كان عام 2020 ملتقى الآمال والإنجازات في خطة ولي العهد السعودي

للنهوض.

والإصلاح.

والعبور إلى المستقبل.

والموعد مع اقتصاد لا يعتمد على النفط فقط، كما وعد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد.

وقبل أيام من بداية العام، كان وزير المالية السعودي محمد الجدعان يتحدث لمجموعة من الصحفيين عن ميزانية 2020، وجاءت "متحفظة بشأن الإيرادات بسبب التطورات الاقتصادية العالمية".

كانت هذه "التطورات" لا تتجاوز الحرب التجارية التي يخوضها الرئيس الأمريكي على عدة جبهات، وقيود التجارة والعقوبات على الصين وإيران وآخرين. 

لم يعرف الجدعان أن العالم على موعد مع حدثين سيهزان الكوكب بعد أيام من هذا التصريح.

  • انهيار أسعار النفط إلى حدود السعر السالب لأول مرة في التاريخ.
  • والإغلاق الكبير لمعظم دول العالم في مواجهة هجوم فيروس كورونا المستجد على القارات الخمس. 

لكن العاصفة أصبحت ثلاثية على المملكة، بسبب أوضاع "قديمة"، سابقة للحدثين، حذر منها صندوق النقد الدولي، بناءً على سلسلة طويلة من المغامرات غير المحسوبة أقدم عليها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أدت لتآكل الاحتياطات النقدية للمملكة بسرعة البرق.

كانت نبوءة الصندوق للسعودية أنها بحلول عام 2034 ستكون مدينة بشكل صافٍ لبقية العالم. 

هذا التوقع كان مبنيّاً على أساس أن أسعار النفط في عام 2020 ستبقى بحدود 55 دولاراً للبرميل، ولكن بما أن الأسعار هوت بشكل كبير إلى ما دون الـ30 دولاراً للبرميل حالياً فإن هذا التوقع قد يتحقق في وقت أقرب.

واعتبرت الصحافة الغربية أن لدى ولي العهد سجل طويل من سوء التقدير، كان أحدثها "القطيعة مع روسيا وإغراق السوق بالنفط السعودي الخام، في وقت يشهد فيه الطلب العالمي تراجعاً شديداً بسبب التأثير الاقتصادي لتفشي وباء كورونا".

من الفنادق الفارغة إلى رحلات الطيران المعلّقة، يقف السعوديون على أعتاب مرحلة اقتصادية صعبة، تتأثر بإجراءات الحماية من فيروس كورونا المستجد، ويعمّقها انهيار أسعار النفط وتدابير التقشف المحتملة.

هذا التقرير يرصد أهم تداعيات تراجع أسعار البترول عن المستوى الذي اعتمدته المملكة لبناء ميزانيتها لعام 2020، وما يترتب على ذلك من آثار على الاقتصاد والثروة السيادية، واستقرار دولة "الرفاه" التقليدية.

الاقتصاد السعودي هبة النفط.

تملك السعودية واحداً من أقوى الاقتصادات في العالم.

هي الثانية عالمياً في حجم الاحتياطي المؤكد من النفط، بما يزيد على 18% من إجمالي ما يملكه العالم، ولا يسبقها سوى فنزويلا.

يشكل القطاع البترولي حوالي 45٪ من عائدات الموازنة، و45٪ من الناتج المحلي الإجمالي، و90٪ من عائدات التصدير.

حققت المملكة العربية السعودية نمواً استثنائياً في الفترة من 2003 حتى 2013 بفضل الطفرة التي شهدتها أسعار النفط، لتصل إلى المركز التاسع عشر ضمن أكبر اقتصادات العالم، ما أثمر عن تضاعف الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع دخل الأسرة السعودية بنسبة 75%، وتوفير 1.7 مليون فرصة عمل للمواطنين، بما في ذلك دخول عدد متزايد من النساء السعوديات إلى سوق العمل. وقامت الحكومة باستثمارات واسعة في مجالات التعليم والرعاية الصحية ومشاريع البنية التحتية، كما عززت الاحتياطيات النقدية التي بلغت ما يقارب 100% كنسبة من الناتج المحلي خلال عام 2014.

العقد السحري بين عام 2003 وأواخر عام 2014 كان مذهلاً في تراكم الثروة النفطية التي سمحت بإنفاق أموالٍ طائلة في الخدمات الاجتماعية، والإنفاق على البنية التحتية، وتوظيف السكان في القطاع العام، وفي الوقت نفسه خلق مخزونٍ غير مسبوق من الاحتياطيات الأجنبية.

وارتفعت الأصول الاحتياطية السعودية من أقل من 30 مليار دولار في عام 2003 إلى أكثر من 750 مليار دولار بحلول أوائل عام 2015.

وسجلت ميزانية 2019 رقماً قياسياً، فهي الأكبر في تاريخ المملكة، بحجم إنفاق يصل إلى 295 مليار دولار، بزيادة 7% عن العام المالي السابق.

وفي نهاية 2019 احتفلت المملكة بميزانية أخرى كبيرة للعام الجديد. 

ميزانية استندت إلى سعر بين 62 و63 دولاراً للبرميل على أساس سعر خام برنت، بافتراض إنتاج نحو 9.8 مليون برميل يومياً.

وتوقع بيان الميزانية السعودية انخفاض الإيرادات النفطية إلى 513 مليار ريال في 2020 من 602 مليار ريال في 2019 وفقاً للتقديرات.

لكن انهارت أسعار النفط في بداية مارس/آذار.

ودخل العالم في الإغلاق الكبير بعدها بأيام.

وطلبت الحكومة من إداراتها تصورات لخفض ميزانياتها بين 20% و30%، وكان ذلك قبل انهيار اتفاق خفض الإنتاج بين أوبك وحلفائها.

نهاية 2019 أعلنت المملكة العربية السعودية ميزانيتها لعام 2020 مع توقع إنفاق نحو 272 مليار دولار، لتشكل ثاني أضخم ميزانية في تاريخ المملكة.

ميزانية عام 2019 كانت الأضخم في تاريخ المملكة، مع توقع وصول الإنفاق فيها إلى 1.05 تريليون ريال (الريال يعادل 0.27 من الدولار).

توقعت الميزانية نسبة عجز تصل إلى 187 مليار ريال، وهي أعلى بنحو 56 مليار ريال من العام السابق، أي نحو نسبة 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي.

وتوقعت ميزانية 2020 انخفاض الإيرادات بنحو 83 مليار ريال عن توقعات عام 2019 التي تشير إلى أن مبلغ الإيرادات هو 917 مليار ريال، بينما كان إجمالي الإيرادات الفعلي في عام 2018 هو 906 مليارات ريال.

بيانات الميزانية الجديدة ارتفعت بحجم الدين العام مع نهاية عام 2019 إلى 678 مليار ريال، وهو ما يمثل نحو 24% من الناتج الإجمالي المحلي.

وتوقعت الميزانية هبوط الإيرادات النفطية في 2020 إلى 513 مليار ريال بانخفاض قدره 14.7% مقارنة بعام 2019.

الإيرادات والنفقات في ميزانيات الأعوام الأخيرة/ المصدر: وزارة الإعلام السعودية

الإيرادات والنفقات في ميزانيات الأعوام الأخيرة/ المصدر: وزارة الإعلام السعودية

معدل نمو الإيرادات غير النفطية/ المصدر: وزارة الإعلام السعودية

معدل نمو الإيرادات غير النفطية/ المصدر: وزارة الإعلام السعودية

الإيرادات والمصروفات منذ عام 2000 

الإيرادات والمصروفات منذ عام 2000 

الإنفاق على القطاعات المختلفة في ميزانية 2020/ المصدر: بي بي سي عربي

الإنفاق على القطاعات المختلفة في ميزانية 2020/ المصدر: بي بي سي عربي

احتل الإنفاق على الصحة والتنمية الاجتماعية المرتبة الأولى بتخصيص مبلغ 197 مليار ريال، ويليه قطاع التعليم بـ193 مليار ريال.

وجاء الإنفاق العسكري في المرتبة الثالثة بتخصيص مبلغ 182 مليار ريال، أي بتراجع بنسبة 18.3% عن العام الحالي. وجاء الأمن والمناطق الإدارية في المرتبة الخامسة بتخصيص مبلغ 102 مليار ريال.

وحلت قطاع الإدارة العامة في المرتبة الأخيرة بمبلغ 28 مليار ريال.

تعتبر المملكة العربية السعودية حالة نموذجية للاقتصاد الريعي.

بلد يعتمد بصورة شبه كاملة على قطاع البترول، تمنحه الصناعات الاستخراجية نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي، وما يقرب من 90% من إجمالي صادراتها، وما يزيد على 80% من إيرادات الدولة.

على الرغم من أن الريع النفطي قد ضمن للمملكة فرصاً كبيرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في مجالات كالتعليم والرعاية الصحية، فإنه قد جعل المملكة اقتصاداً وحكومةً في وضع شديد الاعتماد على أسعار النفط العالمية، وتقلباتها العصيّة على الترويض.

جرى التعامل منذ ثمانينيات القرن الماضي مع تقلبات أسعار النفط عن طريق مراكمة احتياطيات نقدية شديدة الضخامة في فترات الرخاء، وجمعت دول الخليج منذ 2008، حيث جمعت ما يفوق تريليونين ونصف تريليون دولار في صور شتى. 

وكان النمط التنموي الذي ساد في العقود الماضية في أغلب بلاد الخليج بما فيها السعودية، قائماً على إعادة تدوير الريع النفطي في قطاعات غير تجارية خاصة التنمية العقارية والإنشاءات والخدمات، وهنا يكمن التحدي الأساسي اليوم في أنه توجد المملكة قطاعات صناعية أو خدمية مرتفعة القيمة وقادرة على المنافسة.

حماس محمد بن سلمان لتحويل اقتصاد بلاده من الاعتماد على البترول إلى اقتصاد دولة حديثة يعتمد على الاستثمار لم يكن أبداً محل شك، و"لكن ما كان محل شك منذ أمد طويل هو رجاحة رأيه، كما كتبت فايننشيال تايمز في مارس/آذار الماضي.

ومن أجل تنويع مصادرها المالية بعيداًعن الاعتماد شبه الكلي على النفط، وضعت الرياض مجموعة من المخططات الضخمة لتحويل الاقتصاد المحلي في سياق رؤية 2030، من أكبرها مشروع "نيوم"، المدينة التي ستجمع أنشطة اقتصادية متطورة عديد منها يقوم على الابتكار التكنولوجي، ورصدت لها الرياض ميزانية بقيمة 500 مليار دولار.

بن سلمان يتحدث عن ضرورة تحرير الاقتصاد من "إدمان" النفط

قطاع النفط والغاز في السعودية

  • 50% من الناتج المحلي الإجمالي
  • 70% من إيرادات الصادرات

على الرغم من المناقشات في المملكة بشأن الحاجة إلى إيجاد مصادر جديدة ذات قيمة مضافة غير مرتبطة بإنتاج النفط، فإن صادرات النفط تمثل حوالي 80% من دخل السعودية، في وقت تسعى فيه "رؤية 2030" إلى إخراج البلاد من وضع الاعتماد التام على صادرات النفط من خلال إعادة استثمار الثروة النفطية في الصناعات المستدامة.

رؤية السعودية 2030 هي خطة ما بعد النفط بالمملكة.

تم الإعلان عنها في 2016، وتتضمن 80 مشروعاً حكومياً عملاقاً، تبلغ كلفة الواحد منها ما لا يقل عن 3.7 مليار ريال وتصل إلى 20 مليار ريال، كما في مشروع مترو الرياض. 

وفي العام نفسه وافق مجلس الوزراء السعودي على برنامج التحول الوطني أحد برامج "رؤية المملكة 2030".

تعاني الخطة من انصراف الاستثمارات الأجنبية في العامين الأخيرين، بسبب ملف المملكة في حقوق الإنسان لا سيما بعد مقتل جمال خاشقجي، وحروبها في اليمن. ورغم أن قيمة الاستثمار الأجنبي في المملكة لعام 2018 بلغت 3.2 مليارات دولار، فإنه لا يمكن مقارنة هذا الرقم مع قيمة الاستثمار الأجنبي لعام 2015، التي قدرت بنحو 8.1 مليار دولار، أو لعام 2010 التي قدرت بحوالي 29.2 مليار دولار.

والاستثمار الأجنبي المباشر من المعايير المهمة لضمان نجاح "رؤية 2030". 

مدينة نيوم NEOM التي تعتبر أحد أهداف رؤية 2030، يقدمها مصمموها على الورق بأنها ستكون من الضخامة بحيث تعادل نيويورك 33 مرة.

وستكون خضراء وحديثة للغاية.

يتنقل سكانها في سيارات أجرة طائرة.

وتهطل عليها الأمطار الصناعية عند الرغبة. 

واختار بن سلمان للمشروع أن يكون على الحدود الخارجية لأراضي المملكة ليحرر سكانها من "التشدد" السعودي، ويرتدوا الملابس كما يريدون، ويستهلكوا الكحول المحرم الآن في بلاد مهبط الإسلام، بحسب صحيفة Le Monde.

السعوديون لم يعودوا يتحدثون عن رؤية 2030 ومشاريع ولي العهد محمد بن سلمان مثل مشروع نيوم؛ لأن أغلبها توقف بسبب شح السيولة، بل بات همّهم الوحيد هو كيف يديرون هذه المرحلة بأقل الخسارات.

هل سيبلغ هذا المشروع غايته؟

تجيب صحيفة Le Monde: لا.

ليس فقط بسبب التهديد الذي يواجهه من القبائل المحلية، ولكن بسبب الأزمتين المتشابكتين: أزمة الصحة، وأزمة أسعار النفط، اللتين تهزان المملكة.

وتشير الصحيفة إلى أنه مع انخفاض أسعار النفط والركود العالمي يلوح في الأفق، يتعين على بن سلمان خفض الإنفاق العام وربما تعليق أو إبطاء بعض مشاريعه الرئيسة، ومع الحويطات أو بدونهم، ليس هناك ما يضمن أن مدينة المستقبل سيكون لها مستقبل.

المصدر: بي بي سي عربي

المصدر: بي بي سي عربي

المصدر: بي بي سي عربي

المصدر: بي بي سي عربي

 مدينة نيوم كما يحلم بها ولي العهد السعودي

 مدينة نيوم كما يحلم بها ولي العهد السعودي

سبقت عاصفة انهيار أسعار النفط عدة أخطاء، نجم عنها إنهاك الخزينة السعودية، وتشتيت أهداف ولي العهد على المديين القريب والبعيد.

حرب اليمن، والتدخل السياسي في مصر، والتدخلات السياسية والعسكرية في أرجاء العالم العربي. مشتريات السلاح الضخمة من أمريكا، وغيرها من المشروعات غير "الحتمية".

مثال آخر: يحاول ولي العهد شراء نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، من خلال صندوق الاستثمار السعودي، لكن المحاولة تواجه بعض المشاكل التي قد تحول دون تحقيق رغبته القديمة بدخول غمار المنافسة، في الدوري الأقوى عالمياً. وبدأت الاعتراضات بسبب سجل السعودية في مجال حقوق الإنسان، والاتهامات التي تُطارد الأمير محمد بن سلمان شخصياً، والتي دفعت منظمة العفو الدولية للتحذير من تضرر سُمعة الدوري الإنجليزي.

ثم هناك دائماً الاستثمارات السيئة للصندوق السيادي.

أحد المؤشرات على الاستثمارات السيئة أو الخاسرة هبوط القيمة النسبية لصناديق الثروة السيادية، فهذا هو الأخ الأكبر الذي تمثله المملكة العربية السعودية يجد نفسه الآن قزماً مقارنة بالجيران الخليجيين الأصغر حجماً.

أكبر صندوق ثروة سيادي سعودي هو صندوق الاستثمار العام، والذي يأتي في المرتبة الحادية عشرة عالمياً.

ويرى صندوق النقد الدولي أن خطط زيادة قيمة صندوق الاستثمار العام من 300 مليار دولار كما هو حالياً إلى تريليون دولار، فإن العوائد المالية وحدها لن تشكل دخلاً بديلاً كافياً في عالم ما بعد النفط. 

الوضع المثالي للسعودية هو أن يكون إنتاج النفط بمستوى 10 ملايين برميل في اليوم، بقيمة 65 دولاراً للبرميل، تترجم إلى إيراد سنوي من النفط قدره حوالي 11 ألف دولار لكل سعودي في الوقت الحالي.

أمثلة أخرى على الاستثمار السيئ.

دفع صندوق الاستثمار العام 49 دولاراً للسهم في حصة اشتراها في مؤسسة أوبر للتكنولوجيا في 2017. تراجعت أسهم أوبر منذ ذلك الوقت بشكل كبير.

باع الصندوق أسهمه في شركة تيسلا بقيمة ملياري دولار في أواخر 2019 قبل وقت قليل فقط من ارتفاع كبير حققته أسهم الشركة بقدر يصل لنحو 80%.

وجاء انهيار أسعار النفط بعد أقل من أسبوعين على هدر صندوق الاستثمار العام العام مليار دولار على حصص في شركات نفط أوروبية وعلى شركة بواخر سياحية، وكلها استثمارات تلقي بظلال من الشك على نجاعة استراتيجية صندوق الاستثمار العام في تنويع الموارد بعيداً عن النفط.

https://carnegie-mec.org/diwan/74755

https://carnegie-mec.org/diwan/74755

جلسة تداول عاصفة في سوق النفط بنيويورك، يوم 20 أبريل/نيسان 2020، منحت اليوم اسمه للذكرى: الإثنين الأسود.

هبط مؤشر السعر حتى رقم صفر، ثم استمر في السقوط الحر، ليكتب تاريخاً غير مسبوق في بيزنس النفط: الأسعار سالب 37 دولاراً للبرميل من نفط تكساس.

إنها تخمة عالمية في المعروض. 

إنها حرب الأسعار المشتعلة بين روسيا والسعودية منذ بداية العام، ثم نضوب الطلب الفعلي على النفط بسبب أزمة كورونا المستجد.

ومع امتلاء منشآت التخزين في الولايات المتحدة والعالم، ارتفعت تكلفة التخزين بشكل لم يسبق له مثيل.

السعودية خاضت حرب أسعار ضد روسيا بالوكالة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كان يسعى إلى الإضرار بالاقتصاد الروسي، في وقت كانت فيه الرياض تأمل في الحفاظ على حصصها في الأسواق، لكنها لم تحسن حسابات الكلفة الاقتصادية والسياسية لهذه الحرب.

لماذا كان القرار خاطئاً؟

تصور السعودية في البداية هو إغراق الأسواق بمزيد من البراميل ومن ثم إخراج روسيا، لكن غاب عن ذهن صانع القرار السياسي هناك أن روسيا تتمتع باحتياطات ضخمة من النقد الأجنبي تعينها على الصمود طويلاً ولسنوات، كما تجاهلت أن الاقتصاد الروسي متنوع ولا يعتمد على إيرادات النفط فقط، وأن موسكو تتمتع بقوة اقتصادية وسياسية مقدرة عالمياً.

السعودية لم يعد أمامها سبيل سوى اللجوء إلى تخزين الكثير من النفط في البحر، بعد أن تسببت حرب أسعار النفط التي تشنها ضد روسيا في إغراق السوق بالنفط الخام. كما أن براميل النفط التي خزنتها السعودية على متن ناقلات ضخمة في البحار، قد تصبح غير ذات جدوى اقتصادية في حال استمرت جائحة كورونا من جهة وانخفضت أسعار الخام من جهة أخرى.

باختصار: إذا استمرت هذه الأزمة فقد تصبح تكلفة برميل النفط أغلى من سعر بيعه.

لقد غير انهيار أسعار النفط كل شيء.

"لقد استند الكثير من الانتعاش الأخير الذي شهدته السعودية إلى أن سعر النفط كان أعلى من 50 دولاراً للبرميل، ما يوفر الدعم للنشاط الاقتصادي، وقد تم تدميره للتوّ"، كما تقول مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في مصرف أبوظبي التجاري. 

اكتشف الآن محمد بن سلمان كم هي ضعيفة أوراقه، ولكن من الإنصاف أن نقول إنه قبل أن يجري المكالمة استشار شخصاً لا يقل كِبراً وحماقة عنه وهو صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر الذي استمع من ولي العهد السعودي إلى ما كان ينوي عمله ولم يعترض. وهذا يفسّر، كما كتب ديفيد هيرست، لماذا كان أول رد فعل لترامب هو الترحيب بانهيار أسعار النفط.

انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية أعاد السعودية إلى الوراء ووضعتها في الطريق نحو أسوأ انكماش اقتصادي تشهده منذ عقدين مع وصول عجز الموازنة العامة للمملكة إلى مستوى ما تعرضت له خلال أزمة النفط قبل أربعة أعوام.

جاءت كورونا في وقت غير مناسب للاقتصاد السعودي.

إضافة إلى الاضطرابات الاقتصادية بفعل الإجراءات الاحترازية، لحقت أضرار بالبلدان المصدّرة للنفط في المنطقة بسبب انخفاض أسعار السلع الأولية. 

وأخيراً، فإن الارتفاعات الحادة في درجة العزوف عالمياً عن المخاطر وهروب رؤوس الأموال إلى الأصول المأمونة أدت إلى تراجع تدفقات استثمارات الحافظة إلى المنطقة بنحو ملياري دولار منذ منتصف فبراير/شباط، بينما شهدت الأسابيع الأخيرة خروج تدفقات كبيرة، كما ورد على صفحة صندوق النقد الدولي.

أسعار الأسهم انخفضت، وفروق العائد على السندات اتسعت. 

وضيق الأوضاع المالية الذي نشهده حالياً يمكن أن يشكل تحدياً جسيماً، حيث تشير التقديرات إلى وصول الديون السيادية الخارجية التي يحل أجل استحقاقها على المنطقة في 2020 إلى 35 مليار دولار.

لا تملك المملكة العربية السعودية اليوم القدرة على توفير منشط مالي للتخفيف من وطأة الوباء كما تفعل جاراتها في الخليج.

تنفق المملكة 1% من الناتج المحلي الإجمالي لدعم الاقتصاد أثناء فترة الإغلاق.

بينما تنفق قطر 5.5%.

وتنفق البحرين 3.9%.

وتنفق الإمارات 1.8%.

نفط وكورونا: الديون والاقتراض إلى ارتفاع جديد

الناتج المحلي السعودي نهاية 2019 حوالى 700.1 مليار دولار

الدين الصافي سيصل إلى 19% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020 وسيصل إلى 27% في 2021

بينما سيدفع فيروس كورونا وأزمة النفط الاقتراض إلى أن يصبح 50% من الناتج المحلي بحلول عام 2022

الإغلاق الذي فرضه فيروس كورونا وإلغاء العمرة والحج، يعني غياب 10 ملايين زائر سنوياً عن المملكة

وخسارة 8 مليارات دولار من الميزانية العمومية على الأقل، حيث تذهب تقديرات أخرى إلى حدود 12 ملياراً.

في السطور التالية بعض ما يتكبده اقتصاد المملكة جرّاء انخفاض أسعار النفط لمستويات غير متوقعة، بالتزامن مع إغلاق كورونا المستجد للنشاط الاقتصادي العالمي والمحلي.

تقوم الموازنة الحالية للمملكة على فرضية أن سعر برميل النفط بحدود 60 إلى 70 دولاراً.

تتوقع وزارة المالية السعودية أن تسجل ميزانية المملكة للعام الجاري عجزاً بقيمة 187 مليار ريال (نحو 50 مليار دولار)، وهذا العجز أعلى بنحو 56 مليار ريال من عجز العام الماضي.

وقد أقرّت حكومة المملكة خفضاً بـ50 مليار ريال، نحو 13.32 مليار دولار، تمثل أقل من 5% من ميزانية 2020، في بعض البنود ذات الأثر الأقل اجتماعياً واقتصادياً.

وقال مسؤولون إن المملكة قد تقترض حوالي 26 مليار دولار إضافية هذا العام، وتسحب 32 مليار دولار كحد أقصى من احتياطياتها، لتمويل عجز في الميزانية ناتج عن هبوط أسعار النفط وأزمة فيروس كورونا.

انخفضت أصول الأصول المالية التي تحتفظ بها الحكومة السعودية إلى 0.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية 2018، مقارنة بنسبة 50% في السنوات الأربع السابقة. ومن المرجح أن تصبح المملكة مديناً صافياً net debtor في المستقبل المنظور، حتى لو ارتفع سعر البرميل لأعلى من 80 دولاراً.

دورة الركود المتوقعة في أسعار النفط سترفع من الدين السعودي بنسبة 50% من الناتج المحلي، وستضرب خطط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية. 

لا تستطيع السعودية تعويض فارق الأسعار بإنتاج المزيد من النفط.

محاولة المملكة رفع مستويات إنتاج النفط إلى معدلات غير مسبوقة لن يوقف الخسارة، بل يمكن أن يضرب تقييم أرامكو في السوق العالمي، وبالتالي تؤدي هذه الضغوط على انهيار الأسهم في السوق.

وقد جمعت الشركة السعودية مبلغ 25.6 مليار دولار من عملية الطرح الأولي للأسهم في بورصة المملكة ما يجعلها أكبر شركة في التاريخ من حيث قيمة الطرح الأولى.

وبذلك تصل قيمة الشركة إلى ما يقرب من 1.7 تريليون دولار وهو مبلغ ضخم لكنه يقل عن طموحات ولي العهد محمد بن سلمان الذي كان يسعى لتقييم الشركة بما لا يقل عن تريليوني دولار ورغم ذلك أصبحت أكبر شركة في التاريخ من ناحية القيمة السوقية عند طرحها للتداول.

تبنت الحكومات في المنطقة تخفيضات مفرطة في الميزانية، في أعقاب انخفاض الأسعار في عام 2014، من خلال رفع الدعم الحكومي وفرض ضرائب على المبيعات بطريقة تتسبب في تلاشي دول الرفاهية الفارهة. 

وإذا سقطت هذه الدول إلى مستوى أقل من ذلك، فسيولد ذلك ضغطاً لفرض مزيد من الضرائب وتقليص الخدمات المدنية المتضخمة. 

ولن يحظى أي من النتيجتين بالقبول لدى المواطنين، الذين لم يُسمَح لهم مطلقاً بالتصويت الديمقراطي. وقد تضطر المملكة أيضاً إلى تخفيض الإنفاق الدفاعي والأمني المفرط، الذي يمثل ما يقرب من ثلث ميزانية الدولة.

المعادلة التي ارتكز عليها العقد الاجتماعي القديم بدأت بالاختلال بسبب عدم قدرة الحكومة على الحفاظ على نوعية الخدمات المقدمة، بينما لا تزال تصر على احتكار صناعة القرار، كما يرى مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني الأسبق والباحث في مركز دراسات كارنيغي، الذي يضيف أنه بعد هبوط الأسعار تعجز الدول المصدرة للنفط عن الاستمرار في أنظمة "الرفاه".

والآن يخاف السعوديون 

المواطنون بالمملكة يخافون من أن انخفاض أسعار النفط قد يؤثر على العملة المحلية، المرتبطة منذ عقود بالدولار.

ويتحدث تجار الذهب في الرياض عن رغبة الزبائن في تحويل "مبالغ نقدية كبيرة" إلى سبائك وعملات معدنية ذهبية.

ويخشى العديد من الموظفين الحكوميين من تراجع إجراءات الدعم الحكومية على الرغم من ارتفاع تكاليف المعيشة.

كما يشعر بعض السعوديين بالقلق من إمكانية تجميد آلية التوظيف في القطاعين العام والخاص، في حين أبدى طلاب سعوديون خشيتهم من تأثر المنح الدراسية الحكومية للتعليم في الخارج.

وقالت شركة "ناصر السعيدي وشركاه" للاستشارات إن وزارة المالية أمرت الهيئات الحكومية بتقديم مقترحات لخفض الإنفاق هذا العام بنسبة تتراوح بين 20 و30%.

وبحسب إحدى المؤسسات البحثية المتخصصة، فإن المملكة تستعد للتعامل مع أسعار نفط منخفضة جداً، ما بين 12 و20 دولاراً للبرميل.

ربما نحن على وشك أن نشهد نهاية العصر الذي كانت تشبه فيه دول الخليج وصناديق ثروتها السيادية آلات نقدية سحرية مستعدة لدفع مبالغ طائلة لشراء أصول في كل قارة. وقد تضطر هذه الدول للتحول إلى بائعين لما يمتلكون. 

وسيؤثر ذلك بلا شك على مؤسسات أجنبية، بدايةً من سوق الخزانة الأمريكية، حيث تمتلك السعودية نحو 183 مليار دولار من الأوراق المالية، وحتى شركة Softbank Group التي قد تجد الرياض شريكاً أقل سخاءً لتمويل الرؤى الموسعة للرئيس التنفيذي ماسايوشي سون.

والمقياس الآخر للانهيار هو ما يحدث للاستثمارات نفسها. 

يذكر ماسايوشي سون Masayoshi Son، المدير التنفيذي لمصرف سوفت بنك الياباني، كيف حصل على 45 مليار دولار بعد أن قضى فقط 45 دقيقة مع محمد بن سلمان لتمويل صندوق الرؤية التابع له والذي تقدر قيمته بـ100 مليار دولار. كما قال سون: “مليار دولار لكل دقيقة”. 

وبعد انهيار أسعار النفط توقع “سوفت بنك” أن يتكبد صندوق الرؤية خسارة تصل إلى 16.5 مليار دولار.

ماسايوشي سون مدير بنك سوفت الياباني: حصلت من بن سلمان على 45 مليار دولار في 45 دقيقة

على مدى السنوات الأربع السابقة لـ 2018، انخفض صافي الأصول المالية التي تمتلكها دول الخليج الست بنحو نصف تريليون دولار، لتصل إلى نحو تريليوني دولار، وفقاً لصندوق النقد الدولي. 

وحتى إذا لم يرجع الطلب على النفط لذروته حتى حلول 2040، فيمكن استنفاد الأصول المتبقية بحلول عام 2034. 

ومع تأرجح السعر حول 20 دولاراً للبرميل ستنخفض هذه الأصول بوتيرة أسرع، وهو ما سيؤدي إلى إفراغ خزائن منتجي النفط بالخليج بحلول 2027.

فقد الاحتياطي الأجنبي لمؤسسة النقد العربي السعودي، البنك المركزي، 4.8% على أساس شهري، حتى نهاية مارس/ آذار 2020

هبطت الأصول في شهر واحد من 497 إلى نحو 473 مليار دولار.

أي أن السعودية فقدت 23.9 مليار دولار من احتياطاتها الأجنبية في مارس/ أذار.

ولا تفصح السعودية عن توزيع أصولها الاحتياطية الأجنبية جغرافيا أو حتى طبيعة الأصول.

انهيار اقتصاد السعودية الذي ظل لعقود غرفة المحرك للاقتصاد في المنطقة بأسرها سيشعر به بسرعة أهل مصر والسودان والأردن ولبنان وسوريا وتونس.

هذه الدول كلها تبعث إلى السعودية بملايين العمال والموظفين، وهؤلاء باتت دولهم تعتمد على تحويلاتهم، وهذا ما لا ينبغي أن يرحب به أحد.

ثلاثة عوامل قد تلعب لصالح السعودية في الفترة المقبلة، حسب شتيفان رول، الباحث في المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن (SWP).

الأول توسيع حصتها في سوق النفط، فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى
دخل إضافي على المدى المتوسط والطويل.

ثانياً أن حصتها من الدين الخارجي لا تزال جد منخفضة مقارنة مع
دول أخرى، ثالثاً أن صندوق الثروة السيادية يمكن أن يحقق أرباحاً
عبر استثمارات ذكية في سوق الرأسمال الدولي.

لكن المخاطر تبقى أعلى من الفرص في السعودية، وفق كلام الباحث الألماني، وذلك يعود أساساً إلى "عدم وجود حوكمة قوية، إذ لا يوجد تخطيط جيد، ولا توجد سيطرة على مركز السلطة "المتهور"، لذلك فهناك تهديد بأن يخرج البلد من الأزمة الحالية باقتصاد ضعيف، حسب حديثه.