تونس في المربع واحد

بعد 12 عاماً من ثورة الياسمين يعاني أبناء تونس من أزمة اقتصادية ومعيشية  
وقيس سعيّد يواصل مشروع "الحاكم الأوحد" رغم المعارضة ومقاطعة الانتخابات

كان الشاب التونسي وديع الجلاصي واحداً من ملايين اندفعوا للشوارع لحظة اندلاع الشرارة الأولى لثورة تونس 2011، لكن متابعي الحدث الكبير وقتها مازالوا يتذكرونه.

كان وديع يحمل قفصاً ملفوفاً بالعلم التونسي بداخله طائر سجين، وحين أصبح رحيل الديكتاتور مؤكداً فتح باب القفص، وأطلق الطائر إلى فضاء لا نهائي من الحرية.

هكذا تصور وديع الجلاصي بلاده الخضراء تخرج من سنوات الأسر والفساد إلى سماء واعدة بالأحلام.

في خريف 2022 ذهب مراسل وكالة رويترز إلى منزل الجلاصي في منتزه النحلي قرب تونس العاصمة، وهي منطقة جبلية ترصعها أشجار الصنوبر، ويصل إليها طريق غير معبَّد ومكتظ بمبانٍ فوضوية متلاصقة وأخرى متداعية. 

سأله الصحفي: بعد 12 عاماً من لقطة إطلاق سراح الطائر، ما الذي جرى لتونس، وشعبها، ونخبتها، وثورتها؟

وأجاب الجلاصي بحسم: "أشعر بالاختناق أكثر في بلدي، لا يوجد مستقبل واضح لي أو لعائلتي وأصدقائي من الحي. لا أشعر بالحرية ولا أستطيع الكتابة بحرية على وسائل التواصل الاجتماعي، إنه أمر مقلق للغاية".

في شتاء بعيد اندلعت ثورة الياسمين، وهذا الشتاء عادت الطيور لأقفاصها.

بعد مقاطعة معظم الأحزاب، وانشغال المواطنين بالأزمة الاقتصادية الطاحنة، ذهب 9% من الناخبين المسجلين ليشاركوا في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة.

النسبة كانت مفاجأة لمنظمي الانتخابات، وعلى رأسهم مسؤولو لجنة الانتخابات.

وطالب ائتلاف جبهة الخلاص الوطني المعارض في تونس الرئيس قيس سعيد بالاستقالة من منصبه، قائلاً إنه "فقد شرعيته" بعد الانتخابات البرلمانية، وهذه المشاركة الهزيلة.

وطالبت حركة النهضة الرئيس بالتنحي، "لأن مقاطعة أكثر من 90% من المواطنين للانتخابات التشريعية تعني سحب الثقة من سعيد".

واعتبر زعيم الجبهة نجيب الشابي أن "ما حدث اليوم زلزال، ومن هذه اللحظة نعتبر سعيد رئيساً غير شرعي، ونطالبه بالاستقالة بعد هذا الفشل الذريع".

حتى "حراك 25 يوليو"، الداعم لقيس سعيّد، دعا إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.

هل انتهت فعلاً "شرعية" الرئيس، أم أنه ما زال في بداية مشوار التغيير كما يراه، أو الانقلاب كما يراه معارضوه؟

هذا التقرير يستعرض ملامح المشروع السياسي للرئيس، وخطته للانقلاب على مؤسسات الدولة بالاستيلاء على صلاحياتها، وتداعيات الأزمة الاقتصادية على المواطن، وآفاق استمرار النظام في ظل مقاطعة الأغلبية العظمى للانتخابات التشريعية.

هو السياسي الوحيد في تونس

كيف تخلص سعيّد من شركاء القرار والرقابة وجمع كل السلطات المدنية والعسكرية والاقتصادية في شخصه

يتذكر وديع الجلاصي جيداً اليوم الذي استيقظت فيه تونس: يوم أضرم بائع الخضر محمد البوعزيزي النار في نفسه، في احتجاج أشعل فتيل انتفاضات الربيع العربي، وجلب الديمقراطية إلى تونس.

وفي مثل ذلك اليوم بعد مرور 12 عاماً كان التونسيون مدعوين لاختيار نوابهم، حسب القانون الجديد للانتخابات، وكان التصويت الضعيف في هذه الانتخابات أكبر إشارة إلى ما وصلت إليه العلاقة بين المواطن والقيادة السياسية.

سجّل التونسيون رقماً قياسياً في إظهار السلبية بمشاركة لم تبلغ 9%، في الانتخابات التشريعية نهاية 2022، وهي غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة في العام 2011.

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتبرت نسبة الإقبال "متواضعة ولكن ليست مخجلة"، وعزتها إلى نظام التصويت الجديد وعدم وجود دعاية انتخابية مدفوعة.

معظم الأحزاب السياسية قاطعت الانتخابات، واعتبرتها تكليلاً لسعي الرئيس قيس سعيد نحو تأسيس ديكتاتورية جديدة، في بلد تخلص من الديكتاتورية في عام 2011.

الرئيس الذي يرى أن الانتخابات التشريعية فرصة تاريخية للتغيير، ولقطع الطريق على من نصبوا أنفسهم أوصياء على تونس، لم يفسر عزوف مواطنيه عن التصويت، وهي إشارة سياسية بالغة الأهمية كما تشرح السطور التالية.


ما الذي تعنيه هذه المشاركة التصويتية الهزيلة

الانتخابات التشريعية جاءت في سياق متأزّم، باعتبار الانشغال الكلي بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة، وهيمنتها على النقاش العام، خاصة في ظل ارتفاع نسبة التضخّم إلى مستوى غير مسبوق منذ حوالي 40 سنة، كما قال الصحفي التونسي حسان العيادي، في حديثه مع "عربي بوست".

لماذا إذن لم يذهب غالبية التونسيين لمكاتب الاقتراع؟

يضع العيادي 4 أسباب مباشرة لذلك:

1- أزمة اقتصادية شهدت خلالها البلاد ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار، وأزمة سيولة كبيرة في ميزانية الدولة، وفقدان عديد المواد من الأساسية، وندرة بعض الأدوية.

2- تراجع دائرة مساندي الرئيس سعيد وتراجع دائرة مؤيّديه، مقارنة بالمرحلة السابقة التي صبغها الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد صيف 2022.

3- مزاج عام غاضب لدى التونسيين، غاضب من السياقات الاجتماعية والاقتصادية المتردية، التي أصبحوا يعيشون على وقع مزيد ترديها الملحوظ يومياً.

4- أخيراً أصبحت أولويات التونسيين بعيدة عن الشأن السياسي والانتخابي، بل تتمثل في تأمين الحياة المعيشية اليوميّة. 

يضيف العيادي أن "نقاشات التونسيين وانشغالاتهم لا تتعلق بمن ستنتخب، بل كيف ستوفّر الحليب والسكر والدواء وغيرها من المواد الأساسية والحياتية، التي أصبحت تشهد ندرة في الأسواق خلال الفترة الأخيرة"، وفق قوله.

المسار السياسي للرئيس قيس سعيد

يحكي الصحفي التونسي منصف السليمي عن المرة الأولى التي شاهد فيها قيس سعيد عام 2011، وكيف أنه نجح في جذب أنظار الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالنخب السياسية في عهد بن علي البائد، وما تلاه من عهود.

يقول السليمي إن سعيّد وصل إلى قصر الرئاسة في قرطاج، اعتماداً على أصوات "فئات واسعة من الشباب وشرائح اجتماعية صوتت عقابياً ضد المنظومة الحزبية بأكملها". 

وكان في نظر مؤيديه مختلفاً عن باقي مكونات المشهد السياسي أحزاباً وزعماء، بعذريته السياسية، ومتميزاً بنظافة اليد والاستقامة. 

لكنه لم ينتظر طويلاً لكي يصنع روايته الشخصية عن الثورة وعن خارطة المستقبل لتونس.

اعتمد مثلاً 17 ديسمبر/كانون الأول، ذكرى حرق البائع المتجول محمد البوعزيزي لنفسه، كتاريخ رسمي للثورة بدلاً من 14 يناير/كانون الثاني، الذي يرمز برأيه إلى "انقلاب" و"خيانة" الطبقة السياسية لثورة الشباب.

ثم انهمرت "التدابير" الاستثنائية باعتماد محاكم عسكرية لملاحقة العشرات من نواب برلمانيين ومسؤولين حكوميين سابقين ورجال أعمال مرتبطين بالمشهد السياسي.

ثم التفت إلى القضاء المدني تحت شعار "التطهير".

في سبيل الوصول إلى إقامة نظام سياسي ودستور جديدين، سعى سعيّد لإزاحة أي شريك سياسي له في رسم معالم النظام الجديد، وحرص من يومه الأول في مقعد الرئيس على ترسيخ نظام حكم رئاسي ينفرد فيه بالتخطيط والقرار.

كتب الدستور الجديد لتركيز معظم الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، خلافاً للنظام البرلماني المعدل، الذي أرساه دستور سنة 2014، ووضع فيه السلطة لدى البرلمان والحكومة، كما تشرح السطور التالية. 


في هذا الدستور سلطات رئاسية مطلقة 

في صيف 2022 استدارت تونس وعادت إلى المربع الأول السابق لثورة الياسمين.

كانت تونس، مهد ثورات الربيع العربي، تعد الاستثناء الوحيد الناجح لهذه الموجة الثورية لعدة سنوات.

كانت الشمعة الوحيدة التي بقيت مشتعلة من الثورات التي هزت المنطقة، فقد نجحت البلاد في تنظيم ثلاثة مواعيد انتخابية تعددية على مدى العقد الماضي، والتي لاقت إشادة دولية، كما تم إقرار دستور توافقي خلال سنة 2014، يضمن الحريات العامة والفردية والتعددية السياسية في البلاد.

وجاء سعيّد بالدستور الجديد في صيف 2022.

وفقاً لهذا الدستور يتقلص دور البرلمان بشكل كبير، ويلعب الرئيس كل أدوار البطولة في الفيلم!

ليس من مهام البرلمان مراقبة عمل الحكومة أو الرئيس، لأن الدستور الجديد يمنح الرئيس حق تعيين رئيس الحكومة وبقية أعضائها، وحق إنهاء مهامهم. 

ووفق المادة 106 من الدستور الجديد تتضمن صلاحيات الرئيس إسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية في الدولة، باقتراح فقط من رئيس الحكومة.

للرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، صلاحيات ضبط السياسة العامة للدولة، وتحديد اختياراتها الأساسية، ولمشاريعه القانونية "أولوية النظر" من جانب نواب البرلمان.

ويمتلك الرئيس أيضاً صلاحية حل البرلمان، ومجلس الجهات والأقاليم، ويعين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة وتسمية القضاة، وعملياً حوّل الدستور السلطتين القضائية والتشريعية إلى وظيفتين.

ويمنح الدستور الرئيس حصانةً كاملة؛ إذ لا يشير إلى أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من قِبل باقي المؤسسات الدستورية، ولا إلى شروط سحب الثقة منه أو عزله.

بتمرير دستور جديد اقترحه بنفسه متجاوزاً رأي الهيئة الاستشارية التي عيّنها لصياغته، يبدو أن سعيّد نجح في تمرير خطوته الأهم في مشروعه السياسي.

يومها لخّصت وكالة رويترز ما يجري تحت عنوان صادم: الرئيس قيس سعيد يفكك أسس ديمقراطية الربيع العربي الوليدة في تونس.


يريد برلماناً ضعيفاً "لمنع الصراع مع الرئيس"

عملياً يجرِّد الدستور الجديد مجلس نواب الشعب من معظم الصلاحيات، خاصة الرقابية.

ولا ترى المعارضة في هذا الدستور سوى "صلاحيات فرعونية لم ترد في أي دستور"، حيث يحتكر الرئيس جميع مفاتيح السلطة وصلاحياتها.

كان الدستور الجديد في رأي المعارضة خطوة أخرى في مسار "الانقلاب على الثورة والديمقراطية".

لكن الرئيس سعيّد يرد بأن الدستور الجديد "ينقذ البلاد من نظام برلماني هجين"، لا يمكنه تجنب الخلافات بين أصحاب القرار.

ينقذ تونس من سلطات كانت مقسمة ومشتتّة؛ أدت إلى صراعات مستحكمة على الحكم بين الرئيس والبرلمان والحكومة طوال عشرية كاملة، وعطلت الحياة السياسية والتنمية الاقتصادية.

وعلى عكس ما كانت تأمله المعارضة، وجد سعيّد نوعاً من الغطاء الدولي والأوروبي للمضي في مشروعه السياسي، بما في ذلك الانتخابات التشريعية. 

على سبيل المثال، وخلال القمة الفرنكوفونية الأخيرة التي عقدت بجزيرة جربة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤيدة لمسار الرئيس سعيّد، وهو ما أغضب المعارضة التونسية.


وكل هذه اللغة الاستعلائية ضد معارضيه

منذ توليه الحكم لم يتوقف قيس سعيد عن اعتماد مفردات خطاب عنيفة، ينعت من خلالها خصومه والمؤسسات الممثلة لهم بأبشع النعوت، كما يرصد الصحفي التونسي سليمان شعباني في "عربي بوست".

وصفهم بالحشرات المتربصين بالبلاد.

وبالميكروبات السياسية التي مكانها قنوات الصرف الصحي.

وبالعديد من الألفاظ الأخرى من قاموس الغطرسة والاستعلاء، بما يعيد إلى الأذهان خطابات الرئيس الليبي الراحل المشهور بخطاب "من أنتم؟" في الساحة الخضراء بالعاصمة طرابلس، أيام الثورة الليبية، وهو ينعت الثائرين على حكمه بالجرذان المأجورين والعملاء والخونة.

ومثل القذافي يكره سعيّد الأحزاب.

"الأحزاب ماذا تعني؟"، هكذا تساءل في حوار له قبيل الانتخابات الرئاسية في 2019، وهكذا أجاب: الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية… بلغت أوجها في القرنين 19 و20، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها".

القذافي الديكتاتور الذي كان يزعم أن شعبه يحكم من خلال اللجان الشعبية، وبالأسلوب نفسه يصرح قيس سعيد بأنه يسعى إلى أن يصبح الشعب صاحب السيادة، يحكم نفسه بنفسه، وأن الغاية من إنشاء مجلس للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار.

فيديو دويتشه فيله أقل من 3  دقائق: قيس سعيد.. "قذافي تونس"؟ 

تابع أبناء تونس مشروعات ووعود رئيسهم الجديد، وكان شتاء 2021- 2022 هو الأكثر هدوءاً في شوارع الاحتجاجات منذ ربيع 2011.

كانوا ينتظرون أن تتحول وعوده إلى أخبار "معيشية" سارة.

ولم يحدث.

وكان العقاب الجماعي الأول هو رفض دعوته لاختيار النواب الجدد من الغالبية العظمى، في سابقة تصويتية تونسية.

طغت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على اهتمامات التونسيين، خاصة في ظل مقاطعة معظم الأحزاب السياسية للانتخابات، وتراجع دائرة مؤيّدي الرئيس سعيّد.

أصبح الاقتصاد المريض عنصر ضغط إلى جانب الأزمة السياسية الحادة، على وقع الإجراءات الاستثنائية، كما تشرح السطور التالية.

المسار السياسي للرئيس قيس سعيد

يحكي الصحفي التونسي منصف السليمي عن المرة الأولى التي شاهد فيها قيس سعيد عام 2011، وكيف أنه نجح في جذب أنظار الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالنخب السياسية في عهد بن علي البائد، وما تلاه من عهود.

يقول السليمي إن سعيّد وصل إلى قصر الرئاسة في قرطاج، اعتماداً على أصوات "فئات واسعة من الشباب وشرائح اجتماعية صوتت عقابياً ضد المنظومة الحزبية بأكملها". 

وكان في نظر مؤيديه مختلفاً عن باقي مكونات المشهد السياسي أحزاباً وزعماء، بعذريته السياسية، ومتميزاً بنظافة اليد والاستقامة. 

لكنه لم ينتظر طويلاً لكي يصنع روايته الشخصية عن الثورة وعن خارطة المستقبل لتونس.

اعتمد مثلاً 17 ديسمبر/كانون الأول، ذكرى حرق البائع المتجول محمد البوعزيزي لنفسه، كتاريخ رسمي للثورة بدلاً من 14 يناير/كانون الثاني، الذي يرمز برأيه إلى "انقلاب" و"خيانة" الطبقة السياسية لثورة الشباب.

ثم انهمرت "التدابير" الاستثنائية باعتماد محاكم عسكرية لملاحقة العشرات من نواب برلمانيين ومسؤولين حكوميين سابقين ورجال أعمال مرتبطين بالمشهد السياسي.

ثم التفت إلى القضاء المدني تحت شعار "التطهير".

في سبيل الوصول إلى إقامة نظام سياسي ودستور جديدين، سعى سعيّد لإزاحة أي شريك سياسي له في رسم معالم النظام الجديد، وحرص من يومه الأول في مقعد الرئيس على ترسيخ نظام حكم رئاسي ينفرد فيه بالتخطيط والقرار.

كتب الدستور الجديد لتركيز معظم الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، خلافاً للنظام البرلماني المعدل، الذي أرساه دستور سنة 2014، ووضع فيه السلطة لدى البرلمان والحكومة، كما تشرح السطور التالية. 


في هذا الدستور سلطات رئاسية مطلقة 

في صيف 2022 استدارت تونس وعادت إلى المربع الأول السابق لثورة الياسمين.

كانت تونس، مهد ثورات الربيع العربي، تعد الاستثناء الوحيد الناجح لهذه الموجة الثورية لعدة سنوات.

كانت الشمعة الوحيدة التي بقيت مشتعلة من الثورات التي هزت المنطقة، فقد نجحت البلاد في تنظيم ثلاثة مواعيد انتخابية تعددية على مدى العقد الماضي، والتي لاقت إشادة دولية، كما تم إقرار دستور توافقي خلال سنة 2014، يضمن الحريات العامة والفردية والتعددية السياسية في البلاد.

وجاء سعيّد بالدستور الجديد في صيف 2022.

وفقاً لهذا الدستور يتقلص دور البرلمان بشكل كبير، ويلعب الرئيس كل أدوار البطولة في الفيلم!

ليس من مهام البرلمان مراقبة عمل الحكومة أو الرئيس، لأن الدستور الجديد يمنح الرئيس حق تعيين رئيس الحكومة وبقية أعضائها، وحق إنهاء مهامهم. 

ووفق المادة 106 من الدستور الجديد تتضمن صلاحيات الرئيس إسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية في الدولة، باقتراح فقط من رئيس الحكومة.

للرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، صلاحيات ضبط السياسة العامة للدولة، وتحديد اختياراتها الأساسية، ولمشاريعه القانونية "أولوية النظر" من جانب نواب البرلمان.

ويمتلك الرئيس أيضاً صلاحية حل البرلمان، ومجلس الجهات والأقاليم، ويعين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة وتسمية القضاة، وعملياً حوّل الدستور السلطتين القضائية والتشريعية إلى وظيفتين.

ويمنح الدستور الرئيس حصانةً كاملة؛ إذ لا يشير إلى أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من قِبل باقي المؤسسات الدستورية، ولا إلى شروط سحب الثقة منه أو عزله.

بتمرير دستور جديد اقترحه بنفسه متجاوزاً رأي الهيئة الاستشارية التي عيّنها لصياغته، يبدو أن سعيّد نجح في تمرير خطوته الأهم في مشروعه السياسي.

يومها لخّصت وكالة رويترز ما يجري تحت عنوان صادم: الرئيس قيس سعيد يفكك أسس ديمقراطية الربيع العربي الوليدة في تونس.


يريد برلماناً ضعيفاً "لمنع الصراع مع الرئيس"

عملياً يجرِّد الدستور الجديد مجلس نواب الشعب من معظم الصلاحيات، خاصة الرقابية.

ولا ترى المعارضة في هذا الدستور سوى "صلاحيات فرعونية لم ترد في أي دستور"، حيث يحتكر الرئيس جميع مفاتيح السلطة وصلاحياتها.

كان الدستور الجديد في رأي المعارضة خطوة أخرى في مسار "الانقلاب على الثورة والديمقراطية".

لكن الرئيس سعيّد يرد بأن الدستور الجديد "ينقذ البلاد من نظام برلماني هجين"، لا يمكنه تجنب الخلافات بين أصحاب القرار.

ينقذ تونس من سلطات كانت مقسمة ومشتتّة؛ أدت إلى صراعات مستحكمة على الحكم بين الرئيس والبرلمان والحكومة طوال عشرية كاملة، وعطلت الحياة السياسية والتنمية الاقتصادية.

وعلى عكس ما كانت تأمله المعارضة، وجد سعيّد نوعاً من الغطاء الدولي والأوروبي للمضي في مشروعه السياسي، بما في ذلك الانتخابات التشريعية. 

على سبيل المثال، وخلال القمة الفرنكوفونية الأخيرة التي عقدت بجزيرة جربة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤيدة لمسار الرئيس سعيّد، وهو ما أغضب المعارضة التونسية.


وكل هذه اللغة الاستعلائية ضد معارضيه

منذ توليه الحكم لم يتوقف قيس سعيد عن اعتماد مفردات خطاب عنيفة، ينعت من خلالها خصومه والمؤسسات الممثلة لهم بأبشع النعوت، كما يرصد الصحفي التونسي سليمان شعباني في "عربي بوست".

وصفهم بالحشرات المتربصين بالبلاد.

وبالميكروبات السياسية التي مكانها قنوات الصرف الصحي.

وبالعديد من الألفاظ الأخرى من قاموس الغطرسة والاستعلاء، بما يعيد إلى الأذهان خطابات الرئيس الليبي الراحل المشهور بخطاب "من أنتم؟" في الساحة الخضراء بالعاصمة طرابلس، أيام الثورة الليبية، وهو ينعت الثائرين على حكمه بالجرذان المأجورين والعملاء والخونة.

ومثل القذافي يكره سعيّد الأحزاب.

"الأحزاب ماذا تعني؟"، هكذا تساءل في حوار له قبيل الانتخابات الرئاسية في 2019، وهكذا أجاب: الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية… بلغت أوجها في القرنين 19 و20، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها".

القذافي الديكتاتور الذي كان يزعم أن شعبه يحكم من خلال اللجان الشعبية، وبالأسلوب نفسه يصرح قيس سعيد بأنه يسعى إلى أن يصبح الشعب صاحب السيادة، يحكم نفسه بنفسه، وأن الغاية من إنشاء مجلس للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع في صنع القرار.

فيديو دويتشه فيله أقل من 3  دقائق: قيس سعيد.. "قذافي تونس"؟ 

تابع أبناء تونس مشروعات ووعود رئيسهم الجديد، وكان شتاء 2021- 2022 هو الأكثر هدوءاً في شوارع الاحتجاجات منذ ربيع 2011.

كانوا ينتظرون أن تتحول وعوده إلى أخبار "معيشية" سارة.

ولم يحدث.

وكان العقاب الجماعي الأول هو رفض دعوته لاختيار النواب الجدد من الغالبية العظمى، في سابقة تصويتية تونسية.

طغت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على اهتمامات التونسيين، خاصة في ظل مقاطعة معظم الأحزاب السياسية للانتخابات، وتراجع دائرة مؤيّدي الرئيس سعيّد.

أصبح الاقتصاد المريض عنصر ضغط إلى جانب الأزمة السياسية الحادة، على وقع الإجراءات الاستثنائية، كما تشرح السطور التالية.

وهو رجل اقتصاد بلا خبرة

كيف دخل الاقتصاد مع سعيد أكبر أزماته باشتعال الأسعار واختفاء  سلع أساسية والتخطيط لرفع الدعم

تسلل الرئيس قيس سعيد إلى قلوب الناس قبل أن يدخل القصر الرئاسي، عندما وعدهم بتحسين ظروف الفقراء.

منذ ثورة 2011 كان الرجل يطوف المدن التونسية، يتحدث مع الشباب، ويحاول إقناعهم بأن النخبة السياسية الفاسدة هي السبب في الظروف المعيشية الظالمة التي يعانونها.

وصدقوه.

ثم تحدث في خطاباته بعد أن أصبح رئيساً كثيراً عن "الهامش المغبون" اقتصادياً واجتماعياً، وكرّر وعوده بالانحياز إلى الطبقات الشعبية. 

لكن الفترة التي افتتحها بالقوانين والمراسيم الاستثنائية شهدت تردياً واضحاً للوضع الاقتصادي.

وأصبح الفقراء في "الهامش المغبون" يعانون أكثر في ظل الضغوط الاقتصادية وتفاقم الأعباء الاجتماعية.

يعانون ارتفاعاً في الأسعار، وتزايد معدلات البطالة، والفقر، وتدهوراً في سعر صرف الدينار.

وليس من أمل في أن تجد هذه الأوضاع الصعبة نهايتها عبر تخطيط اقتصادي أو أمل في الإصلاح، ما دفع الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة الأكبر في البلاد، والأحزاب المعارضة إلى التحذير من انفجار اجتماعي مع تواصُل أزمة الأسعار وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين.

راهنت المعارضة على انفجار الوضع الاجتماعي بما يربك أو يطيح بمشروع الرئيس قيس سعيد، لكن التحركات المطلبية لم ترق إلى احتجاجات واسعة.

كما أن الضغوط الدولية التي راهن عليها معارضو الرئيس سعيّد أيضاً لم تؤتِ أكلها. 

لم ينفجر الوضع الاجتماعي بعد،
لكن إجراءات "مؤلمة" في الطريق

المشهد الاقتصادي في تونس أصبح معقداً وضبابي الملامح.

ما بلغته بلاد ثورة الياسمين خلال الأشهر الأخيرة من 2022 هو أزمة غير مسبوقة، لم تشهدها طيلة السنوات الماضية، منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن إجراءات استثنائية صيف 2021، إلى الانتخابات التشريعية الهزيلة.

اختفت العديد من المواد الأساسية من الأسواق، وخاصة مشتقات الحبوب طيلة أسابيع، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وفشلت الحكومة في العثور على مورد جديد للقمح، بسبب عدم توفر السيولة المالية اللازمة، والعجز الكبير الذي تُعاني منه ميزانية البلاد.

كما أصبحت الحكومة التونسية غير قادرة بشكل متزايد على صرف رواتب موظفي الدولة في الموعد المُحدد. 

وقدم البنك الدولي لتونس خلال سنتي 2021 و2022، تمويلات بقيمة إجمالية تصل إلى مليار دولار بعنوان مساعدات عاجلة للتعامل مع مختلف الأزمات، وعلى رأسها أزمة فقدان المواد الأساسية والغذائية. 

رغم ذلك خفضت وكالة "موديز" تصنيف تونس إلى "Caa1"، مع آفاق سلبية، وفي مارس/آذار 2022، قامت وكالة "فيتش رايتنغ" بتخفيض تصنيف تونس أيضاً إلى "CCC". 

وتصنيف CCC يعني أن الاقتصاد المدين معرض حالياً للعجز عن السداد، وأنه يعتمد على الأعمال التجارية والظروف المالية والاقتصادية المواتية للوفاء بالتزاماته المالية.

ما يحدث هو أن حكومة نجلاء بودن تسعى للحصول على قرض ضخم من البنك الدولي بقيمة 4 مليارات دولار.

ما سوف يحدث هو أن شروط صندوق النقد الدولي لمنح تونس قرضاً بـ4 مليارات دولار، تقتضي تنفيذ الحكومة لما يُعرف في تونس بالإصلاحات الموجعة، بتجميد كتلة أجور موظفي الدولة وأعوانها، وإيقاف الانتدابات والتخفيض في جرايات التقاعد.

أيضاً يطالب صندوق النقد الدولي تونس بإصلاح الصناديق الاجتماعية المفلسة، والتفويت في المؤسسات المملوكة من طرف الدولة، والرفع التدريجي للدعم على المواد الأساسية.

ومهّد الرئيس لذلك بقوله في وقت سابق إنه من الضروري القيام "بإصلاحات مؤلمة" لتجاوز الأزمة.

الخطوة المقبلة في الاقتصاد 

تونس في 2023 رهينة أزمتين: سياسية واقتصادية، والتوقعات الاقتصادية للعام الجديد تبدو قاتمة.

يرى مراقبون أن بداية العام لن تكون سعيدة بالنسبة للتونسيين الذين باتوا يعانون من اختفاء السلع الأساسية وليس فقط غلاء أسعار، وفي مقدمتها الزيت والسكر والأرز والدقيق والحليب.

ويتوقعون أن تصبح نسبة التضخم في العام الجديد من رقمين، أي 10% فما أكثر.

"هذا التضخم سيصاحبه ارتفاع جنوني في الأسعار؛ ما سيزيد من احتقان الشارع والتونسيين"، في تقدير الخبيرة الاقتصادية التونسية شيراز الرحالي.

الآمال التي عُلقت على تغيير الأوضاع مع قيس سعيد بدأت تتلاشى في ظلّ سيطرة الجانب السياسي على إدارة البلاد؛ وتأجيل البحث عن علاج للأزمة الاقتصادية.

واستمرار الأزمة يزيد من حالة الغليان في الشارع التونسي.

الشارع التونسي منح قيس سعيد الوقت للإصلاح، وجاءت كل المؤشرات عكسية، "لكن اليوم في ظل مزيد تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع للقدرة الشرائية، وبعد أكثر من سنة على تولي الرئيس للسلطة وتعيينه لحكومة يُحدّد هو نفسه سياساتها وتوجّهاتها، سيعود الشارع للاحتجاج في الشتاء"، كما يقول المحلّل عبد الجليل البدوي في تصريحه لـ"عربي بوست".

تسلل الرئيس قيس سعيد إلى قلوب الناس قبل أن يدخل القصر الرئاسي، عندما وعدهم بتحسين ظروف الفقراء.

منذ ثورة 2011 كان الرجل يطوف المدن التونسية، يتحدث مع الشباب، ويحاول إقناعهم بأن النخبة السياسية الفاسدة هي السبب في الظروف المعيشية الظالمة التي يعانونها.

وصدقوه.

ثم تحدث في خطاباته بعد أن أصبح رئيساً كثيراً عن "الهامش المغبون" اقتصادياً واجتماعياً، وكرّر وعوده بالانحياز إلى الطبقات الشعبية. 

لكن الفترة التي افتتحها بالقوانين والمراسيم الاستثنائية شهدت تردياً واضحاً للوضع الاقتصادي.

وأصبح الفقراء في "الهامش المغبون" يعانون أكثر في ظل الضغوط الاقتصادية وتفاقم الأعباء الاجتماعية.

يعانون ارتفاعاً في الأسعار، وتزايد معدلات البطالة، والفقر، وتدهوراً في سعر صرف الدينار.

وليس من أمل في أن تجد هذه الأوضاع الصعبة نهايتها عبر تخطيط اقتصادي أو أمل في الإصلاح، ما دفع الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة الأكبر في البلاد، والأحزاب المعارضة إلى التحذير من انفجار اجتماعي مع تواصُل أزمة الأسعار وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين.

راهنت المعارضة على انفجار الوضع الاجتماعي بما يربك أو يطيح بمشروع الرئيس قيس سعيد، لكن التحركات المطلبية لم ترق إلى احتجاجات واسعة.

كما أن الضغوط الدولية التي راهن عليها معارضو الرئيس سعيّد أيضاً لم تؤتِ أكلها. 

لم ينفجر الوضع الاجتماعي بعد،
لكن إجراءات "مؤلمة" في الطريق

المشهد الاقتصادي في تونس أصبح معقداً وضبابي الملامح.

ما بلغته بلاد ثورة الياسمين خلال الأشهر الأخيرة من 2022 هو أزمة غير مسبوقة، لم تشهدها طيلة السنوات الماضية، منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن إجراءات استثنائية صيف 2021، إلى الانتخابات التشريعية الهزيلة.

اختفت العديد من المواد الأساسية من الأسواق، وخاصة مشتقات الحبوب طيلة أسابيع، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وفشلت الحكومة في العثور على مورد جديد للقمح، بسبب عدم توفر السيولة المالية اللازمة، والعجز الكبير الذي تُعاني منه ميزانية البلاد.

كما أصبحت الحكومة التونسية غير قادرة بشكل متزايد على صرف رواتب موظفي الدولة في الموعد المُحدد. 

وقدم البنك الدولي لتونس خلال سنتي 2021 و2022، تمويلات بقيمة إجمالية تصل إلى مليار دولار بعنوان مساعدات عاجلة للتعامل مع مختلف الأزمات، وعلى رأسها أزمة فقدان المواد الأساسية والغذائية. 

رغم ذلك خفضت وكالة "موديز" تصنيف تونس إلى "Caa1"، مع آفاق سلبية، وفي مارس/آذار 2022، قامت وكالة "فيتش رايتنغ" بتخفيض تصنيف تونس أيضاً إلى "CCC". 

وتصنيف CCC يعني أن الاقتصاد المدين معرض حالياً للعجز عن السداد، وأنه يعتمد على الأعمال التجارية والظروف المالية والاقتصادية المواتية للوفاء بالتزاماته المالية.

ما يحدث هو أن حكومة نجلاء بودن تسعى للحصول على قرض ضخم من البنك الدولي بقيمة 4 مليارات دولار.

ما سوف يحدث هو أن شروط صندوق النقد الدولي لمنح تونس قرضاً بـ4 مليارات دولار، تقتضي تنفيذ الحكومة لما يُعرف في تونس بالإصلاحات الموجعة، بتجميد كتلة أجور موظفي الدولة وأعوانها، وإيقاف الانتدابات والتخفيض في جرايات التقاعد.

أيضاً يطالب صندوق النقد الدولي تونس بإصلاح الصناديق الاجتماعية المفلسة، والتفويت في المؤسسات المملوكة من طرف الدولة، والرفع التدريجي للدعم على المواد الأساسية.

ومهّد الرئيس لذلك بقوله في وقت سابق إنه من الضروري القيام "بإصلاحات مؤلمة" لتجاوز الأزمة.

الخطوة المقبلة في الاقتصاد 

تونس في 2023 رهينة أزمتين: سياسية واقتصادية، والتوقعات الاقتصادية للعام الجديد تبدو قاتمة.

يرى مراقبون أن بداية العام لن تكون سعيدة بالنسبة للتونسيين الذين باتوا يعانون من اختفاء السلع الأساسية وليس فقط غلاء أسعار، وفي مقدمتها الزيت والسكر والأرز والدقيق والحليب.

ويتوقعون أن تصبح نسبة التضخم في العام الجديد من رقمين، أي 10% فما أكثر.

"هذا التضخم سيصاحبه ارتفاع جنوني في الأسعار؛ ما سيزيد من احتقان الشارع والتونسيين"، في تقدير الخبيرة الاقتصادية التونسية شيراز الرحالي.

الآمال التي عُلقت على تغيير الأوضاع مع قيس سعيد بدأت تتلاشى في ظلّ سيطرة الجانب السياسي على إدارة البلاد؛ وتأجيل البحث عن علاج للأزمة الاقتصادية.

واستمرار الأزمة يزيد من حالة الغليان في الشارع التونسي.

الشارع التونسي منح قيس سعيد الوقت للإصلاح، وجاءت كل المؤشرات عكسية، "لكن اليوم في ظل مزيد تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع للقدرة الشرائية، وبعد أكثر من سنة على تولي الرئيس للسلطة وتعيينه لحكومة يُحدّد هو نفسه سياساتها وتوجّهاتها، سيعود الشارع للاحتجاج في الشتاء"، كما يقول المحلّل عبد الجليل البدوي في تصريحه لـ"عربي بوست".

ماذا يحدث في تونس بعد إلغاء الدعم؟

الخطوة الأكثر خطورة في الطريق.

إعلان الحكومة عن إلغاء الدعم عن المواد الاستهلاكية كأحد شروط الصندوق، يعني أن فئات واسعة من التونسيين سوف تتأثر بارتفاع نسبة التضخم والفقر، ما يفتح الباب على مصراعيه لغليان داخلي قد يُمهّد لانفجار اجتماعي كبير. 

يضيف البدوي أن "الاتفاق مع صندوق النقد لن يكون حلاً لإنعاش الاقتصاد الميت إكلينيكيا، بل ترقيعه، خاصة أنه متوجه للاستهلاك لا للاستثمار".

ويرى محللون أن الرئيس سعيّد لا يملك بحكم تكوينه وخبرته المحدودة رؤية لإصلاح الاقتصاد وتقديم بدائل، في مواجهة مطالب الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا.

رغم هذا يتخوّف آخرون من تسارع الدعوات لتنحي الرجل.

من يتصورون هبّة شعبية واسعة تضع سعيّد في عزلة تامة، وتفرض عليه التنحّي، يغفلون عن غياب قيادة موحدة، وعدم تبلور بديل جاهز. ربما يتسبب مثل هذا الحراك العشوائي ومتعدّد الأشكال والمطالب بسقوط البلاد في حالةٍ أشبه ما تكون بالفوضى العارمة.

ماذا يحدث في تونس بعد إلغاء الدعم؟

الخطوة الأكثر خطورة في الطريق.

إعلان الحكومة عن إلغاء الدعم عن المواد الاستهلاكية كأحد شروط الصندوق، يعني أن فئات واسعة من التونسيين سوف تتأثر بارتفاع نسبة التضخم والفقر، ما يفتح الباب على مصراعيه لغليان داخلي قد يُمهّد لانفجار اجتماعي كبير. 

يضيف البدوي أن "الاتفاق مع صندوق النقد لن يكون حلاً لإنعاش الاقتصاد الميت إكلينيكيا، بل ترقيعه، خاصة أنه متوجه للاستهلاك لا للاستثمار".

ويرى محللون أن الرئيس سعيّد لا يملك بحكم تكوينه وخبرته المحدودة رؤية لإصلاح الاقتصاد وتقديم بدائل، في مواجهة مطالب الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا.

رغم هذا يتخوّف آخرون من تسارع الدعوات لتنحي الرجل.

من يتصورون هبّة شعبية واسعة تضع سعيّد في عزلة تامة، وتفرض عليه التنحّي، يغفلون عن غياب قيادة موحدة، وعدم تبلور بديل جاهز. ربما يتسبب مثل هذا الحراك العشوائي ومتعدّد الأشكال والمطالب بسقوط البلاد في حالةٍ أشبه ما تكون بالفوضى العارمة.

لا يوجد ديكتاتور فقير

الأزمة الاقتصادية تهدد استقرار نظام قيس سعيد والأجيال الصاعدة تعاقبه بمقاطعة التصويت

أصبح قيس سعيد رئيساً في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد أدائه القسم أمام مجلس نواب الشعب.

أقسم يومها على احترام الدستور، والحفاظ على استقلال البلاد، إضافة إلى تعهدات بمكافحة الفساد، والعدالة الاجتماعية، والتصدي للإرهاب.

ووعد الشعب بحلول مبتكرة، ومحاربة الفساد، والحفاظ على القدرة الشرائية.

لكن حكوماته الثلاث واصلت نفس سياسات الحكومات السابقة، مع إضافات سياسية غير مسبوقة، فاجأ بها الرئيس أنصاره قبل معارضيه.

رفض الأحزاب لأنها من مخلفات التاريخ، وتجاهل الدعوات المتكررة للاتحاد العام التونسي للشغل لإقامة حوار وطني من أجل تجاوز الأزمة السياسية التي عاشتها تونس. ووصف خصومه ومعارضيه بـ"الخونة" و"الجراثيم"، ويعتبر من يسانده في خانة "الصادقين" و"المخلصين".

واستغل تعاطف جزء مهم من التونسيين لمواجهة الانسداد السياسي، وانسداد المشهد البرلماني، وترهل سلطة الدولة، من أجل الانقضاض على كل مفاتيح الحكم.

يحدث ذلك وتونس تعيش أزمةً على جميع المستويات.

الإحساس بتخلي الدولة عن مسؤولياتها إزاء المواطنين بات منتشراً في مختلف مناطق تونس، هكذا كتبت Le Monde الفرنسية في خريف 2022.

الرئيس قيس سعيّد لا يواجه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، لأنه سجين التفسيرات المؤامراتية لما يجري، يتحدث هو ومؤيدوه عن وجود مؤامرة تمنعه من العمل. حتى أزمة المواد الغذائية يبررها بتصاعد الاحتكار وإتلاف السلع من قبل المضاربين!

لا شيء يعمل الآن في هذا البلد

إلى هنا وصلت تونس بعد 12 عاماً من أهازيج الياسمين وأحلام الخبز والحرية.

إلى هنا وصل وديع الجلاصي الذي أطلق طائره السجين من قفصه ذات يوم: "أختنق في تونس اليوم، لا شيء يعمل في هذا البلد، لا ديمقراطية، ولا الاقتصاد، ولا أوضاع الناس".

الجلاصي قاطع الانتخابات التشريعية الأخيرة، "للمرة الأولى بعد الثورة لا أصوّت".

تحمس الجلاصي عندما وصل سعيد قصر قرطاج، "كنا مع قيس سعيد وساعدناه… لأنه مثلنا جاء من الأحياء الفقيرة".

لكن بعد ما يقرب من 17 شهراً من سيطرة سعيد على أغلب السلطات والتحرك للحكم بمراسيم، لم يتغير شيء فعلياً بالنسبة للجلاصي، الذي يقول إن الوضع ازداد سوءاً، وإن الأمل "تلاشى بشكل شبه كامل".

وقال الجلاصي بمرارة "لقد سعوا لقتل كل ما له علاقة بالثورة، لقد قتلوا الحلم، لم أعد أشتم رائحة للثورة ولا للحرية".

هل تبدو الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟

تونس لم تغلق قوس الثورة بعد، هكذا يجيب بحسم الصحفي التونسي حسان العيادي، لأن الحكم الفردي لا يستمر بوجود أزمة اقتصادية.

"الحكم الفردي الذي ينوي سعيّد فرضه في تونس يحتاج إلى تحقيق قدر من الرفاه لشعبه، لإضفاء شرعية على حكمه، والرئيس يعجز عن ذلك الآن بحكم ثقل الديون على كاهل الدولة التونسية، والتي قد يعاني سعيّد من تبعاتها خلال الأشهر المقبلة".

لا بقاء لديكتاتور فقير في هذا العالم!

كما أن الربيع التونسي قد يكون على خطى ربيع الشعوب الأوروبية، الذي تطلَّب سنوات طويلة وعقوداً ليصنع الديمقراطية، في رأي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الفرنسية خطار أبو دياب.

مؤشر آخر على عدم استقرار النظام تبلور في مقاطعة 75% من الجسم الانتخابي للاستفتاء على الدستور، ونحو 90% في الانتخابات التشريعية، ما يعني أن جيلاً كاملاً من الشباب الذي ترعرع بعد 2011 أصبح رافضاً للمشاركة في الاستفتاءات والانتخابات، ما قد يمثل "إنذاراً" لسعيّد بأن مشروعه السياسي ليس في مأمن من "الارتدادات".

واعتبرت صحف فرنسية، أن مقاطعة 90% من التونسيين للانتخابات التشريعية أمر خطير، وخيبة أمل سياسية، كما تعدّ فشلاً مدوياً ينقل تونس إلى وضع سياسي مسدود.

ما يفعله قيس سعيد يضرب الربيع العربي في مهده، كما قال الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، ولهذا رمزية كبرى ودور أكبر في ضرب معنويات الشعوب العربية. 

يضيف المرزوقي: إنّهم يرغبون في تمرير هذه الرسالة: انظروا لما حدث حتى في تونس، لكنّ الربيع العربي سيتجدد في تونس ومن تونس، أنا أعتقد هذا بكل صدق، المسألة الوحيدة التي لست متأكداً منها: متى سينفجر هذا البركان المتصاعد.

أصبح قيس سعيد رئيساً في أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد أدائه القسم أمام مجلس نواب الشعب.

أقسم يومها على احترام الدستور، والحفاظ على استقلال البلاد، إضافة إلى تعهدات بمكافحة الفساد، والعدالة الاجتماعية، والتصدي للإرهاب.

ووعد الشعب بحلول مبتكرة، ومحاربة الفساد، والحفاظ على القدرة الشرائية.

لكن حكوماته الثلاث واصلت نفس سياسات الحكومات السابقة، مع إضافات سياسية غير مسبوقة، فاجأ بها الرئيس أنصاره قبل معارضيه.

رفض الأحزاب لأنها من مخلفات التاريخ، وتجاهل الدعوات المتكررة للاتحاد العام التونسي للشغل لإقامة حوار وطني من أجل تجاوز الأزمة السياسية التي عاشتها تونس. ووصف خصومه ومعارضيه بـ"الخونة" و"الجراثيم"، ويعتبر من يسانده في خانة "الصادقين" و"المخلصين".

واستغل تعاطف جزء مهم من التونسيين لمواجهة الانسداد السياسي، وانسداد المشهد البرلماني، وترهل سلطة الدولة، من أجل الانقضاض على كل مفاتيح الحكم.

يحدث ذلك وتونس تعيش أزمةً على جميع المستويات.

الإحساس بتخلي الدولة عن مسؤولياتها إزاء المواطنين بات منتشراً في مختلف مناطق تونس، هكذا كتبت Le Monde الفرنسية في خريف 2022.

الرئيس قيس سعيّد لا يواجه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، لأنه سجين التفسيرات المؤامراتية لما يجري، يتحدث هو ومؤيدوه عن وجود مؤامرة تمنعه من العمل. حتى أزمة المواد الغذائية يبررها بتصاعد الاحتكار وإتلاف السلع من قبل المضاربين!

لا شيء يعمل الآن في هذا البلد

إلى هنا وصلت تونس بعد 12 عاماً من أهازيج الياسمين وأحلام الخبز والحرية.

إلى هنا وصل وديع الجلاصي الذي أطلق طائره السجين من قفصه ذات يوم: "أختنق في تونس اليوم، لا شيء يعمل في هذا البلد، لا ديمقراطية، ولا الاقتصاد، ولا أوضاع الناس".

الجلاصي قاطع الانتخابات التشريعية الأخيرة، "للمرة الأولى بعد الثورة لا أصوّت".

تحمس الجلاصي عندما وصل سعيد قصر قرطاج، "كنا مع قيس سعيد وساعدناه… لأنه مثلنا جاء من الأحياء الفقيرة".

لكن بعد ما يقرب من 17 شهراً من سيطرة سعيد على أغلب السلطات والتحرك للحكم بمراسيم، لم يتغير شيء فعلياً بالنسبة للجلاصي، الذي يقول إن الوضع ازداد سوءاً، وإن الأمل "تلاشى بشكل شبه كامل".

وقال الجلاصي بمرارة "لقد سعوا لقتل كل ما له علاقة بالثورة، لقد قتلوا الحلم، لم أعد أشتم رائحة للثورة ولا للحرية".

هل تبدو الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟

تونس لم تغلق قوس الثورة بعد، هكذا يجيب بحسم الصحفي التونسي حسان العيادي، لأن الحكم الفردي لا يستمر بوجود أزمة اقتصادية.

"الحكم الفردي الذي ينوي سعيّد فرضه في تونس يحتاج إلى تحقيق قدر من الرفاه لشعبه، لإضفاء شرعية على حكمه، والرئيس يعجز عن ذلك الآن بحكم ثقل الديون على كاهل الدولة التونسية، والتي قد يعاني سعيّد من تبعاتها خلال الأشهر المقبلة".

لا بقاء لديكتاتور فقير في هذا العالم!

كما أن الربيع التونسي قد يكون على خطى ربيع الشعوب الأوروبية، الذي تطلَّب سنوات طويلة وعقوداً ليصنع الديمقراطية، في رأي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الفرنسية خطار أبو دياب.

مؤشر آخر على عدم استقرار النظام تبلور في مقاطعة 75% من الجسم الانتخابي للاستفتاء على الدستور، ونحو 90% في الانتخابات التشريعية، ما يعني أن جيلاً كاملاً من الشباب الذي ترعرع بعد 2011 أصبح رافضاً للمشاركة في الاستفتاءات والانتخابات، ما قد يمثل "إنذاراً" لسعيّد بأن مشروعه السياسي ليس في مأمن من "الارتدادات".

واعتبرت صحف فرنسية، أن مقاطعة 90% من التونسيين للانتخابات التشريعية أمر خطير، وخيبة أمل سياسية، كما تعدّ فشلاً مدوياً ينقل تونس إلى وضع سياسي مسدود.

ما يفعله قيس سعيد يضرب الربيع العربي في مهده، كما قال الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، ولهذا رمزية كبرى ودور أكبر في ضرب معنويات الشعوب العربية. 

يضيف المرزوقي: إنّهم يرغبون في تمرير هذه الرسالة: انظروا لما حدث حتى في تونس، لكنّ الربيع العربي سيتجدد في تونس ومن تونس، أنا أعتقد هذا بكل صدق، المسألة الوحيدة التي لست متأكداً منها: متى سينفجر هذا البركان المتصاعد.