أوروبا تعود للنازية والفاشية!

كيف رجعت الأحزاب اليمينية إلى الصدارة في القارة العجوز بعد عقود من التراجع

يقولون إن التاريخ يكرر نفسه والإنسان لا يتعلم من أخطائه، وما علينا سوى إمعان النظر فيما تشهده أوروبا حالياً، ومقارنته بما كانت تشهده قبل نحو قرن من الزمان؛ لنتأكد من صدق تلك المقولة.

سيطرت الفاشية والنازية على أوروبا من قبل، والنتيجة كانت مقتل 60 مليون شخص، وعاش ضعف هذا العدد تقريباً إما مشوهاً أو فاقداً لأحد أعضائه، ودمرت القارة العجوز بالكامل، ومعها كثير من دول باقي القارات، وفقد أكثر من ثلثي سكان الكرة الأرضية مصادر أرزاقهم.

إنها الحرب العالمية الثانية، التي تسببت فيها الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، واستمرت 6 سنوات (1939-1945)، وشهدت إلقاء الأمريكيين قنبلتين ذريتين على نجازاكي وهيروشيما لإجبار اليابانيين على الاستسلام في نهاية المطاف، بعد أن كانت أوروبا قد دمرت بالكامل تقريباً.

ومن أنقاض ذلك الدمار، نهضت أوروبا ونفضت عنها غبار النازية والفاشية وبدأت رحلة التصالح مع النفس ومع العالم، ودفنت الأفكار النازية والفاشية لتنطلق الأحزاب المؤمنة بقيم الديمقراطية وتقبل الآخر والتعايش السلمي بين جميع الثقافات والديانات والأعراق والألوان، في رحلة البناء والتعمير والتنمية والتقدم العلمي من أجل الرفاهية والمدنية والحضارة.

أحلام نبيلة وأفكار عابرة للحدود، بدت كما لو أنها تكفير الأوروبيين عما اقترفوه في حق أنفسهم والعالم بانسياقهم وراء سياسيين شوفينيين وعنصريين، من أمثال الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر والفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني!

لكن تلك الأحلام النبيلة لم تستمر طويلاً في حقيقة الأمر، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي عادت الأحزاب الفاشية والنازية لتطل برأسها مرة أخرى، دون أن تجد الكثير من الآذان الصاغية في البداية.

لكن تلك الأحزاب، التي يسمونها في أدبيات السياسة الأوروبية بأحزاب اليمين المتطرف، اكتسبت زخماً كبيراً وحققت صعوداً صاروخياً خلال السنوات الماضية، وبخاصة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ليعود أحفاد هتلر وموسوليني إلى الظهور بقوة على مسرح السياسة الأوروبية.

فكيف حدث هذا؟ وهل سقطت أوروبا في قبضة اليمين المتطرف مرة أخرى؟ وهل يعيد التاريخ نفسه وتندلع الحرب العالمية الثالثة من نفس القارة، ولنفس الأسباب، وإن اختلفت الأعراض؟

نماذج صعود اليمين المتطرف..
ميلوني إيطاليا

وقبل أن تأخذنا الرحلة إلى تحليل الأسباب، دعونا نبدأ برصد الأعراض. وأبرز أعراض صعود اليمين المتطرف تتمثل في أبرز ممثليه أو بالأحرى سياسييه الذين يقودون المشهد، من خلال خطبهم الحماسية وشعاراتهم الشعبوية وسط الجماهير التي تردد كلماتهم في هستيريا جماعية، عند وضعها تحت مجهر التحليل ستظهر على الفور مشاهد شبه متطابقة ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي.

ففي إيطاليا، مهد سياسيون مثل سيلفيو بيرلسكوني وماتيو سالفيني، خلال العقد الماضي، المسرح السياسي في البلاد حتى جاءت جورجيا ميلوني لتتصدره خلال الانتخابات الأخيرة، إذ إن حزبها "إخوة إيطاليا" حصد 26.2% من الأصوات، بينما حصل حزب الرابطة بزعامة سالفيني على 8.2%، إضافة إلى 8% لحزب "فورزا إيطاليا" بزعامة برلسكوني.

وميلوني، أول امرأة تتولى رئاسة وزراء إيطاليا، توصف بأنها حفيدة موسوليني، رغم سعيها خلال الحملة الانتخابية للنأي بنفسها وبحزبها (إخوة إيطاليا) عن الروابط التاريخية التي تربط الحزب بالحركة الاجتماعية الإيطالية، التي أسسها أنصار موسوليني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وترفض السياسية الإيطالية الاتهامات بأن تزعم حزبها للحكومة سيؤدي إلى إحياء الفاشية، قائلة إن قيم حزبها مشابهة لقيم حزب المحافظين البريطاني والحزب الجمهوري الأمريكي وحزب الليكود الإسرائيلي، إلا أن مواقفها المعادية للهجرة وللمسلمين، إضافة إلى روابطها مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تتحدث عن نفسها.

فقد أعربت صراحة عن رغبتها في إغلاق الموانئ الإيطالية أمام المهاجرين القادمين من ليبيا، وفي حديث لها في يونيو/حزيران الماضي، قالت ميلوني: "ليس هناك حل وسط ممكن. اليوم، اليسار العلماني والإسلام الراديكالي يهددان جذورنا… إما أن تقولوا نعم أو لا. نعم للعائلة الطبيعية، لا لجماعات المثليين الجنسيين… نعم لعالمية الصليب، لا للعنف الإسلامي. نعم لتأمين الحدود، لا للهجرة الجماعية".

باختصار، تسعى السياسية الإيطالية إلى أن تصبح بحكم الأمر الواقع، زعيمة أوروبية لليمين الراديكالي الحديث، الذي يسعى إلى الابتعاد عن التركيز الغربي في فترة ما بعد الحرب على الحقوق العالمية والحماية للأقليات، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.

النازيون الجدد يحكمون السويد

ومن إيطاليا في الجنوب إلى أقصى شمال القارة حيث السويد، فنجد أن أحفاد النازية قد حققوا صعودا صاروخيا ليتصدروا المشهد السياسي أيضا، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك خلال الانتخابات البرلمانية هناك خلال سبتمبر/ أيلول 2022.

فقد فازت كتلة من اليمين المتطرف واليمين المحافظ الليبرالي بالانتخابات بنسبة 51%، إذ حصلت على 176 مقعداً، مقابل 173 مقعداً لليمين الوسطي والخضر، من أصل 349 مقعداً.

وحصل "ديمقراطيو السويد" على 73 مقعداً، أي أكثر بـ11 مقعداً من الانتخابات السابقة عام 2018، في حين نال "المعتدلون" 68 مقعداً، و"المسيحيون الديمقراطيون" 19 مقعداً، و"الليبراليون" 16 مقعداً.

وكان حزب "ديمقراطيو السويد" قد وجد طريقه إلى البرلمان للمرة الأولى عام 2010، بعد فوزه بـ5.7% من الأصوات، ثم ارتفعت تلك النسبة إلى 17.5% عام 2018.

تأسس حزب "ديمقراطيو السويد" عام 1988، وهو يصف نفسه بأنه حركة قومية، ويقول مؤسسوه إن أيديولوجيته مستوحاة من السياسات المحافظة والوطنية، لكن ترجمة تلك الشعارات البراقة أكثر بساطة مما قد نتصور، فالحزب معادٍ للأجانب (المهاجرين والهجرة بشكل عام)، ويستمد أفكاره من النازيين، أو حركة النازيين الجدد التي تعتنق نفس أفكار هتلر بثياب عصرية.

وعلى مدى نحو عقدين من تأسيسه، واجه حزب ديمقراطيو السويد مقاطعة إعلامية، وكان يجد صعوبة في شراء أوقات إعلانية في الإعلام السويدي، لكنه كان يجد المتنفس الترويجي من أحزاب اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، وبخاصة الجبهة الوطنية في فرنسا، إضافة إلى دعم مالي ضخم من سياسي وملياردير بلجيكي معتنق لأفكار اليمين المتطرف أيضاً وهو برنارد مينغال.

من العمالة لهتلر إلى العداء للمسلمين.. اليمين الفرنسي

ومن السويد إلى فرنسا، أحد أبرز معاقل حركات اليمين المتطرف في أوروبا وأقدمها أيضاً، إذ كان اليمين الفرنسي المتطرف حليفاً لهتلر أثناء الحرب العالمية الثانية، وشكلت أحزابه الحكومة في ظل الاحتلال الألماني، وهي المرة الوحيدة في تاريخ فرنسا الحديث، حتى الآن!

وبالتالي فمن الطبيعي ألا يجد اليمين المتطرف طريقه مرة أخرى إلى الحياة السياسية في فرنسا بسهولة أو بسرعة على أقل تقدير، لكن الواقع عكس ذلك تماماً، إذ عادت أحزاب اليمين المتطرف إلى المشهد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أي بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى وإن لم تتمكن من الحصول على الكثير من التأييد الشعبي، في البداية.

وعلى الرغم من أن ذكريات الارتباط المر بين هيمنة اليمين المتطرف ووطأة هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية وكارثة حكومة فيشي الموالية لألمانيا النازية، قد أدت إلى تراجع اليمين المتطرف في فرنسا وأحزابه في هوامش السياسة في البلاد بقية القرن العشرين، فإن جماعات اليمين المتطرف أصبحت الآن في طريقها إلى تصدّر المشهد، وكاد أن يحدث ذلك بالفعل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أبريل/نيسان 2022.

فقد حصل مرشحو اليمين المتطرف في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية على أكبر عدد من الأصوات منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، حتى إن بعض السياسيين من التيار العام بدأوا في التلبس بمقولاتهم وخطابهم.

فقد حاربت الميليشيات اليمينية استقلالَ الجزائر في أوائل الستينيات، وارتكبت فظائع قتلت فيها مئات الجزائريين. وأبرز الأحزاب اليمينية المتطرفة اليوم هو حزب "التجمع الوطني"، الذي تأسس عام 1972 تحت اسم "الجبهة الوطنية" وتزعَّمه السياسي الفرنسي جان ماري لوبان مدة 4 عقود، قبل أن تحل ابنته مارين محلَّه.

وكان جان ماري لوبان جندياً بقوات المظلات الفرنسية خلال حرب التحرير الجزائرية، وأُدين بالعنصرية ومعاداة السامية، وادَّعى ذات مرة أن غرف الغاز النازية ليست إلا "حواشي" مكانها التاريخ. وترشَّح للرئاسة أربع مرات، ولم يبلغ الجولة الثانية من الانتخابات إلا مرة واحدة، كانت في عام 2002، ثم أوقع به الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك هزيمة ساحقة.

وفي عام 2011، تولت مارين لوبان زمام الأمور، وبدأت السعي لتحسين صورة الحزب، فغيَّرت اسمه، وأخرجت والدها لاحقاً من الحركة، وترشحت للرئاسة 3 مرات، ووصلت إلى جولة الإعادة مرتين.

ما هو اليمين المتطرف؟

يشير المصطلح إلى مختلف الجماعات الشعبوية التي جاءت وذهبت منذ أواخر القرن التاسع عشر، وتميل هذه الجماعات إلى نشر القيم الرجعية، وتنزع إلى التطبيق الصارم للقانون والنظام. منهم ملكيون ومنهم كاثوليك تقليديون، وكثير منهم يعتنق أفكاراً متطرفة وعنصرية ومعادية للسامية، ولكن في الوقت الحالي بات أغلبهم يركز على العداء على المهاجرين، ولا سيما العرب والمسلمين والأفارقة.

اليمين المتطرف مصطلح يجمع بين سمات الفاشية والنازية ويحمل في طياته استغلالاً للعوامل السياسية والاقتصادية التي تضغط على المواطنين، فيقدم لهم وعوداً تداعب أحلام التفوق العرقي من جهة والتخلص من ضغوط الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، وهذه خلطة سحرية نجاحها يكون مضموناً تماماً في أوقات الأزمات بشكل خاص.

الفاشية والنازية نشأتا في أوروبا وتعززتا في الثلاثينيات من القرن الماضي، في حقبة اقتصادية صعبة، ربما لا تختلف كثيراً عما يعانيه العالم هذه الفترة. ففي المرة السابقة، قامت أوروبا باستكمال المرحلة النهائية في الانتقال من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، حيث جلبت ثورة عام ١٩١٧ السوفييتية البرولوتاريين والفقراء الفلاحين إلى السلطة وسحبت الاتحاد السوفييتي خارج النظام الرأسمالي، وأشارت الأدبيات الماركسية إلى أن الفاشية الألمانية والإيطالية من أكثر الأنظمة الرأسمالية رجعية في تلك الفترة.

كانت فاشية كل من ألمانيا، إيطاليا جزءاً من تطور الرأسمالية التجارية-الصناعية، استناداً إلى ما يعرف ب مرحلة "هنري فورد التصنيعية" والنظام الاستعماري في جميع أنحاء العالم.

لكن بعيداً عن الخوض كثيراً في التحليلات والنظريات السياسية التي تغطي هذه المساحة، يمكن تلخيص ما يسعى اليمين المتطرف إلى تحقيقه حالياً، أو على الأقل ما يعد به جمهوره وتابعيه في عناوين رئيسية تتصدرها معاداة المهاجرين وحتمية طرد الموجودين منهم في القارة العجوز، أو على الأقل جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، إضافة إلى غلق أبواب الهجرة تماماً في وجه الراغبين فيها أو المجبرين عليها، بحسب تحليل لمجلة فورين أفيرز الأمريكية.

ويجسّد اليمين المتطرف أسوأ ما في التقاليد الأيديولوجية الأوروبية، وبالتحديد الأصولية القومية الحصرية، وتتمحور رسالة اليوم حول 3 أفكار رئيسية: الشوفينية العرقية والعداء للمهاجرين والعداء للتعدد والعولمة وقبول الآخر، بحسبIEMED، وبصورة أوضحيمكن ترجمة تلك الأفكارفي حلول محددة عنوانها "التخلص من الأجانب" و"التخلص من المؤسسة الحاكمة حالياً".

ألمانيا.. وجود "قاتل" لليمين المتطرف في مهد النازية

قبل الغوص في القصة وسبر أغوارها، وصولاً إلى ما يريده اليمين المتطرف في أوروبا، وهي أهداف معلنة وليست أسراراً حربية، من المهم التأكيد على أن إيطاليا وفرنسا والسويد لا تمثل حالة متفردة في القارة العجوز، فصعود أحزاب اليمين المتطرف ظاهرة لا يخلو منها بلد في القارة وإن اختلفت نسب ذلك الصعود وتدرجه.

فأكبر اقتصادات القارة وزعيمتها، أي ألمانيا، شهدت أيضاً صعوداً لافتاً لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، وإن كانت الانتخابات الأخيرة، التي غادرت على أثرها المستشارة التاريخية أنغيلا ميركل المشهد، قد شهدت تراجعاً في مقاعد "البديل" في البرلمان الألماني.

فعلى الرغم من أن الحزب لم يكمل عقده الأول بعد على الساحة السياسية، إذ تأسس في فبراير/شباط 2013، فإنه تحول بسرعة إلى رقم صعب في المشهد السياسي الألماني، وحصد 13% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية عام 2017. لكن الحزب اليميني المتطرف تراجع أداؤه في انتخابات 2021، ليحصد نحو 10% من الأصوات.

ولذلك التراجع في ألمانيا تحديداً أسباب فريدة، أهمها رفض الأحزاب الأخرى التعاطي مع "البديل من أجل ألمانيا"، لدرجة أن نواب البرلمان يرفضون الجلوس بجوار ممثلي الحزب، كما أن ميركل تعتبر أن وجود الحزب "أمر سيئ للديمقراطية"، وهو ما أدى إلى صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بإدانة تلك التصريحات واعتبارها "خرقاً لحق الحزب في المشاركة السياسية"، بحسب تقرير لموقع DW الألماني.

على أية حال، ورغم التراجع الطفيف فيما حصده "البديل من أجل ألمانيا" من أصوات في الانتخابات الأخيرة، فإن هناك إجماعاً بين المحللين والمراقبين للأوضاع السياسية في ألمانيا على أن ذلك ليس مؤشراً على تراجع موجة اليمين المتطرف في البلاد، بل تمكن أسبابه بالأساس في استراتيجية الحزب ومرشحيه وتركيزهم على قضايا لم تكن تتصدر اهتمامات الناخب الألماني عموماً هذه المرة.

كما أن "البديل من أجل ألمانيا" ليس الحزب الوحيد المنتمي لليمين المتطرف، فهناك أيضاً حزب "الطريق الثالث"، الذي تأسس أيضاً عام 2013، وينتمي للنازيين الجدد، وتتسع قاعدة أعضائه بشكل لافت مؤخراً. وبالإضافة إلى ذلك الوجود السياسي، كشف تقرير ألماني عن ارتفاع جنوني في الجرائم ذات الطابع العنصري في عام 2021، بلغت أكثر من 55 ألف جريمة، وخلص التقرير إلى أن تلك الجرائم تكشف عن مدى توحش اليمين المتطرف وخروجه عن السيطرة في ألمانيا، يمثل المهاجرون فيها نحو ربع عدد السكان!

ذلك الصعود الصاروخي لليمين المتطرف- في ألمانيا تحديداً- من المفترض أن يكون سبباً للقلق الشديد، ليس لألمانيا فحسب، بل لأوروبا والعالم أجمع، على أساس أن البلاد كانت مهداً للزعيم النازي أدولف هتلر وللنازية، وأشعلت ألمانيا الحربين العالميتين، والآن يطل النازيون الجدد برأسهم بشكل واضح.

وهذا التوصيف ليس تحليلات فقط، ولا هو تحذيرات من مراكز بحثية وحسب، بل جاء على لسان توماس هالدنفانغ، رئيس الهيئة الاتحادية الألمانية لحماية الدستور، أي جهاز الاستخبارات الداخلية، حيث حذَّر من تعرُّض ألمانيا لخطر اليمين المتطرف الميَّال إلى استخدام العنف والاغتيالات، بعد أن سجل في العامين السابقين زيادة قياسية في نسبة المنضمين لهذا الفكر.

تصريحات هالدنفانغ الصحفية صدرت في ديسمبر/كانون الأول 2021، وقال فيها إن "عدد المتطرفين، ومن ضمنهم أولئك المستعدون لاستخدام العنف، يزداد بشكل مطرد"، وأوضح أن مكتب حماية الدستور سجل زيادة في أعداد الأشخاص الذين يعتنقون أفكاراً يمينية متطرفة ومصنَّفون على أنهم "خطرون"، والذين كان عددهم لا يزيد على 30 فقط عام 2017.

تقرير الاستخبارات الداخلية الألمانية لعام 2020 وضع رقم هؤلاء اليمينيين المتطرفين عند 33 ألفاً و300 شخص، 40% صُنِّفوا على أنهم يمثلون "خطراً"، بسبب ميلهم إلى استخدام العنف؛ ولأنهم مستعدون لاستخدام العنف ويحرضون على استخدامه لتنفيذ أفكارهم.

ورصدت الشرطة الألمانية 55048 جريمة "ذات دوافع سياسية ودينية"، وهو الوصف المستخدم للإشارة إلى جرائم العنصرية بشكل عام، وهذا الرقم يمثل زيادة بنسبة 23% في غضون عام واحد، وهو ما يمثل أعلى مستوى على الإطلاق في ارتفاع معدلات الجريمة منذ بداية أرشفتها وتصنيفها في عام 2001، بحسب تقرير لموقعDW، منشور في مايو/أيار 2022.

اليمين المتطرف في أوروبا.. ماذا يريد؟

لا يتوقف صعود اليمين، سواء إلى قمة السلطة كما في إيطاليا والسويد، أو لعب دور مؤثر في السياسات وتشكيل السلطة كما في فرنسا وألمانيا، عند تلك الدول الأربع، فهي نماذج لتوضيح الصورة. ففي إسبانيا، وخلال الانتخابات العامة أواخر 2019، حصل حزب "فوكس" اليميني المتطرف على نحو 15% من الأصوات، بحصوله على 52 مقعداً من أصل 350.

ورغم عدم مشاركته في الحكومة الفيدرالية، فإن الحزب شارك في مارس/آذار 2022 في تشكيلة حكومة إقليم كاستيا وليون، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، بعد تشكيله ائتلافاً مع "الحزب الشعبي" اليميني. وحقق "فوكس" اختراقاً في السياسة المحلية بحصوله المفاجئ في الانتخابات الإقليمية المبكرة، فبراير/شباط الماضي، على 13 مقعداً في برلمان كاستيا وليون المكون من 81 مقعداً، بعد أن كان بحوزته مقعد واحد. ويمكن لائتلاف "فوكس" و"الحزب الشعبي" أن يلعبا دوراً مهماً في الانتخابات العامة المقبلة نهاية 2023.

أما في المجر، فاليمين المتطرف يحكم بالفعل منذ سنوات، وفي أبريل/نيسان 2022، حصل حزب "فيدز"، بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، على 59%، في رابع فوز له على التوالي منذ 2010. وتمكن الحزب مع تحالف الأحزاب اليمينية المتطرفة من الحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان المكون من 199 مقعداً.

وفي بولندا، حصل حزب "القانون والعدالة" بزعامة ياروسلاف كاتشينسكي عام 2019، على أغلبية ضئيلة في البرلمان بنسبة 51%، إثر حصوله على 235 مقعداً من أصل 460.

ولليمين المتطرف وجود قوي في هولندا والدنمارك واليونان وباقي دول القارة العجوز، فماذا يريد أتباع ذلك التيار تحديداً؟

ما أسباب صعود اليمين المتطرف؟

يرى بعض المحللين أنه من الصعب تحديد أسباب بعينها لتفسير ظاهرة صعود أحزاب اليمين المتطرف وارتفاع شعبيتها في أوروبا، أو في غيرها من مناطق العالم الغربي، كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان.

فالأوضاع السياسية والتنافس بين الأحزاب التقليدية، المحافظين والليبراليين، والتشققات الناتجة عن ذلك التنافس قد يؤدي إلى حدوث فراغات في المشهد السياسي تبرز من خلالها الأحزاب اليمينية المتطرفة، بخطاباتها الشعبوية القومية لملء تلك الفراغات.

توجد إذا شبكة متداخلة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تعمل معا طوال الوقت، مما يجعل تحديد السبب الرئيسي وراء صعود اليمين المتطرف بدقة أمراً لا يتسم بالسهولة. لكن أغلب الدراسات وجدت رابطاً مباشراً بين الأزمات الاقتصادية وبين صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، وبخاصة في أوروبا.

فالأزمة المالية العالمية عام 2008، وما صاحبها من سياسات اقتصادية من جانب الاتحاد الأوروبي بغرض السيطرة على تداعياتها، والتي أدت إلى اتساع الفجوة بين الأثرياء وأصحاب الأعمال من جهة وبين الطبقة المتوسطة والعاملة من جهة أخرى، أعطت دفعة كبيرة لموجة من الصعود لأحزاب اليمين المتطرف.

وعلى سبيل المثال، حقق حزب "ديمقراطيو السويد" ظهوره البرلماني الأول في انتخابات 2010، رغم تأسيسه قبل أكثر من 22 عاما ومشاركته في الانتخابات دون الحصول على أي نسبة من الأصوات.

وفي فرنسا، ارتبطت عودة جماعات اليمين المتطرف إلى تيار السياسة العام، بحالة الهلع من ركود الاقتصاد، في ظل اللعب على وتر سردية الأمة العظمى التي آل بها الحال إلى الدرك الأسفل من الانحدار، لأن الثقافات الغريبة عنها تحاصرها وتريد النيل منها، بحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية.

الفكرة نفسها رصدتها صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير لها حول أسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وضع قلق الأوروبيين من ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الطاقة سببا رئيسيا وراء النجاح "الصادم" لتلك الأحزاب في السويد ثم إيطاليا ومن قبلهما المجر.

ويمكن القول إن دراسة شاملة للتأثيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنجم عن الأزمات الاقتصادية والمالية الكبرى قد حسمت الأمور بالنسبة للسبب الرئيسي وراء صعود اليمين المتطرف في أوروبا، إذ غطت تلك الدراسة الأزمات التي عانت منها القارة على مدى 140 عاماً.

وخلصت تلك الدراسة إلى أن الأزمات المالية والاقتصادية تؤدي إلى خلافات سياسية بين الأحزاب الرئيسية، من منها في الحكم ومن منها في المعارضة وقت الأزمة، بشأن أفضل السبل للتعافي من الأزمة، بينما تظهر أصوات تلقي باللوم عليهما معاً من جهة، وعلى "الغرباء" من جهة أخرى.

و"الغرباء" دائماً هم الأجانب أو المهاجرون، أو بمعنى أكثر دقة كل من يختلف عمن يرون أنفسهم "أهل البلد"، سواء كانوا إيطاليين أو فرنسيين أو ألمان أو سويديين ... إلى آخره، وبالتالي تشتعل مشاعر العداء نحو هؤلاء جميعاً، وتصبح الأرض خصبة لنمو الأفكار الشوفينية والعنصرية القومية، والتي يغذيها زعماء اليمين المتطرف بصبغة دينية تزيد الأمور اشتعالاً. فاليمين المتطرف مسيحي، لكنه أبيض البشرة، وما عداه يجب ألا يكون له وجود.

والتاريخ لا يكذب بطبيعة الحال، فالنازية والفاشية نشأتا وترعرعتا في أوقات اقتصادية عصيبة، في ظل الكساد الكبير الذي اجتاح العالم في ثلاثينات القرن الماضي، والآن وجد أحفاد هتلر وموسوليني الأرض ممهدة بفعل الركود الاقتصادي الذي يزحف ببطء خانق، بخلاف الحرب الروسية في أوكرانيا، وهي الأكبر في القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية.

فأفكار التعايش والتنوع الثقافي وأن العالم يتسع للجميع، التي غلفت الحياة السياسية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ونتج عنها ميلاد الاتحاد الأوروبي، تواجه اختباراً قاسياً لم تنجح شعوب أوروبا فيه من قبل، ولا يبدو أنها ستنجح فيه اليوم.

إذ يقول المثل العربي "عندما تجوع البطن يذهب العقل"، وهو يلخص، إلى حد كبير، موجات صعود اليمين المتطرف إلى قمة هرم السلطة في أوروبا، القارة التي وصفها جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي مؤخراً بأنها "حديقة"، بينما باقي العالم "غابة".

ولا يحتاج الفرق بين "الحديقة" و"الغابة" إلى الشرح أو التفسير، ورغم ذلك فالدبلوماسي الأوروبي الأكبر أسهب في شرح ما يقصده، حتى لا يكون هناك مجال للغموض أو سوء الفهم. قال بوريل: "أوروبا حديقة ومعظم العالم غابة يمكن أن يغزوها".

وعلى الرغم من أن بوريل، الذي كان وزيراً للخارجية في إسبانيا، لا ينتمي لأحزاب اليمين المتطرف، فإن تصريحاته، العنصرية بطبيعة الحال، تكشف عن تلك الشوفينية الكامنة في النفس، والتي تتجسد عندما تسوء الأحوال الاقتصادية، وتتوارى عندما تكون الأمور جيدة.

هل سقطت أوروبا في قبضة اليمين المتطرف وانتهى الأمر؟

من الصعب الجزم بما يحمله المستقبل القريب بشأن إحكام أحفاد هتلر وموسوليني قبضتهم على مقاليد الأمور في القارة الأوروبية، لكن المؤشرات تصب في اتجاه استمرار ذلك الصعود المتنامي لأحزاب اليمين المتطرف.

إذ إنه من المتوقع أن تتسع مساحة الموجة اليمينية المتطرفة لتشمل دولاً أوروبية أخرى خلال الأعوام المقبلة، لتكون القارة بذلك إزاء دورة تاريخية جديدة تحدث كل قرن تنزوي فيها القيم الليبرالية لصالح قيم الشعبوية الشوفينية، التي تقوم على إقصاء الآخر وترفض التعددية الثقافية والدينية والأيديولوجية كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الأولى، بحسب مقال نشره موقع قناة الجزيرة.

فهناك "تشققات وانكسارات حقيقية تواجه النموذج الليبرالي الغربي، خاصة بعدما تحول من نموذج يهدف لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة إلى أداة لتكريس سيطرة فئات قليلة على السلطة والثروة على حساب بقية فئات المجتمع".

إذ إن "التصويت لليمين المتطرف ليس بالضرورة تصويتاً عن قناعة بشعارات هذا اليمين، بقدر ما أنه تصويت احتجاجي على السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها النخب الحاكمة طيلة العقود الثلاثة الماضية، والتي نجم عنها تراجع في الطبقة الوسطى التي تمثل حجر الأساس في النموذج الليبرالي."

وربما تكون حالة بريطانيا تأكيدا على ذلك التوقع، حيث إن خروجها من الاتحاد الأوروبي مثل شرارة على طريق التفكك الأوروبي وأعطى زخماً هائلاً لأحزاب اليمين المتطرف، التي تشكك في جدوى الوحدة الأوروبية من الأساس وتسعى للتقوقع داخل حدودها القومية.

كانت بريطانيا قد انفصلت عن الاتحاد الأوروبي عام 2020، بعد 3 سنوات من نتائج استفتاء شعبي صوت فيه البريطانيون بنسبة 52% لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، لتنتهي بذلك علاقة استمرت 47 عاماً بين المملكة والاتحاد. وكانت بريطانيا قد انضمت إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1973، بعد أن سحبت فرنسا اعتراضها على ضم غريمتها التاريخية، بعد أن استقال شارل ديغول عام 1969.

وبتوقيع معاهدة ماسترخت عام 1992 تحولت تلك المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى ما يعرف بشكلها الحالي "الاتحاد الأوروبي"، ما أحدث تحولاً حقيقياً في عملية التكامل الأوروبي، فما كان حتى ذلك الحين المعروف باسم الجماعة الاقتصادية الأوروبية، أصبح الجماعة الأوروبية، وأول دعامة للاتحاد الأوروبي.

ورغم التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي والعسكري الذي أسهم فيه الاتحاد، فإنّ الوحدة آذنت بالتفكك، بعد إعلان رغبة بريطانيا المتكررة للخروج من الاتحاد، حيث سعت بريطانيا إلى التخلص من أعباء الهجرة، بجانب توقعها أن تزدهر تجارتها الحرّة، وأن يزداد نفوذها المالي، خاصة بعد أزمة اليونان، والتراجع الكبير في أنظمة الدول الأوروبية الاقتصاديّة، وضعف الأسواق الماليّة. 

ظنت بريطانيا أنها بالانفصال عن الاتحاد ستستعيد مكانتها الغائبة كدولة عظمى، وأنها ستنجح في تأسيس علاقات خاصة جديدة بينها وبين الاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم بشأن السياسة الخارجية والاقتصادية في أعقاب خروجها من الاتحاد.

لكن على أية حال، بعد بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، ظهرت "فريكست" (حركة تدعم خروج فرنسا أيضا)، وفي ألمانيا تأسس حزب "البديل من أجل ألمانيا" عام 2013 بالأساس على أرضية المناداة بانسحاب برلين من العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، والعودة إلى العملة الوطنية (المارك الألماني).

ويرى كثير من المحللين أن نجاح الحزب اللافت في أول انتخابات برلمانية يخوضها، عام 2017، وحصده أكثر من 13% من الأصوات، كان أحد أسبابه هو التركيز على ضرورة العودة للمارك والتخلي عن اليورو، وهو ما يشير إلى وجود نسبة ليست قليلة من الألمان يرون أنهم سيكونون أفضل حالاً من الناحية الاقتصادية، بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.

وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتفاقم أزمة الطاقة، وبخاصة خلال فصل الشتاء المقبل الذي بات على الأبواب، من المتوقع أن تزداد أوضاع الأوروبيين الاقتصادية سوءاً، وهو ما يعني مزيداً من الدعم لأحزاب اليمين المتطرف، التي من المتوقع أن ترتفع نسبة التأييد لها في المستقبل القريب.

كما أن الأحزاب التقليدية، سواء الليبرالية أو اليسارية أو حتى اليمينية المعتدلة، بدأت تعدل من خطابها السياسي وبرامجها الانتخابية لتخاطب أنصار اليمين المتطرف، وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً بمدى نمو نسبة التأييد لتلك الأحزاب، وهو ما يعني أن وصولها إلى السلطة، في باقي الدول الأوروبية، يبدو وكأنه نتيجة حتمية ومسألة وقت لا أكثر ولا أقل.

الخلاصة هنا هي أن أوروبا، التي دمرتها النازية والفاشية من قبل، تبدو في طريقها لاحتضان أحفادهما، ممثلين في اليمين المتطرف، بفعل الأزمات الاقتصادية، التي تسبب فيها قادتها الحاليون، بانسياقهم وراء القيادة الأمريكية، وكأن دروس التاريخ الحديث والقديم قد ألقيت في سلة المهملات هذه المرة أيضاً.