، وفي يوليو/تموز 2019، قال نائب رئيس حكومة شينجيانغ، إنَّ 90% ممن كانوا محتجزين قد أُعيدوا إلى المجتمع. "رجعوا إلى أُسرهم، ونجح معظمهم بالفعل في الحصول على فرص عمل".

لكن كان من شبه المستحيل التحقُّق بشكلٍ مستقل من صحة هذه التصريحات في المنطقة الخاضعة لسيطرةٍ محكمة.

لكنها ليست فقط معسكرات التلقين، المخبرون يصلون إلى بيوت مسلمي الإيغور ليتجسسوا عليهم علانية، كما نفهم من السطور التالية.

في شينجيانغ، من لزم بيته ليس بآمن.

أحدهم سيطرق الباب ذات يوم، ويطلب الإقامة مع العائلة، ولا سبيل سوى الإذعان، فهي خطة حكومية أخرى!

بداية من 2018، انتقل أكثر من مليون صيني من عِرق «هان»، المُسيطر في البلاد، للعيش في منازل العائلات المُسلمة من الإيغور من دون موعِد أو دعوة مُسبق، لإبلاغ السلطات عمّا إذا كان مُضيفوهم يُبدون مُعتقدات إسلامية أو "غير وطنية".

هناك ملاحظات رئيسية يُدوّنها "المُخبرون": 

هل ألقى أحدهم على الجيران التحيّة بالكلمات العربية «السلام عليكم»؟ 

هل كانت هناك نُسخة من القرآن في المنزل؟ 

هل يُصلّي أحدهم يوم الجمعة، أو يصوم خلال رمضان؟ 

هل بالأسرة إحدى الأخوات الصغيرات ترتدي ثياباً أطول من اللازم، 

هل هناك أخٌ ذو لحية مُريبة؟.

ولأن المسلمين المُتديّنين يرفضون تدخين السجائر وتناول الكحوليات، تُعدّ هذه إحدى الطرق التي يُكتشف بها ما إذا كانوا مُتطرّفين، من وجهة نظر الحكومة الصينية.

الصين حاولت منع الناس من صيام شهر رمضان في مقاطعة شينغيانغ، العام الماضي، وأمر المسؤولون بفتح كافّة المطاعم وإقرار عدد من الإجراءات التي يبدو أنها مُعدَّة لمنع الناس من أداء عبادات الشهر المُقدّس لدى المسلمين.

ونشرت صحيفة People’s Daily الصينية تقريراً مطولاً عن الإقامة الإجبارية لمواطنين صينيين في بيوت الإيغور، فيما أسمته حملة "الوحدة الوطنية للأسرة".

قالت الصحيفة إنه "اعتباراً من سبتمبر/أيلول 2018، تقوم الكوادر والعمال في مختلف المناطق والمؤسسات والمؤسسات والوحدات المركزية ومنطقة شينجيانغ العسكرية وفيلق الإنتاج والشرطة في المقاطعة والإدارات الأخرى، بزيارة الناس من جميع المجموعات العرقية. عقدت عشرات الآلاف من الأسر أكثر من 11 مليون لقاء تحت شعار الحملة".

وزعم التقرير أن الزيارات بطريقة "لم الشمل" بين مسلمين تغربوا في أنحاء الصين، وبين عائلاتهم التي بقيت في المقاطعة.

يضيف التقرير في لغة شاعرية: إن دفء قلوب وعقول ملايين الكوادر والعمال في شينجيانغ هي التي ألهمت حماسة المجموعات العرقية في المنطقة لتعزيز الوحدة الوطنية بشكل نشط. خطاب قلوب دافئة، ومشهد مؤثر من الحماس للوحدة والوئام، ويجري باستمرار بين جبال تيانشان.

الأقمار الصناعية كشفت ضخامة المعتقلات على أرض شينجيانغ.

تنتصب السجون الضخمة حول البلدات والمدن في جميع أنحاء المقاطعة، وكثير منها حديث التشييد. 

كما تضاعفت ميزانية إدارة السجون الإقليمية تقريباً، وتوسعت العديد من السجون في شينجيانغ، بحسب ما تظهره إعلانات البناء المتوفرة عبر الإنترنت.

ومع ذلك، فإن نظام السجون في شينجيانغ يكافح لمواجهة طوفان السجناء الجدد.

على جانب آخر فإن تقارير أصدرتها إذاعة آسيا الحرة، وهي خدمة إخبارية مقرها واشنطن تقدم تقارير مكثفة عن شينجيانغ من خلال خدمتها بلغة الإيغور، وصفت قطارات مليئة بالمحتجزين الذين يجري شحنهم من المنطقة إلى السجون الواقعة في أجزاء أخرى من الصين.

وكشفت تحليلات صور الأقمار الصناعية عن 23 موقعاً للسجون المحتملة في شينجيانغ، وكان من المستحيل التأكد مما إذا كانت سجوناً أو مراكز احتجاز للمجرمين المشتبه بهم، أو معسكرات إعادة تأهيل مشددة الحراسة، أو مزيجاً من كل تلك المنشآت.

وشُيد تسعة من المواقع منذ عام 2016، فضلاً عن توسيع 12 منشأة بنيت سابقاً بضم مباني جديدة في ذلك الوقت.

المعسكرات والسجون للكبار، أما الأطفال فينتظرهم مصير أكثر رعباً.

الصين تمارس الآن عزلاً متعمداً للأطفال المسلمين عن عائلاتهم، والبيئة الدينية واللغوية الخاصة بهم، وتضعهم في مناطق بعيدة بإقليم شينجيانغ.

في قرية واحدة فقط، فقدَ أكثر من 400 طفل كلا أبويه بأحد أشكال الاحتجاز، إما بالسجن وإما في المعسكرات، كما ورد في تحقيق مطول نشرته BBC.

السلطات لا تنفي بل تبرر: أطفال الإيغور يتعلمون في «مراكز تعليم مهني»، بغرض كبح التطرف الديني العنيف. 

ويرد التقرير بأدلة أوضحت أن كثيرين اعتُقلوا، لأنهم ببساطة أظهروا عقيدتهم -بالصلاة أو ارتداء الحجاب- أو من أجل وجود علاقات خارجية مع بلاد مثل تركيا.

مساحات المدارس التي تستخدمها الصين للفصل بين الأطفال وعائلاتهم ازدادت، وهي مزوّدة بسكن للطلاب، ما يعني توفير الإقامة "القسرية" للتلاميذ. 

وخلال عام 2017 وحده، ازداد عدد الأطفال المسجلين بمرحلة رياض الأطفال في شينجيانغ بأكثر من نصف مليون طفل. وتُبين الأرقام الحكومية أن الإيغور وبقية الأقليات المسلمة يشكلون أكثر من 90% من هذه الزيادة. 

وأنفقت السلطات في جنوب شينجيانغ وحدها، وهي منطقة تضم التركيز الأكبر من السكان الإيغور، 1.2 مليار دولار على بناء دور رياض الأطفال وتطويرها.

لن تنتظر سلطات الصين الأطفال ليكبروا مسلمين، وهي تمارس الدمج الإجباري لهم على نار هادئة، وهم ما زالوا بعد في رياض الأطفال.

"المدارس الداخلية هي السياق المثالي لإعادة هندسة ثقافية مستمرة لمجتمعات الأقلية"، كما يقول الإعلام الصيني الرسميّ بالنص.

أحد المتظاهرين من مجتمع الأويغور في اليابان يحمل صوراً لأفراد أسرته المفقودين أثناء مظاهرة ضد قمع الصين للأقليات العرقية المسلمة ، قبل قمة مجموعة العشرين في أوساكا يونيو 2019

أحد المتظاهرين من مجتمع الأويغور في اليابان يحمل صوراً لأفراد أسرته المفقودين أثناء مظاهرة ضد قمع الصين للأقليات العرقية المسلمة ، قبل قمة مجموعة العشرين في أوساكا يونيو 2019

ذهب صدام عبدالسلام إلى البرلمان الأسترالي للمرة الأولى، وقضى ما يقرب من 12 ساعة في اجتماعات مع سياسيين، وناشدهم خلالها بمساعدته على إعادة زوجته وابنه ذي العامين تقريباً، المحتجزين في الصين لأنهم من أقلية الإيغور العرقية المسلمة.

كان صدام محظوظاً لأنه يحمل الجنسية الأسترالية، ولكن ملايين الإيغور لم يهتم أحد بمأساتهم القائمة منذ سنوات. 

صدام ممسكا بصورة زوجته وابنه

صدام ممسكا بصورة زوجته وابنه

وبالرغم من امتنان عبدالسلام للدعم الذي تظهره الحكومة لعائلته الآن، يطرح السؤال الذي يشغل مجتمع مسلمي الإيغور بالكامل، قائلاً: أردت أن أسأل الجميع، أين كنتم على مدار السنوات الأخيرة؟

تجيب إلين بيرسون Elaine Pearson، مديرة مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية في أستراليا، إن الصين تسلك أيضاً مساراً «مدروساً ودقيقاً للغاية» لارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بدون هذا العنف الجسدي الذي قد يتسبب في إدانة عالمية واسعة النطاق.

أحد أسباب عدم اتخاذ ردود فعل عالمية سريعة وكبيرة هو عدم تعرض الأشخاص للقتل أو الاغتصاب أو التعذيب، رغم التأكيد على أن ما تفعله الصين في شينجيانغ «مروّع بكل تأكيد». 

تضيف: إنهم يخططون للقضاء على الهوية الإسلامية من السكان وأعتقد أن هذا أمر يجب أن نخشاه جميعاً: هناك مجموعة من الأشخاص على وشك الإبادة بسبب دينهم».

والتعاطف الغربي تأخر بسبب الإسلاموفوبيا.

ويرى جيمس لايبولد James Leibold، وهو أستاذ مساعد السياسة بجامعة لا تروب في ملبورن، إن النفوذ الاقتصادي الصيني وتردد الدول الأخرى في إحداث أي تغييرات جذرية في مسارات التجارة هما من العوامل وراء هذا الصمت الطويل.

لكن هناك عوامل أخرى.

يضيف: هذا التحيز الخفي غير المعلن ضد الإسلام قد يفسّر أيضاً لماذا لا تلتفت الدول الغربية لعمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها الصين على نار هادئة في شينجيانغ. للأسف لا يحظى المسلمون بالكثير من التعاطف حالياً على المستوى العالمي. إذ يخيّم شبح الإسلاموفوبيا على الموقف العالمي من تلك القضية.

عدد من المراقبين يشيرون إلى أن القمع الصيني الذي وصل لذروته في معسكرات الاعتقال، قد يؤدي لتعزيز الهوية الإيغورية.

لا يحتاج الإيغوريون لمعسكرات اعتقال لكي يكونوا صينيين، بل يحتاجون إلى أن ينالوا نصيبهم من التنمية، والاعتراف بهويتهم وجذورهم، ضمن إطار الصين الكبرى التي تستعد لقيادة العالم، كما يؤكد إعلامها الرسمي.

عدد من طائفة الايغور يتظاهرون في اسطنبول ضد قمع الحكومة الصينية للإويغور المسلمين

عدد من طائفة الايغور يتظاهرون في اسطنبول ضد قمع الحكومة الصينية للإويغور المسلمين