مصر.. غموض، ارتباك، وقلق من القادم

مستقبل مُحير بسبب الأزمات الاقتصادية والتضييق على الحريات وفرض إعلام الصوت الواحد

كان يحاول أن يترجم ما يقرأ إلى لغة قابلة للفهم.

"مشروع الموازنة الجديدة في مصر يعكس رؤية الاقتراض من أجل سداد القروض السابقة وفوائدها، وسد عجز الموازنة.

رؤية مصر في العام المالي الجديد تستند على زيادة الموارد عن طريق فرض مزيد من الضرائب. 

المشروع يُظهر كذلك ما قد يعانيه الاقتصاد المصري جراء عدة عوامل تتعلق بجدوى السياسات المالية المتبعة مؤخراً، وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وخروج بعض الاستثمارات من السوق المصري".

"مدحت" الشاب المصري الذي يعمل بالتدريس الجامعي بمدينة 6 أكتوبر، ويعيش في القاهرة، كان يحاول بعد الترجمة أن يتخيل انعكاس "الموازنة الجديدة" على حياته رغم أنه لم يتزوج بعد، ويعيش مع والديه.

هل يطمئن إلى بيان وزيرة التخطيط هالة السعيد؟ بيان يحدد محاور ثلاثة لخطة العام المالي القادم: 

  • تحسين جودة حياة المواطن.
  • وتفعيل البرنامج الوطني للإصلاح الهيكلي.
  • ودعم التنافسية الدولية للاقتصاد.

هل يصدق إعلان الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات الهادفة إلى تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار على المواطن المصري، واستيعاب التضخم؟

حتى قبل الوباء، كان ثلث المصريين يعيشون تحت خط الفقر، ونحو ثلث آخر كانوا يقتربون منه، فأين يقف الجميع الآن؟

يقول مدحت إن أحداً لا يعرف الأرقام والحقائق الآن في ظل التعتيم الإعلامي والملاحقة البوليسية لمن يسأل أو يعترض أو يكتب تعليقاً عابراً.

ولا يعرف الإجابة عن أسئلته، لكنه يشعر مثل جميع المصريين بصعوبة هذه المرحلة من الأزمة الاقتصادية، ويراقب درجة حرارة العنف المتصاعدة في المجتمع، كما يعبّر عن قلقه من المستقبل القريب الغامض والمليء بالاحتمالات.

أحدث "الاحتمالات" كان الظهور المفاجئ لعائلة مبارك عبر بيان تبرئة الساحة الذي تلاه جمال مبارك بعد زيارته للإمارات، وظهور هاشتاغ #جمال_مبارك_رئيسا. شعر الجميع أن الاستقرار المأمول مازال بعيدا، وأن الغموض هو سيد الموقف.

الكثير من الصعوبات اليوم، ولا أحد يعرف من أين سوف تهب الرياح المقبلة على ساحات المحروسة.

هنا شهادات الشاب الذي تحدث إلى "عربي بوست" باسم مستعار هو "مدحت"، وحقائق وشهادات أخرى عن أوضاع المصريين مع الحالة المعيشية، والإعلام، والحريات العامة.

الوضع الاقتصادي

أخبار جديدة عن الجنيه والدولار في عيد الأم ومزيد من الغموض عن المستقبل

"قفز سعر الدولار في مصر اليوم الإثنين 21 مارس/آذار 2022، في تعاملات البنك المركزي والبنوك الحكومية والخاصة، بعد رفع أسعار الفائدة".

عنوان عاجل يتألق على شاشة المحمول مساء عيد الأم. 

يعرف أن سعر الدولار الذي تغير على شاشات المصارف والأخبار العاجلة سينعكس فوراً على كل صغيرة وكبيرة في الأسواق، وأنه سيدفع ثمن تأخره في شراء الهدية.

لأول مرة في حياته يتفق أولاد العم والخال على عدم شراء هدايا لعيد الأم لضيق ذات اليد. "كنت أشتري أكثر من هدية، لوالدتي وخالتي وربما أختي المتزوجة. هذا العام بمصارحة نادرة اتفقنا أن نتوقف عن شراء الهدية، لأن مافيش فلوس!".

حاول مدحت أن يفكر في هدية معقولة، ولم يجد سوى شراء جاتوه بحوالي 200 جنيه، "أكلناه مع الشاي اللذيذ، والحمد لله مرت المناسبة السعيدة على خير".

لكن في المساء كان مدحت يحاول أن يفهم الخبر العاجل. "ثلاثة جنيهات دفعة واحدة في سعر الدولار في ليلة واحدة، ربنا يستر". قالها وهو لا يعرف أن الأمور سوف تتطور بسرعة أكثر مما يتصور.


المحاولة رقم ألف لدعم الجنيه المصري

بدأ يطالع على موقع بي بي سي العربي تفسير ما جرى في الساعات الأخيرة. قرأ أن "ما حدث في 21 مارس هو نتيجة لقرار مصر الاستمرار في اقتراض المزيد والمزيد من الأموال للحفاظ على استقرار عملتها.

وليس لديها تدفقات سخية من الدولار.

وهذه مخاطرة، لأن السلطات في مرحلة ما ستجد نفسها مضطرة إلى إجراء تصحيح أكثر دراماتيكية لقيمة العملة دفعة واحدة.

في الوقت نفسه يزداد الضغط على سيولة النقد الأجنبي في مصر بسبب ابتعاد المستثمرين عن أسواق الديون في الاقتصادات الناشئة.

وتداعيات الحرب في أوكرانيا على قطاع السياحة المصري بسبب تراجع أعداد السياح الروس والأوكرانيين.

وعلى أسعار مواد كالقمح والحبوب وحتى الأسمدة ومواد البناء وغيرها من المواد التي تعتمد مصر في تأمينها على الاستيراد من الأسواق الخارجية.

بعد أيام حاول استعادة الأمل مع إعلان الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات لتخفيف وطأة ارتفاع الأسعار على المواطن المصري، واستيعاب التضخم.

الإجراء الأول هو تثبيت سعر رغيف الخبز غير المدعم لثلاثة أشهر، لكن دون إشارة لما بعد "المهلة".

والثاني زيادة في الرواتب والمعاشات وإضافة حوالي 450 ألف أسرة جديدة إلى برنامج الإعانة الاجتماعية.

إجراءات تهدف إلى زيادة عدد الجنيهات التي تدخل جيوب المصريين، أو بعضهم، علّها تساعد في تعويض التراجع في قيمة دخولهم نتيجة تراجع قيمة الجنيه.

وطرح بنكا الأهلي ومصر الحكوميان شهادات ادخار بعوائد مرتفعة وصلت إلى 18%، لكبح جماح التوجه نحو الدولرة، في المحاولة رقم ألف لدعم الجنيه المتداعي.


مصر لا تتقدم.. وحياتي الخاصة لا تعرف الأحلام

يحكي مدحت لـ"عربي بوست" أنه تخرّج بعد أزمة 2008 من قسم الحاسبات والمعلومات، بأحد المعاهد الخاصة بمدينة 6 أكتوبر. اشتغل معيداً مقابل 8 جنيهات عن كل ساعة عمل قبل خصم الضرائب.

لم تكن الفلوس تكفي، المواصلات العامة فقط كانت تلتهم ربع الدخل، إضافة إلى مصروفات الطعام وغيره. 

لكن الدنيا فتحت أبوابها للمعيد الشاب مرتين في بداية 2011: "انتقلت للعمل لجامعة خاصة بنفس المدينة وكان راتبي أكثر من 3 آلاف جنيه، ومنحتني ثورة يناير الأمل في أن تصبح مصر بلداً لأهله، خالية من السرقة والفساد والمحسوبية". 

أصبحت مصر في مركز أحلامه، رغم تأجيل بعض مشروعاته الشخصية. "المرتب كان يغطي احتياجاتي الأساسية، وممكن أشتري حاجات صغيرة دون القدرة على الادخار، لكن مش مهم.. المهم إحساسنا ساعتها إن مصر تتقدم".

تحمس لدرجة أنه شارك في تنظيف الشوارع وحملات العمل التطوعي في حي المعادي حيث يسكن. وشارك بحماس أكثر في كل عمليات الاقتراع على الدستور ثم مجلس النواب والانتخابات الرئاسية. 

لكن مصر لم تتقدم.

وراتب مدحت الذي أصبح 6 آلاف جنيه بداية 2016 كان على موعد مع صدمة تعويم الجنيه في نهاية العام.

وعادت مصر لعصور ما قبل يناير 2011 في التضييق على الحريات العامة، وربما أسوأ.

وعاد مدحت ليقنع نفسه بأن يكتفي بالبقاء على قيد الحياة دون أحلام في تحسينها.

"إنك تفكر في الجواز أو شقة أو سيارة مستحيل. استغنيت عن السيارة ورجعت للمواصلات العامة.ألغيت البحث عن عروس. وأصبح الأمل الوحيد هو إنجاز بحث الدكتوراة لتحسين المرتب. رغم ذلك كنت أحتاج إلى دعم العائلة في مصروفات الدكتوراة وأبحاثها".


شبكة الأمان الاجتماعي لا تغطي الفقراء

بعد عيد الأم بيومين، أعلن صندوق النقد الدولي أنه تلقى طلباً جديداً من مصر لدعم برنامج إصلاح اقتصادي شامل، وذلك على وقع أزمة اقتصادية يبدو أنها ربما تتفاقم مستقبلاً، خاصة في ظل تداعيات استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية. 

بالخبرة نعرف في مصر أن طلب المساعدة يعني طلب قرض جديد.

وتأكد مدحت من ذلك بعد عدة ساعات، عندما قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن التعاون مع الصندوق سيقتصر في المرحلة الحالية على "الدعم الفني"، وإن كان قد يتطور لطلب قرض جديد إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

ولسوف تدعو الحاجة إلى قرض جديد بكل تأكيد. 

مصر لجأت إلى صندوق النقد ثلاث مرات في السنوات القليلة الماضية، واقترضت 20 مليار دولار على ثلاث دفعات بين 2016 و 2020.

مساء اليوم نفسه قرأ التغريدة التالية، فأخرج محفظته ونظر إلى بقايا الأوراق المالية، وبدأ يشعر أنها ليست جنيهات، بل هي أوراق تفقد قيمتها بالتدريج. 

في نهاية عام 2016، حين أعلن البنك المركزي المصري قراره تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية بشكل كامل، سبب القرار صدمة في الأسواق المصرية، وتراجعاً في قيمة الجنيه المصري بلغت 50%. 

هذه الإصلاحات الاقتصادية التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي أدت إلى رفع تكلفة المعيشة وزيادة الفقر وعدم المساواة، في تقدير منظمة "هيومن رايتس ووتش".

ورجع مدحت إلى أغنية صدرت في نهاية 2012، وردد معها:

إلحقني في عرضك 
كلبشني بقرضك 
إرتع في بلادنا واعتبرها ارضك
صندوق النقد.. يا صندوقه

فيديو 4.42 دقيقة: ياسر المناوهلي في أغنية صندوق النقد 


والمستقبل الاقتصادي: خطوة للأمام.. خطوة للخلف

"لم ينجز صندوق النقد الدولي الإصلاحات اللازمة للتصدي بشكل فعال لدور الجيش المتنامي دون مساءلة في الاقتصاد، أو لتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الحقوق الاقتصادية للأفراد".

هكذا تقدم سارة سعدون، الباحثة في "هيومن رايتس ووتش" ملخص الواقع في مصر الآن: التقدم في الإصلاحات الضرورية لا يزال بعيد المنال، وملايين المصريين يتعرضون بشكل متزايد للصدمات الخارجية للاقتصاد العالمي.

وفي بداية أبريل/نيسان 2022 قرر البنك المركزي المصري في اجتماع استثنائي رفع أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض والعمليات الرئيسية بنسبة 100 نقطة، واعتماد "مرونة سعر الصرف كأداة لمواجهة موجات الصدمات".

مرونة سعر الصرف هي الاسم الحركي لانخفاض العملة الوطنية.

بالفعل ارتفع الدولار بعد القرار من 15.7 جنيهاً إلى 18.54 جنيهاً مصرياً.

رغم ذلك يرفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو اقتصاد مصر مقابل خفض توقعاته لنمو اقتصاد العالم في 2022، بسبب "قوة الاقتصاد المصري" كما قالت بيتيا كوفا بروكس، نائب مدير قسم البحوث الاقتصادية بالصندوق.

وسجل الاقتصاد المصري نمواً بلغ 9% من يوليو إلى ديسمبر 2021، أي قبل نشوب حرب أوكرانيا، ومعدل نمو 9.8% في الربع الأول من العام المالي، وهو أعلى معدّل نمو منذ 20 عاماً حسب الأرقام الرسمية

لكن مدحت يتابع أيضاً الكثير من التوقعات المتشائمة بشأن المستقبل القريب لاقتصاد بلده، الذي تحاصره الديون. 

مثلاً تتوقع وكالات دولية أن تتخطى مصر تركيا كأكبر مصدر للديون السيادية في المنطقة، بمبيعات للسندات بقيمة 73 مليار دولار خلال العام الجاري 2022.

مصر تستحوذ على 0.6% من إجمالي الديون التجارية في العالم، وهي نسبة مخيفة إذا ما قورنت بدول مماثلة، أو إذا ما قورنت بالاقتصادات الناشئة.

وإجمالي الديون السيادية لمصر مع نهاية 2022 سوف يقترب من 400 مليار دولار!

وتوقع بنك الاستثمار الأمريكي "بي. جي. مورغان" أن تكون هناك حاجة لتخفيض "حاد" في قيمة الجنيه المصري، وأن مصر قد تحتاج إلى مزيد من المساعدة من صندوق النقد الدولي، إذا استمرت ضغوط السوق المالية في التصاعد. 

ومثل أغلب المصريين يعرف مدحت الآن أن المزيد من صندوق النقد يعني المزيد من معاناة المواطن المصري.

مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا كانت صريحة في أبريل/نيسان الماضي، وهي تحذر من أن "اقتصاد مصر في تدهور"، وتعتبر أن مصر بحاجة إلى الاستقرار مالياً ومواصلة الإصلاحات مع البرنامج التابع لصندوق النقد الذي يحمي الفئات الضعيفة.

وتحت عنوان "الجوع والعتمة مجرد بداية لأزمات الاقتصادات الناشئة"، قرأ مدحت تقريراً لوكالة بلومبيرغ عن تعرض الأسواق الناشئة ومنها مصر، إلى وابل من الصدمات تنذر بسلسلة من الأزمات المتتالية، حيث إن الاضطرابات الناجمة عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تجتاح بالفعل دولاً من بينها مصر.

وأضافت الوكالة أن "الأزمة الراهنة تزيد مخاطر التحول إلى كارثة ديون أوسع".

الآن أصبح السؤال: كيف يعيش مدحت براتبه الذي يكفيه الآن بالكاد، إذا تراجع الاقتصاد أكثر، وبدأت "كارثة الديون" تكشر عن أنيابها؟

هو الآن يواجه الأزمات المالية الطارئة بمساعدات من والده، لكنه ما زال ممنوعاً من التفكير في الزواج، أو شراء سيارة جديدة.

الحيرة بشأن المستقبل لا تتوقف عند ضيق ذات اليد، رغم أنه يعتبر نفسه من "المستورين" في بلده، لكن هناك أيضاً حالة من التضييق على حرية الرأي. "ليست المعارضة السياسية هي الممنوعة، كل أنواع الانتقاد حتى لو كانت ضد إدارة الجامعة، تنتهي بثمن فادح يدفعه المواطن؛ لذلك توقفت عن متابعة الإعلام، وعن الشكوى، وعن المناقشات السياسية بالكامل".

يضيف مبتسماً كمن يستريح من عبء خرافي: السكوت علامة التأقلم والتعايش، ومَن خاف سلم!

"قفز سعر الدولار في مصر اليوم الإثنين 21 مارس/آذار 2022، في تعاملات البنك المركزي والبنوك الحكومية والخاصة، بعد رفع أسعار الفائدة".

عنوان عاجل يتألق على شاشة المحمول مساء عيد الأم. 

يعرف أن سعر الدولار الذي تغير على شاشات المصارف والأخبار العاجلة سينعكس فوراً على كل صغيرة وكبيرة في الأسواق، وأنه سيدفع ثمن تأخره في شراء الهدية.

لأول مرة في حياته يتفق أولاد العم والخال على عدم شراء هدايا لعيد الأم لضيق ذات اليد. "كنت أشتري أكثر من هدية، لوالدتي وخالتي وربما أختي المتزوجة. هذا العام بمصارحة نادرة اتفقنا أن نتوقف عن شراء الهدية، لأن مافيش فلوس!".

حاول مدحت أن يفكر في هدية معقولة، ولم يجد سوى شراء جاتوه بحوالي 200 جنيه، "أكلناه مع الشاي اللذيذ، والحمد لله مرت المناسبة السعيدة على خير".

لكن في المساء كان مدحت يحاول أن يفهم الخبر العاجل. "ثلاثة جنيهات دفعة واحدة في سعر الدولار في ليلة واحدة، ربنا يستر". قالها وهو لا يعرف أن الأمور سوف تتطور بسرعة أكثر مما يتصور.


المحاولة رقم ألف لدعم الجنيه المصري

بدأ يطالع على موقع بي بي سي العربي تفسير ما جرى في الساعات الأخيرة. قرأ أن "ما حدث في 21 مارس هو نتيجة لقرار مصر الاستمرار في اقتراض المزيد والمزيد من الأموال للحفاظ على استقرار عملتها.

وليس لديها تدفقات سخية من الدولار.

وهذه مخاطرة، لأن السلطات في مرحلة ما ستجد نفسها مضطرة إلى إجراء تصحيح أكثر دراماتيكية لقيمة العملة دفعة واحدة.

في الوقت نفسه يزداد الضغط على سيولة النقد الأجنبي في مصر بسبب ابتعاد المستثمرين عن أسواق الديون في الاقتصادات الناشئة.

وتداعيات الحرب في أوكرانيا على قطاع السياحة المصري بسبب تراجع أعداد السياح الروس والأوكرانيين.

وعلى أسعار مواد كالقمح والحبوب وحتى الأسمدة ومواد البناء وغيرها من المواد التي تعتمد مصر في تأمينها على الاستيراد من الأسواق الخارجية.

بعد أيام حاول استعادة الأمل مع إعلان الحكومة المصرية عن حزمة من الإجراءات لتخفيف وطأة ارتفاع الأسعار على المواطن المصري، واستيعاب التضخم.

الإجراء الأول هو تثبيت سعر رغيف الخبز غير المدعم لثلاثة أشهر، لكن دون إشارة لما بعد "المهلة".

والثاني زيادة في الرواتب والمعاشات وإضافة حوالي 450 ألف أسرة جديدة إلى برنامج الإعانة الاجتماعية.

إجراءات تهدف إلى زيادة عدد الجنيهات التي تدخل جيوب المصريين، أو بعضهم، علّها تساعد في تعويض التراجع في قيمة دخولهم نتيجة تراجع قيمة الجنيه.

وطرح بنكا الأهلي ومصر الحكوميان شهادات ادخار بعوائد مرتفعة وصلت إلى 18%، لكبح جماح التوجه نحو الدولرة، في المحاولة رقم ألف لدعم الجنيه المتداعي.


مصر لا تتقدم.. وحياتي الخاصة لا تعرف الأحلام

يحكي مدحت لـ"عربي بوست" أنه تخرّج بعد أزمة 2008 من قسم الحاسبات والمعلومات، بأحد المعاهد الخاصة بمدينة 6 أكتوبر. اشتغل معيداً مقابل 8 جنيهات عن كل ساعة عمل قبل خصم الضرائب.

لم تكن الفلوس تكفي، المواصلات العامة فقط كانت تلتهم ربع الدخل، إضافة إلى مصروفات الطعام وغيره. 

لكن الدنيا فتحت أبوابها للمعيد الشاب مرتين في بداية 2011: "انتقلت للعمل لجامعة خاصة بنفس المدينة وكان راتبي أكثر من 3 آلاف جنيه، ومنحتني ثورة يناير الأمل في أن تصبح مصر بلداً لأهله، خالية من السرقة والفساد والمحسوبية". 

أصبحت مصر في مركز أحلامه، رغم تأجيل بعض مشروعاته الشخصية. "المرتب كان يغطي احتياجاتي الأساسية، وممكن أشتري حاجات صغيرة دون القدرة على الادخار، لكن مش مهم.. المهم إحساسنا ساعتها إن مصر تتقدم".

تحمس لدرجة أنه شارك في تنظيف الشوارع وحملات العمل التطوعي في حي المعادي حيث يسكن. وشارك بحماس أكثر في كل عمليات الاقتراع على الدستور ثم مجلس النواب والانتخابات الرئاسية. 

لكن مصر لم تتقدم.

وراتب مدحت الذي أصبح 6 آلاف جنيه بداية 2016 كان على موعد مع صدمة تعويم الجنيه في نهاية العام.

وعادت مصر لعصور ما قبل يناير 2011 في التضييق على الحريات العامة، وربما أسوأ.

وعاد مدحت ليقنع نفسه بأن يكتفي بالبقاء على قيد الحياة دون أحلام في تحسينها.

"إنك تفكر في الجواز أو شقة أو سيارة مستحيل. استغنيت عن السيارة ورجعت للمواصلات العامة.ألغيت البحث عن عروس. وأصبح الأمل الوحيد هو إنجاز بحث الدكتوراة لتحسين المرتب. رغم ذلك كنت أحتاج إلى دعم العائلة في مصروفات الدكتوراة وأبحاثها".


شبكة الأمان الاجتماعي لا تغطي الفقراء

بعد عيد الأم بيومين، أعلن صندوق النقد الدولي أنه تلقى طلباً جديداً من مصر لدعم برنامج إصلاح اقتصادي شامل، وذلك على وقع أزمة اقتصادية يبدو أنها ربما تتفاقم مستقبلاً، خاصة في ظل تداعيات استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية. 

بالخبرة نعرف في مصر أن طلب المساعدة يعني طلب قرض جديد.

وتأكد مدحت من ذلك بعد عدة ساعات، عندما قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن التعاون مع الصندوق سيقتصر في المرحلة الحالية على "الدعم الفني"، وإن كان قد يتطور لطلب قرض جديد إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

ولسوف تدعو الحاجة إلى قرض جديد بكل تأكيد. 

مصر لجأت إلى صندوق النقد ثلاث مرات في السنوات القليلة الماضية، واقترضت 20 مليار دولار على ثلاث دفعات بين 2016 و 2020.

مساء اليوم نفسه قرأ التغريدة التالية، فأخرج محفظته ونظر إلى بقايا الأوراق المالية، وبدأ يشعر أنها ليست جنيهات، بل هي أوراق تفقد قيمتها بالتدريج. 

في نهاية عام 2016، حين أعلن البنك المركزي المصري قراره تحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية بشكل كامل، سبب القرار صدمة في الأسواق المصرية، وتراجعاً في قيمة الجنيه المصري بلغت 50%. 

هذه الإصلاحات الاقتصادية التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي أدت إلى رفع تكلفة المعيشة وزيادة الفقر وعدم المساواة، في تقدير منظمة "هيومن رايتس ووتش".

ورجع مدحت إلى أغنية صدرت في نهاية 2012، وردد معها:

إلحقني في عرضك 
كلبشني بقرضك 
إرتع في بلادنا واعتبرها ارضك
صندوق النقد.. يا صندوقه

فيديو 4.42 دقيقة: ياسر المناوهلي في أغنية صندوق النقد 


والمستقبل الاقتصادي: خطوة للأمام.. خطوة للخلف

"لم ينجز صندوق النقد الدولي الإصلاحات اللازمة للتصدي بشكل فعال لدور الجيش المتنامي دون مساءلة في الاقتصاد، أو لتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الحقوق الاقتصادية للأفراد".

هكذا تقدم سارة سعدون، الباحثة في "هيومن رايتس ووتش" ملخص الواقع في مصر الآن: التقدم في الإصلاحات الضرورية لا يزال بعيد المنال، وملايين المصريين يتعرضون بشكل متزايد للصدمات الخارجية للاقتصاد العالمي.

وفي بداية أبريل/نيسان 2022 قرر البنك المركزي المصري في اجتماع استثنائي رفع أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض والعمليات الرئيسية بنسبة 100 نقطة، واعتماد "مرونة سعر الصرف كأداة لمواجهة موجات الصدمات".

مرونة سعر الصرف هي الاسم الحركي لانخفاض العملة الوطنية.

بالفعل ارتفع الدولار بعد القرار من 15.7 جنيهاً إلى 18.54 جنيهاً مصرياً.

رغم ذلك يرفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو اقتصاد مصر مقابل خفض توقعاته لنمو اقتصاد العالم في 2022، بسبب "قوة الاقتصاد المصري" كما قالت بيتيا كوفا بروكس، نائب مدير قسم البحوث الاقتصادية بالصندوق.

وسجل الاقتصاد المصري نمواً بلغ 9% من يوليو إلى ديسمبر 2021، أي قبل نشوب حرب أوكرانيا، ومعدل نمو 9.8% في الربع الأول من العام المالي، وهو أعلى معدّل نمو منذ 20 عاماً حسب الأرقام الرسمية

لكن مدحت يتابع أيضاً الكثير من التوقعات المتشائمة بشأن المستقبل القريب لاقتصاد بلده، الذي تحاصره الديون. 

مثلاً تتوقع وكالات دولية أن تتخطى مصر تركيا كأكبر مصدر للديون السيادية في المنطقة، بمبيعات للسندات بقيمة 73 مليار دولار خلال العام الجاري 2022.

مصر تستحوذ على 0.6% من إجمالي الديون التجارية في العالم، وهي نسبة مخيفة إذا ما قورنت بدول مماثلة، أو إذا ما قورنت بالاقتصادات الناشئة.

وإجمالي الديون السيادية لمصر مع نهاية 2022 سوف يقترب من 400 مليار دولار!

وتوقع بنك الاستثمار الأمريكي "بي. جي. مورغان" أن تكون هناك حاجة لتخفيض "حاد" في قيمة الجنيه المصري، وأن مصر قد تحتاج إلى مزيد من المساعدة من صندوق النقد الدولي، إذا استمرت ضغوط السوق المالية في التصاعد. 

ومثل أغلب المصريين يعرف مدحت الآن أن المزيد من صندوق النقد يعني المزيد من معاناة المواطن المصري.

مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا كانت صريحة في أبريل/نيسان الماضي، وهي تحذر من أن "اقتصاد مصر في تدهور"، وتعتبر أن مصر بحاجة إلى الاستقرار مالياً ومواصلة الإصلاحات مع البرنامج التابع لصندوق النقد الذي يحمي الفئات الضعيفة.

وتحت عنوان "الجوع والعتمة مجرد بداية لأزمات الاقتصادات الناشئة"، قرأ مدحت تقريراً لوكالة بلومبيرغ عن تعرض الأسواق الناشئة ومنها مصر، إلى وابل من الصدمات تنذر بسلسلة من الأزمات المتتالية، حيث إن الاضطرابات الناجمة عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تجتاح بالفعل دولاً من بينها مصر.

وأضافت الوكالة أن "الأزمة الراهنة تزيد مخاطر التحول إلى كارثة ديون أوسع".

الآن أصبح السؤال: كيف يعيش مدحت براتبه الذي يكفيه الآن بالكاد، إذا تراجع الاقتصاد أكثر، وبدأت "كارثة الديون" تكشر عن أنيابها؟

هو الآن يواجه الأزمات المالية الطارئة بمساعدات من والده، لكنه ما زال ممنوعاً من التفكير في الزواج، أو شراء سيارة جديدة.

الحيرة بشأن المستقبل لا تتوقف عند ضيق ذات اليد، رغم أنه يعتبر نفسه من "المستورين" في بلده، لكن هناك أيضاً حالة من التضييق على حرية الرأي. "ليست المعارضة السياسية هي الممنوعة، كل أنواع الانتقاد حتى لو كانت ضد إدارة الجامعة، تنتهي بثمن فادح يدفعه المواطن؛ لذلك توقفت عن متابعة الإعلام، وعن الشكوى، وعن المناقشات السياسية بالكامل".

يضيف مبتسماً كمن يستريح من عبء خرافي: السكوت علامة التأقلم والتعايش، ومَن خاف سلم!

لا أملك أن أتكلم

المجتمع يعاني حالة من القمع السياسي وتصاعد وتيرة العنف في الشارع

قبل عيد الفطر بأيام كان مدحت يشاهد إفطار الأسرة المصرية على شاشة التلفزيون، عندما فوجئ بإعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن عقد حوار وطني بين كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية.

الهدف هو تحديد أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة.

قال الرئيس إن نتائج هذا الحوار ستُرفع إليه شخصياً، مع وعده بحضور المراحل النهائية منه.

وقال مصدر في مجلس الوزراء المصري، في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، إن المجلس لا يملك معلومات رسمية عن تفاصيل الدعوة التي أطلقها الرئيس للحوار السياسي، مشيراً إلى أن الدعوة تخص مكتب الرئاسة وبعض الأجهزة الأخرى التي تدير المشهد السياسي في مصر في السنوات الأخيرة، بينما تركز الحكومة على أداء الأدوار التنفيذية دون المشاركة في رسم السياسات.

وقال مصدر في جهاز الأمن الوطني المصري إن دعوة الرئيس للحوار جاءت مبكرة عما كان مخططاً له. "كان من المفترض أن تتم الدعوة لهذا الحوار بعد الانتهاء من المشروعات التي دشنتها الدولة، لكن تغيير التوقيت وتبكيره وراءه ضغوط خارجية يعرفها الجميع".

تحدث المصدر أيضاً عن تقارير سرية قدمتها قيادات الأمن الوطني للرئيس خلال الأسابيع الماضية تفيد بوجود حالة احتقان كبيرة لدى المواطنين من استمرار التضييق الأمني والسياسي والقبض على أشخاص غير مُسيّسين.

هنا بدأ مدحت يشعر بالتشاؤم من نجاح فكرة الحوار.

في عام 2015، تأسس "حزب مستقبل وطن"، وفكر بعض أصدقائه في الالتحاق بالحزب "الشبابي". لكن سرعان ما أصبح مهيمناً على الأغلبية في البرلمان المصري بغرفتيه، وتلاحقه شائعات بأنه حزب السلطة، ووريث الحزب الوطني الديمقراطي. 

شعر أن مصر رجعت إلى المربع الأول: حزب واحد مدعوم من النظام يهيمن على معظم مقاعد التمثيل السياسي، وأحزاب شكلية دون تأثير ولا نشاط ولا صوت ولا موقف.

وبالتالي، يبدو الحوار السياسي المقترح "حدثاً صوتيّاً" يدور في هذه الدائرة المغلقة، ولا مانع من تجميله ببعض إعلاميي السلطة، وبعض السياسيين المفوّهين الذين يستطيعون تصدير خطاب يبدو حقيقيّاً، رغم أنهم يعرفون أنه مجرد "لقطة"، وأن عليهم أن يبتسموا، وأن يصدّقوا أنفسهم!

قبل عيد الفطر بأيام كان مدحت يشاهد إفطار الأسرة المصرية على شاشة التلفزيون، عندما فوجئ بإعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن عقد حوار وطني بين كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية.

الهدف هو تحديد أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة.

قال الرئيس إن نتائج هذا الحوار ستُرفع إليه شخصياً، مع وعده بحضور المراحل النهائية منه.

وقال مصدر في مجلس الوزراء المصري، في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، إن المجلس لا يملك معلومات رسمية عن تفاصيل الدعوة التي أطلقها الرئيس للحوار السياسي، مشيراً إلى أن الدعوة تخص مكتب الرئاسة وبعض الأجهزة الأخرى التي تدير المشهد السياسي في مصر في السنوات الأخيرة، بينما تركز الحكومة على أداء الأدوار التنفيذية دون المشاركة في رسم السياسات.

وقال مصدر في جهاز الأمن الوطني المصري إن دعوة الرئيس للحوار جاءت مبكرة عما كان مخططاً له. "كان من المفترض أن تتم الدعوة لهذا الحوار بعد الانتهاء من المشروعات التي دشنتها الدولة، لكن تغيير التوقيت وتبكيره وراءه ضغوط خارجية يعرفها الجميع".

تحدث المصدر أيضاً عن تقارير سرية قدمتها قيادات الأمن الوطني للرئيس خلال الأسابيع الماضية تفيد بوجود حالة احتقان كبيرة لدى المواطنين من استمرار التضييق الأمني والسياسي والقبض على أشخاص غير مُسيّسين.

هنا بدأ مدحت يشعر بالتشاؤم من نجاح فكرة الحوار.

في عام 2015، تأسس "حزب مستقبل وطن"، وفكر بعض أصدقائه في الالتحاق بالحزب "الشبابي". لكن سرعان ما أصبح مهيمناً على الأغلبية في البرلمان المصري بغرفتيه، وتلاحقه شائعات بأنه حزب السلطة، ووريث الحزب الوطني الديمقراطي. 

شعر أن مصر رجعت إلى المربع الأول: حزب واحد مدعوم من النظام يهيمن على معظم مقاعد التمثيل السياسي، وأحزاب شكلية دون تأثير ولا نشاط ولا صوت ولا موقف.

وبالتالي، يبدو الحوار السياسي المقترح "حدثاً صوتيّاً" يدور في هذه الدائرة المغلقة، ولا مانع من تجميله ببعض إعلاميي السلطة، وبعض السياسيين المفوّهين الذين يستطيعون تصدير خطاب يبدو حقيقيّاً، رغم أنهم يعرفون أنه مجرد "لقطة"، وأن عليهم أن يبتسموا، وأن يصدّقوا أنفسهم!

نحن لا نزرع الأمل

الجمهورية الجديدة برعاية السيسي لا تنتج سوى الخوف في قلوب المصريين.
ولا تزرع سوى اليأس من البحث عن حلول لنهضة مصر.
ولا يبني السيسي سوى السجون والكباري.

منذ استيلائه رسمياً على كرسي الرئاسة في 2014، وحتى نهاية 2020 أنشأ أكثر من 600 كوبري، ونحو 21 محوراً جديداً، بتكلفة أكثر من 85 مليار جنيه، بينما مات المصريون في ذروة تفشي وباء كورونا أمام المستشفيات؛ نظراً لامتلاء الطاقة الاستيعابية للمستشفيات سيئة الجودة. 

بلال فتيان
عربي بوست

بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية

رغم بعده تماماً عن كل نشاط سياسي، يعرف مدحت عدداً من معتقلي الرأي بصورة شخصية. وحكى له زميل بجامعة أخرى عن اختفاء أحد الطلبة من مظاهرة اعتراض على ضم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، ثم ظهوره بعد ذلك في محكمة أدانته بالسجن "لانضمامه إلى جماعة إرهابية". 

وفرضت الدولة الكثير من القيود على حرية التعبير وتكوين الجمعيات، واعتقلت الصحفيين والبرلمانيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

مدحت يخاف كثيراً من التورط في الأحاديث السياسية؛ فهو يعرف أن التنكيل مستمر منذ سنوات بكل درجات النقد أو المعارضة، وأحياناً "يدخل الإنسان السجن بمحض الصُدفة"، كما كتبها ذات يوم الشاعر صلاح عبد الصبور، الذي كتب أيضاً:

"لا.. لا أملك إلا أن أتكلم
يا أهلَ مدينتنا هذا قوْلي:
انفجروا أو موتوا
رعبٌ أكبر من هذا سوف يجيء
فانفجروا أو موتوا"

لكن لا أحد ينفجر هنا.

إدارة الكلية تشدد على هيئة التدريس الابتعاد تماماً عن "شبهات" الحديث في السياسة داخل غرف الدراسة، ومدحت يمضي بهذه التعليمات بعيداً، فينأى عن كل الجدل السياسي مع الجميع، القريب منهم والبعيد، وهو لا يصدق أن الحوار سيكون مؤثراً.

باحث سياسي في مركز حكومي للدراسات قدّر في اتصال مع "عربي بوست" دعوة السيسي للحوار السياسي أنها بمنزلة "هروب للأمام"، بدليل حديث الرئيس في لقائه بالإعلاميين، عن أن "مشاكل مصر أكبر من أي رئيس وأي حكومة". وفكّر مدحت في أن العبارة قد تكون أول اعتراف منه بالفشل في إدارة الدولة وملفاتها السياسية والاقتصادية.

بدا له أن الدعوة تبدو في توقيتها محاولة إرضاء للغرب، الذي يضغط على القاهرة، بسبب التجاوزات في ملفات حقوق الإنسان، والحبس العشوائي للمعارضين بكل درجاتهم.


كمين الشرطة يبحث عن الممنوعات.. والدولارات

ليست المواقف السياسية هي الخطر الذي يوقع مواطناً في قبضة الاعتقال والمحاسبة.

"تمكنت قوة أمنية بالمقطم من ضبط أحد الأشخاص في سيارته الخاصة وبحوزته 36 ألف دولار أمريكي، واعترف بالتجارة في النقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضده ومصادرة المبلغ".

حاول مدحت أن يفهم أسباب اعتقال الرجل أو مصادرة أمواله، أو حتى السبب الذي يجعل أي مواطن عرضة للتفتيش بلا سبب واضح.

"الاعتبارات الأمنية" كانت التبرير الأكثر شيوعاً في السابق، لكن يبدو أن الأسباب قد تغيرت كثيراً. 

أصبح من المألوف وجود كمائن شرطة في شوارع العاصمة والمحافظات، وتفتيش المواطنين أو السيارات. ومن يجدون بحوزتهم مبالغ، حتى لو كانت محدودة من الدولار، فعليهم إثبات الطريقة التي تحصلوا بها على تلك الدولارات لكيلا يقعوا تحت طائلة القانون. 

ولا تتوقف إجراءات المطاردة والاعتقال لكبار رجال الأعمال مثل أصحاب شركة "جهينة" للأغذية.

هناك مثلاً أخبار من نوع التحفظ على شخص سوري يمتلك محلاً لبيع الملابس في محافظة الجيزة، لاتّجاره في النقد الأجنبي خارج السوق المصرفي.

وحبس شخص برازيلي صاحب شركة بوسط العاصمة المصرية بالتهمة نفسها.

وصل الأمر إلى أكثر من ذلك.

نشر موقع Middle East Eye أن قوات الشرطة المصرية قد اقتحمت بازار Hamees في السوق السياحية الرئيسة بالأقصر، في 6 أبريل/نيسان الماضي، واستولى أفرادها على أموال البازار بطريقة غير قانونية، بعدما أمرت المحاسب بفتح الخزانة، حسبما نقل الموقع عن صاحب البازار سمير علي.

ولا يجرّم القانون المصري حيازة العملات الأجنبية، وإنما يحظر بيعها أو شراءها خارج النظام المصرفي، أو مكاتب الصرافة المُرخصة.

وقال الرئيس السيسي إن أزمة العملة قد تستمر لوقت طويل، وطلب من مسؤولي الحكومة بذل جهودهم من أجل السيطرة على زيادات أسعار السلع الأساسية. وأضاف: "نحتاج الآن، كمسؤولين، أن نكون متواجدين على الأرض بنسب كبيرة… لضبط الأسعار… وأن نسمع من المواطنين".

ثم أضاف عبارته الشهيرة في حوار بالهاتف مع إحدى القنوات الموالية: تحملونا من أجل مصر.

فيديو أقل من دقيقتين للرئيس على الهاتف: تحملونا من أجل مصر

بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية

رغم بعده تماماً عن كل نشاط سياسي، يعرف مدحت عدداً من معتقلي الرأي بصورة شخصية. وحكى له زميل بجامعة أخرى عن اختفاء أحد الطلبة من مظاهرة اعتراض على ضم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، ثم ظهوره بعد ذلك في محكمة أدانته بالسجن "لانضمامه إلى جماعة إرهابية". 

وفرضت الدولة الكثير من القيود على حرية التعبير وتكوين الجمعيات، واعتقلت الصحفيين والبرلمانيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

مدحت يخاف كثيراً من التورط في الأحاديث السياسية؛ فهو يعرف أن التنكيل مستمر منذ سنوات بكل درجات النقد أو المعارضة، وأحياناً "يدخل الإنسان السجن بمحض الصُدفة"، كما كتبها ذات يوم الشاعر صلاح عبد الصبور، الذي كتب أيضاً:

"لا.. لا أملك إلا أن أتكلم
يا أهلَ مدينتنا هذا قوْلي:
انفجروا أو موتوا
رعبٌ أكبر من هذا سوف يجيء
فانفجروا أو موتوا"

لكن لا أحد ينفجر هنا.

إدارة الكلية تشدد على هيئة التدريس الابتعاد تماماً عن "شبهات" الحديث في السياسة داخل غرف الدراسة، ومدحت يمضي بهذه التعليمات بعيداً، فينأى عن كل الجدل السياسي مع الجميع، القريب منهم والبعيد، وهو لا يصدق أن الحوار سيكون مؤثراً.

باحث سياسي في مركز حكومي للدراسات قدّر في اتصال مع "عربي بوست" دعوة السيسي للحوار السياسي أنها بمنزلة "هروب للأمام"، بدليل حديث الرئيس في لقائه بالإعلاميين، عن أن "مشاكل مصر أكبر من أي رئيس وأي حكومة". وفكّر مدحت في أن العبارة قد تكون أول اعتراف منه بالفشل في إدارة الدولة وملفاتها السياسية والاقتصادية.

بدا له أن الدعوة تبدو في توقيتها محاولة إرضاء للغرب، الذي يضغط على القاهرة، بسبب التجاوزات في ملفات حقوق الإنسان، والحبس العشوائي للمعارضين بكل درجاتهم.


كمين الشرطة يبحث عن الممنوعات.. والدولارات

ليست المواقف السياسية هي الخطر الذي يوقع مواطناً في قبضة الاعتقال والمحاسبة.

"تمكنت قوة أمنية بالمقطم من ضبط أحد الأشخاص في سيارته الخاصة وبحوزته 36 ألف دولار أمريكي، واعترف بالتجارة في النقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضده ومصادرة المبلغ".

حاول مدحت أن يفهم أسباب اعتقال الرجل أو مصادرة أمواله، أو حتى السبب الذي يجعل أي مواطن عرضة للتفتيش بلا سبب واضح.

"الاعتبارات الأمنية" كانت التبرير الأكثر شيوعاً في السابق، لكن يبدو أن الأسباب قد تغيرت كثيراً. 

أصبح من المألوف وجود كمائن شرطة في شوارع العاصمة والمحافظات، وتفتيش المواطنين أو السيارات. ومن يجدون بحوزتهم مبالغ، حتى لو كانت محدودة من الدولار، فعليهم إثبات الطريقة التي تحصلوا بها على تلك الدولارات لكيلا يقعوا تحت طائلة القانون. 

ولا تتوقف إجراءات المطاردة والاعتقال لكبار رجال الأعمال مثل أصحاب شركة "جهينة" للأغذية.

هناك مثلاً أخبار من نوع التحفظ على شخص سوري يمتلك محلاً لبيع الملابس في محافظة الجيزة، لاتّجاره في النقد الأجنبي خارج السوق المصرفي.

وحبس شخص برازيلي صاحب شركة بوسط العاصمة المصرية بالتهمة نفسها.

وصل الأمر إلى أكثر من ذلك.

نشر موقع Middle East Eye أن قوات الشرطة المصرية قد اقتحمت بازار Hamees في السوق السياحية الرئيسة بالأقصر، في 6 أبريل/نيسان الماضي، واستولى أفرادها على أموال البازار بطريقة غير قانونية، بعدما أمرت المحاسب بفتح الخزانة، حسبما نقل الموقع عن صاحب البازار سمير علي.

ولا يجرّم القانون المصري حيازة العملات الأجنبية، وإنما يحظر بيعها أو شراءها خارج النظام المصرفي، أو مكاتب الصرافة المُرخصة.

وقال الرئيس السيسي إن أزمة العملة قد تستمر لوقت طويل، وطلب من مسؤولي الحكومة بذل جهودهم من أجل السيطرة على زيادات أسعار السلع الأساسية. وأضاف: "نحتاج الآن، كمسؤولين، أن نكون متواجدين على الأرض بنسب كبيرة… لضبط الأسعار… وأن نسمع من المواطنين".

ثم أضاف عبارته الشهيرة في حوار بالهاتف مع إحدى القنوات الموالية: تحملونا من أجل مصر.

فيديو أقل من دقيقتين للرئيس على الهاتف: تحملونا من أجل مصر

غير المغضوب عليهم في الملاعب والمجتمع المدني

الحالة الوحيدة التي يسمح فيها النظام للمجتمع بالتعبير عن نفسه في تجمعات هي أن تكون هذه التجمعات آمنة تماماً.

خالية من أية اتجاهات فكرية.

كل الحضور فيها معروفون بالاسم تقريباً، مناصرون للنظام، على استعداد تام لإظهار الولاء له.

وما عدا ذلك غير مسموح. 

المسموح لهم حصراً بالدخول إلى ملاعب كرة القدم

بعد استبعاد الجمهور الطبيعي من دخول الملاعب لعوامل أمنية وطبقيَّة، مسموح بالحضور فقط لأنصار الرئيس، والمرضي عنهم، والمختارين بعناية شديدة.

وفي المجتمع المدني العامل على الأرض، لا يُسمح بالتحرك إلا للمبادرات التي تركز على "التقني" الخالي من أي مضمون تماماً. مبادرات رياضية وتعليمية يسعى أصحابها لكسر الروتين، وصقل السيرة الذاتية المهنية.

مبادرات تتبنى أجندة النظام ومقولاته السياسية كاملة، مثل أنشطة حزب "مستقبل وطن"، وتنسيقية الشباب، والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب، والأكاديمية الوطنية للتدريب، ونماذج محاكاة البرلمان… إلى آخر تلك النماذج الشكلية. 

لا مجال هنا لأي عمل جماعي جاد ذي صبغة سياسية أو اجتماعية مغايرة لأجندة النظام.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا

العنف في كل بيت وكل شارع

يرصد الخبراء ما يصفونه "بالتغيرات الكبيرة في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية"، فيصاب المصريون بالصدمة.

ويعاني مدحت في جيرته بأطراف حي المعادي من كل أمراض المجتمع الفوضوي، الذي جعل الحياة شبه مستحيلة في السنوات الأخيرة.

"لا يمر يوم تقريباً من غير خناقة في زحام المرور أو مكاتب الكلية أو مع الجيران. الناس السيئة تصيبك بالإحباط بتصرفات غير منطقية في كل مكان، والأطفال أصبحوا أكثر عدوانية وصخباً حتى مطلع الفجر أحياناً".

سجّلت باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية زحف الكثير من القيم السلبية على المجتمع في الأعوام الـ10 الأخيرة، مثل العنف والتعصب وتغليب المصلحة الفردية، مقابل تراجع قيم التسامح والإيثار والعمل الجماعى. 

هذه هي قائمة بأهم هذه التغيرات الكبرى:

1- تغير النسق القيمي من الإحساس بقيمة العمل الجماعي والتضامن إلى النزعة الاستهلاكية والأنانية المفرطة.

2- التعصب وأحادية الرؤية وغياب الحوار، وإلغاء الآخر لمجرد اختلافه في الرأي.

3- التدين الشكلي والازدواجية بين التمسك المفرط بالعبادات، دون أن ينعكس ذلك على المعاملات في بعض الأحيان. 

4- انتشار الثقافة الاستهلاكية والرغبة في الثراء السريع، مقابل تراجع قيم العمل المُنتج. 

5- تراجع السلطة العائلية لانشغال الأبوين بكسب الرزق في ظروف اقتصادية غير مستقرة، وضعف آليات الضبط الأسري؛ ما أدى إلى ارتفاع معدلات الانحراف والاضطراب بين الأبناء.

6- تزايد ظاهرة العنف، وتطور أنماط ومعدلات الجرائم في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فتزايدت معدلات الجرائم العائلية، واتخذت أشكالاً أكثر عنفاً، كما ظهرت أنماط مستحدثة من الجرائم المعلوماتية والجرائم المنظمة والإرهاب.


الإعلام المصري دخل هذا النفق المظلم من سنوات

توقف مدحت عن العادة التي اكتسبها فقط بسبب ثورة يناير: متابعة أخبار السياسة على المحمول وسهرات التوك شو.

اتخذ هذا القرار من باب الإحباط في نهايات 2017، ولم يرجع عنه حتى الآن.

"كل الإعلام يردد نغمة واحدة صدقناها في البداية، وتوقعنا الخير كله، لكن شعرت أنهم يكذبون بعد تعويم الجنيه، وبينما كنت أعاني الغلاء، ومستوى حياتي يهبط كالصاروخ؛ كان مذيعو التوك شو مازالوا يبشرون بالنعيم كله، ويطالبون الناس بأن يصدقوهم ويصبروا".

وفي نهاية أبريل/ نيسان 2022 فوجئ الرأي العام بخبر انتحار صحفي من الدور الرابع لمبنى صحيفة الأهرام في وسط القاهرة، وأصيب مدحت بالصدمة. 

لم يتصور أن مهنة الصحفي قد تُخضع صاحبها لضغوط مالية تدفعه للانتحار.

لكن التفاصيل كانت تخفي ما هو أعظم.

مهنة الصحافة مثل جميع فروع العمل الإعلامي؛ دخلت في نفق مظلم قبل سنوات، ولا يبدو ثمة نور في نهاية هذا النفق.

بعد الحادث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بمنشورات وتغريدات غاضبة ومحذرة من الحالة المزرية وغير المسبوقة التي وصلت لها الصحافة المصرية.

وفتح الصحفيون الملف المسكوت عنه في الصحافة المصرية منذ ما يقرب من عقد من الزمان: أوضاع الصحفيين المهنية والاقتصادية والمادية.

حالة العوز دفعت المئات منهم إلى هجر المهنة؛ بعضهم أصبح سائقاً لدى تطبيق أوبر، وآخرون فتحوا محال بقالة وعطارة ومنسوجات. 

أوجاع الصحفيين في مصر تبدأ من حجب العشرات من المواقع، وتسريح المئات من الصحفيين، ومنع مئات آخرين من غير "الموالين" للنظام من الكتابة، ولكنها تشمل الأوضاع الاقتصادية والمالية للصحفيين، باستثناء قلة قليلة لا يزيد عددهم عن 100 صحفي من المقربين للأجهزة الأمنية في مصر، والذين يحصلون على رواتب ضخمة في القنوات الفضائية التي تمتلكها الأجهزة السيادية؛ فهناك الآلاف من الصحفيين يعانون من العوز، ولا يزيد دخلهم عن 4 دولارات فقط يومياً. 

أجور الصحفيين المصريين هي الأقل في العالم العربي، بمتوسط يتراوح ما بين 120 إلى 140 دولاراً شهرياً.


فقد هويّته وأصبح إعلام الصوت الواحد 

وفقاً لتقرير استقصائي نشرته وكالة رويترز، سيطرت أجهزة الدولة السيادية على كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية سيطرة تامة. ويتلقى كل رؤساء التحرير ومقدمي البرامج تعليمات يومية من ضابط مخابرات، عبر جروب على "الواتس آب"، أو بمكالمات عاجلة عند الضرورة.

تكاد الصفحة الأولى في جميع الصحف الرسمية والمعارضة والمستقلة أن تكون نسخة واحدة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الصحافة المصرية".

في سنوات قليلة فقد المصريون هويتهم الإعلامية التي تميزوا بها.

اختفت برامج كانت شهيرة، واستُبعد مذيعون كانوا نجوماً، وبحث مئات الصحفيين عن عمل جديد، بعد فصلهم أو إغلاق مؤسساتهم.

استولت الأجهزة السيادية على صناعة المحتوى الإعلامي والدرامي، ووقف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مثل شرطي رقيب على كل ما ينشر أو يبث في الإذاعات والفضائيات وشبكة الإنترنت.

هناك رغبة "سيادية" في وجود مالك واحد أو أكثر لجميع الوسائل الإعلامية، وإنهاء عصر سيطرة رجال الأعمال وموظفي ماسبيرو على الإعلام.

هناك رغبة في تأسيس خطاب إعلامي واحد، على أن تكون الغلبة للمحتوى الاجتماعي الترفيهي بدلاً من السياسي.  والدليل على ذلك تجاهل جماعي من إعلام الدولة وحلفائها من رجال الأعمال للحادث الذي شغل مدحت وزملائه كثيرا في مايو/ أيار 2022: ظهور جمال مبارك.


الصمت الإعلامي خير دليل على الارتباك السياسي

تواطأ الجميع على تجاهل خبرين يخصان نجل الرئيس الراحل في 24 ساعة: زيارته أبو ظبي، وبيانه للعالم احتفاء بما وصفه "براءة ذمة والده والهائلة من أية شبهات للفساد أو التربح.

الاستثناء كان فقرة "دسمة" من إبراهيم عيسى على قناة القاهرة والناس، مدح فيها عائلة مبارك، وفي الوقت نفسه سلبهم من شرف المنافسة المستقبلية بأسئلة "عامة" عن مصادر ثرواتهم، واتهم جمال بالتجاوز في حق القضاء المصري، وقال إن البيان يصب في مصلحة جماعة الإخوان المحظورة.

فيديو 9 دقائق: تعليق إبراهيم عيسى على بيان جمال مبارك.

تابع مدحت الخبر وتفاعلاته على تويتر وفيسبوك، وفي غياب الخطاب السياسي الرسمي والواضح من المسؤولين، بدأ يتبنى بعض الأفكار التي صادفته على مواقع التواصل.

بوست من رئيس تحرير الأهرام الأسبق عبد العظيم حماد: لا داعي لتحميل الأمور لأكثر مما تحتمل 

بوست الصحفي المعارض هشام قاسم: بابا انا عايز ابقى رئيس جمهورية زيك لما اكبر

لم يصدق مدحت تحليلات معارضين بوجود صراعات خفية بين أجهزة الحكم، لأن الأولويات الآن هي إنقاذ سفينة الاقتصاد، لكنه لم يرفض تماما كل التحليلات عن دور إماراتي في صدور البيان بعد ساعات من وجود علاء وجمال مبارك في ضيافة محمد بن زايد، وأن هناك رغبة إماراتية في الضغط على الرئيس المصري لأسباب لا يتحدث عنها الإعلام المصري.

ولن يتحدث أبدا.


وصندوق النقد لن يفرض هذه الشروط على مصر أبداً

في أبريل/نيسان 2022 وقّعت 7 منظمات حقوقية على بيان يطالب صندوق النقد بالضغط على القاهرة لتنفيذ تغييرات جوهرية في عدة ملفات، شملت العناوين التالية:

- استعادة استقلالية القضاء، وهو أمر أساسي للنمو الاقتصادي ومحاربة الفساد. 

احتلت مصر المرتبة 136 من 139 دولة في "مؤشر سيادة القانون" التابع لـ"مشروع العدالة العالمية" لعام 2021.

تقبع مصر في مراكز متأخرة في عوامل الإنفاذ التنظيمي، والعدالة المدنية، والعدالة الجنائية.

وأدت التعديلات الدستورية في 2019 إلى تقويض استقلال القضاء، من خلال منح الرئيس سلطات إشرافية غير مقيدة على القضاء والنائب العام، فضلاً عن سلطة تعيين رؤساء الهيئات والسلطات القضائية، بحسب المنظمات. 

- مكافحة الفساد

المطلوب عدة إجراءات؛ في مقدمتها استعادة استقلالية "الجهاز المركزي للمحاسبات". 

- الشفافية بشأن شركات الجيش

شركات الجيش لا تخضع لأي إشراف مستقل أو مدني؛ "ما يحرم المصريين من الوصول إلى المعلومات اللازمة لتقييم التكاليف والمستفيدين من المشاريع الممولة من القطاع العام". حسب تقدير البيان. 

وتعمل شركات الجيش في سرية تامة تقريباً، وتخفي "أوجه القصور والخسائر الخفية"، رغم حصولها على "حصة غير متناسبة من الإيرادات العامة".

- وقف القمع السياسي

ترافق التوسع الاقتصادي الشرس للجيش مع القمع السياسي المتزايد، بما فيه قمع نخبة رجال الأعمال الذين يُعتبرون معارضين سياسيين، كما حدث مع صفوان ثابت ونجله سيف، صاحبَي "شركة جهينة"، لرفضهما تسليم أسهم إلى شركة تملكها الدولة. 

"إن كان صندوق النقد الدولي جاداً بشأن المساعدة في تحسين الحوكمة في مصر، وبناء اقتصاد لصالح جميع المصريين؛ فعليه تغيير نهجه بشكل كبير؛ يجب أن ينهي تجاهله لعشرات ملايين المصريين الذين يعيشون في الفقر، وللتوسع الهائل في الدور الغامض للجيش في الاقتصاد"، كما قال تيموثي كالداس، زميل السياسات بـ"معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" أحد الموقّعين على البيان.

العنف في كل بيت وكل شارع

يرصد الخبراء ما يصفونه "بالتغيرات الكبيرة في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية"، فيصاب المصريون بالصدمة.

ويعاني مدحت في جيرته بأطراف حي المعادي من كل أمراض المجتمع الفوضوي، الذي جعل الحياة شبه مستحيلة في السنوات الأخيرة.

"لا يمر يوم تقريباً من غير خناقة في زحام المرور أو مكاتب الكلية أو مع الجيران. الناس السيئة تصيبك بالإحباط بتصرفات غير منطقية في كل مكان، والأطفال أصبحوا أكثر عدوانية وصخباً حتى مطلع الفجر أحياناً".

سجّلت باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية زحف الكثير من القيم السلبية على المجتمع في الأعوام الـ10 الأخيرة، مثل العنف والتعصب وتغليب المصلحة الفردية، مقابل تراجع قيم التسامح والإيثار والعمل الجماعى. 

هذه هي قائمة بأهم هذه التغيرات الكبرى:

1- تغير النسق القيمي من الإحساس بقيمة العمل الجماعي والتضامن إلى النزعة الاستهلاكية والأنانية المفرطة.

2- التعصب وأحادية الرؤية وغياب الحوار، وإلغاء الآخر لمجرد اختلافه في الرأي.

3- التدين الشكلي والازدواجية بين التمسك المفرط بالعبادات، دون أن ينعكس ذلك على المعاملات في بعض الأحيان. 

4- انتشار الثقافة الاستهلاكية والرغبة في الثراء السريع، مقابل تراجع قيم العمل المُنتج. 

5- تراجع السلطة العائلية لانشغال الأبوين بكسب الرزق في ظروف اقتصادية غير مستقرة، وضعف آليات الضبط الأسري؛ ما أدى إلى ارتفاع معدلات الانحراف والاضطراب بين الأبناء.

6- تزايد ظاهرة العنف، وتطور أنماط ومعدلات الجرائم في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فتزايدت معدلات الجرائم العائلية، واتخذت أشكالاً أكثر عنفاً، كما ظهرت أنماط مستحدثة من الجرائم المعلوماتية والجرائم المنظمة والإرهاب.


الإعلام المصري دخل هذا النفق المظلم من سنوات

توقف مدحت عن العادة التي اكتسبها فقط بسبب ثورة يناير: متابعة أخبار السياسة على المحمول وسهرات التوك شو.

اتخذ هذا القرار من باب الإحباط في نهايات 2017، ولم يرجع عنه حتى الآن.

"كل الإعلام يردد نغمة واحدة صدقناها في البداية، وتوقعنا الخير كله، لكن شعرت أنهم يكذبون بعد تعويم الجنيه، وبينما كنت أعاني الغلاء، ومستوى حياتي يهبط كالصاروخ؛ كان مذيعو التوك شو مازالوا يبشرون بالنعيم كله، ويطالبون الناس بأن يصدقوهم ويصبروا".

وفي نهاية أبريل/ نيسان 2022 فوجئ الرأي العام بخبر انتحار صحفي من الدور الرابع لمبنى صحيفة الأهرام في وسط القاهرة، وأصيب مدحت بالصدمة. 

لم يتصور أن مهنة الصحفي قد تُخضع صاحبها لضغوط مالية تدفعه للانتحار.

لكن التفاصيل كانت تخفي ما هو أعظم.

مهنة الصحافة مثل جميع فروع العمل الإعلامي؛ دخلت في نفق مظلم قبل سنوات، ولا يبدو ثمة نور في نهاية هذا النفق.

بعد الحادث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بمنشورات وتغريدات غاضبة ومحذرة من الحالة المزرية وغير المسبوقة التي وصلت لها الصحافة المصرية.

وفتح الصحفيون الملف المسكوت عنه في الصحافة المصرية منذ ما يقرب من عقد من الزمان: أوضاع الصحفيين المهنية والاقتصادية والمادية.

حالة العوز دفعت المئات منهم إلى هجر المهنة؛ بعضهم أصبح سائقاً لدى تطبيق أوبر، وآخرون فتحوا محال بقالة وعطارة ومنسوجات. 

أوجاع الصحفيين في مصر تبدأ من حجب العشرات من المواقع، وتسريح المئات من الصحفيين، ومنع مئات آخرين من غير "الموالين" للنظام من الكتابة، ولكنها تشمل الأوضاع الاقتصادية والمالية للصحفيين، باستثناء قلة قليلة لا يزيد عددهم عن 100 صحفي من المقربين للأجهزة الأمنية في مصر، والذين يحصلون على رواتب ضخمة في القنوات الفضائية التي تمتلكها الأجهزة السيادية؛ فهناك الآلاف من الصحفيين يعانون من العوز، ولا يزيد دخلهم عن 4 دولارات فقط يومياً. 

أجور الصحفيين المصريين هي الأقل في العالم العربي، بمتوسط يتراوح ما بين 120 إلى 140 دولاراً شهرياً.


فقد هويّته وأصبح إعلام الصوت الواحد 

وفقاً لتقرير استقصائي نشرته وكالة رويترز، سيطرت أجهزة الدولة السيادية على كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية سيطرة تامة. ويتلقى كل رؤساء التحرير ومقدمي البرامج تعليمات يومية من ضابط مخابرات، عبر جروب على "الواتس آب"، أو بمكالمات عاجلة عند الضرورة.

تكاد الصفحة الأولى في جميع الصحف الرسمية والمعارضة والمستقلة أن تكون نسخة واحدة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الصحافة المصرية".

في سنوات قليلة فقد المصريون هويتهم الإعلامية التي تميزوا بها.

اختفت برامج كانت شهيرة، واستُبعد مذيعون كانوا نجوماً، وبحث مئات الصحفيين عن عمل جديد، بعد فصلهم أو إغلاق مؤسساتهم.

استولت الأجهزة السيادية على صناعة المحتوى الإعلامي والدرامي، ووقف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مثل شرطي رقيب على كل ما ينشر أو يبث في الإذاعات والفضائيات وشبكة الإنترنت.

هناك رغبة "سيادية" في وجود مالك واحد أو أكثر لجميع الوسائل الإعلامية، وإنهاء عصر سيطرة رجال الأعمال وموظفي ماسبيرو على الإعلام.

هناك رغبة في تأسيس خطاب إعلامي واحد، على أن تكون الغلبة للمحتوى الاجتماعي الترفيهي بدلاً من السياسي.  والدليل على ذلك تجاهل جماعي من إعلام الدولة وحلفائها من رجال الأعمال للحادث الذي شغل مدحت وزملائه كثيرا في مايو/ أيار 2022: ظهور جمال مبارك.


الصمت الإعلامي خير دليل على الارتباك السياسي

تواطأ الجميع على تجاهل خبرين يخصان نجل الرئيس الراحل في 24 ساعة: زيارته أبو ظبي، وبيانه للعالم احتفاء بما وصفه "براءة ذمة والده والهائلة من أية شبهات للفساد أو التربح.

الاستثناء كان فقرة "دسمة" من إبراهيم عيسى على قناة القاهرة والناس، مدح فيها عائلة مبارك، وفي الوقت نفسه سلبهم من شرف المنافسة المستقبلية بأسئلة "عامة" عن مصادر ثرواتهم، واتهم جمال بالتجاوز في حق القضاء المصري، وقال إن البيان يصب في مصلحة جماعة الإخوان المحظورة.

فيديو 9 دقائق: تعليق إبراهيم عيسى على بيان جمال مبارك.

تابع مدحت الخبر وتفاعلاته على تويتر وفيسبوك، وفي غياب الخطاب السياسي الرسمي والواضح من المسؤولين، بدأ يتبنى بعض الأفكار التي صادفته على مواقع التواصل.

بوست من رئيس تحرير الأهرام الأسبق عبد العظيم حماد: لا داعي لتحميل الأمور لأكثر مما تحتمل 

بوست الصحفي المعارض هشام قاسم: بابا انا عايز ابقى رئيس جمهورية زيك لما اكبر

لم يصدق مدحت تحليلات معارضين بوجود صراعات خفية بين أجهزة الحكم، لأن الأولويات الآن هي إنقاذ سفينة الاقتصاد، لكنه لم يرفض تماما كل التحليلات عن دور إماراتي في صدور البيان بعد ساعات من وجود علاء وجمال مبارك في ضيافة محمد بن زايد، وأن هناك رغبة إماراتية في الضغط على الرئيس المصري لأسباب لا يتحدث عنها الإعلام المصري.

ولن يتحدث أبدا.


وصندوق النقد لن يفرض هذه الشروط على مصر أبداً

في أبريل/نيسان 2022 وقّعت 7 منظمات حقوقية على بيان يطالب صندوق النقد بالضغط على القاهرة لتنفيذ تغييرات جوهرية في عدة ملفات، شملت العناوين التالية:

- استعادة استقلالية القضاء، وهو أمر أساسي للنمو الاقتصادي ومحاربة الفساد. 

احتلت مصر المرتبة 136 من 139 دولة في "مؤشر سيادة القانون" التابع لـ"مشروع العدالة العالمية" لعام 2021.

تقبع مصر في مراكز متأخرة في عوامل الإنفاذ التنظيمي، والعدالة المدنية، والعدالة الجنائية.

وأدت التعديلات الدستورية في 2019 إلى تقويض استقلال القضاء، من خلال منح الرئيس سلطات إشرافية غير مقيدة على القضاء والنائب العام، فضلاً عن سلطة تعيين رؤساء الهيئات والسلطات القضائية، بحسب المنظمات. 

- مكافحة الفساد

المطلوب عدة إجراءات؛ في مقدمتها استعادة استقلالية "الجهاز المركزي للمحاسبات". 

- الشفافية بشأن شركات الجيش

شركات الجيش لا تخضع لأي إشراف مستقل أو مدني؛ "ما يحرم المصريين من الوصول إلى المعلومات اللازمة لتقييم التكاليف والمستفيدين من المشاريع الممولة من القطاع العام". حسب تقدير البيان. 

وتعمل شركات الجيش في سرية تامة تقريباً، وتخفي "أوجه القصور والخسائر الخفية"، رغم حصولها على "حصة غير متناسبة من الإيرادات العامة".

- وقف القمع السياسي

ترافق التوسع الاقتصادي الشرس للجيش مع القمع السياسي المتزايد، بما فيه قمع نخبة رجال الأعمال الذين يُعتبرون معارضين سياسيين، كما حدث مع صفوان ثابت ونجله سيف، صاحبَي "شركة جهينة"، لرفضهما تسليم أسهم إلى شركة تملكها الدولة. 

"إن كان صندوق النقد الدولي جاداً بشأن المساعدة في تحسين الحوكمة في مصر، وبناء اقتصاد لصالح جميع المصريين؛ فعليه تغيير نهجه بشكل كبير؛ يجب أن ينهي تجاهله لعشرات ملايين المصريين الذين يعيشون في الفقر، وللتوسع الهائل في الدور الغامض للجيش في الاقتصاد"، كما قال تيموثي كالداس، زميل السياسات بـ"معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" أحد الموقّعين على البيان.

أعدو بكل قوة لمجرد أن أبقى في مكاني 

في بداية مايو/أيار 2022، سأل أستاذ القانون الشهير نور فرحات أصدقاءه على فيسبوك: كيف ترون مستقبل مصر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وطبقياً بعد 10 سنوات من الآن، في ظل استمرار السياسات القائمة؟

وفي التعليقات على البوست ردت خبيرة العُمران المعروفة د. جليلة القاضي في لهجة بين التنبؤ والسخرية: غرق ثلث مساحة الدلتا بطول سواحل مصر الشمالية؛ بسبب الاحتباس الحراري.

وتقلص مساحة القطر والجفاف، وهجرة ملايين من السكان لدول الجوار المتقدمة، السودان وليبيا والسعودية، وأيضاً إسرائيل بعد استعادتها سيناء، وانتقال مقر جامعة الدول العربية إليها.

ورد صديق آخر متعجباً من السؤال: يا أستاذنا أتطلب منا المستحيل؟ كيف نعتمد على برمجيات المستقبل والدولة نفسها ترتجل، وكل شيء فيها غير مدروس؟

يقول نور فرحات في تدوينته: دون قراءة علمية للمستقبل، لا قيمة لحاضر.

ويُكمل مدحت: ودون تخطيط علمي للحاضر، لا يوجد مستقبل.

يضيف: في أي مكان في العالم تصل إلى أهدافك، وتحسّن حياتك ببعض المجهود والاستثمار والتعب. لكن في مصر أشعر أنني أعدو طوال الوقت بلا راحة، لمجرد أن أظل في مكاني بلا مزيد من المعاناة أو البهدلة.

أعدو بكل قوة لمجرد أن أبقى في مكاني 

في بداية مايو/أيار 2022، سأل أستاذ القانون الشهير نور فرحات أصدقاءه على فيسبوك: كيف ترون مستقبل مصر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وطبقياً بعد 10 سنوات من الآن، في ظل استمرار السياسات القائمة؟

وفي التعليقات على البوست ردت خبيرة العُمران المعروفة د. جليلة القاضي في لهجة بين التنبؤ والسخرية: غرق ثلث مساحة الدلتا بطول سواحل مصر الشمالية؛ بسبب الاحتباس الحراري.

وتقلص مساحة القطر والجفاف، وهجرة ملايين من السكان لدول الجوار المتقدمة، السودان وليبيا والسعودية، وأيضاً إسرائيل بعد استعادتها سيناء، وانتقال مقر جامعة الدول العربية إليها.

ورد صديق آخر متعجباً من السؤال: يا أستاذنا أتطلب منا المستحيل؟ كيف نعتمد على برمجيات المستقبل والدولة نفسها ترتجل، وكل شيء فيها غير مدروس؟

يقول نور فرحات في تدوينته: دون قراءة علمية للمستقبل، لا قيمة لحاضر.

ويُكمل مدحت: ودون تخطيط علمي للحاضر، لا يوجد مستقبل.

يضيف: في أي مكان في العالم تصل إلى أهدافك، وتحسّن حياتك ببعض المجهود والاستثمار والتعب. لكن في مصر أشعر أنني أعدو طوال الوقت بلا راحة، لمجرد أن أظل في مكاني بلا مزيد من المعاناة أو البهدلة.