2022

عام الصعاب على بايدن 

"الصين وروسيا والملف النووي الإيراني وترامب وكورونا" لن تتركه

لم يكن أكثر المتشائمين داخل أمريكا أو خارجها ليتصور أن يكون عام جو بايدن الأول في البيت الأبيض مخيباً للآمال بهذا الشكل، فالرئيس الذي وضع حقوق الإنسان في القلب من سياسته الخارجية حقق فشلاً ذريعاً في طرفي معادلة المبادئ والمصالح معاً.

لكن إذا كان عام 2021 صعباً بالنسبة لبايدن، فإن المعطيات داخلياً وخارجياً تشير إلى أن عام 2022 ربما يكون أكثر صعوبة بكثير للرئيس الأمريكي، الذي يجد نفسه غارقاً في رمال متحركة أينما وجه بصره. من الشرق الأوسط حيث ماراثون مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي يعتبره بايدن "درة التاج" في رئاسته، إلى أوروبا حيث "خطوط بوتين الحمراء" في أوكرانيا، إلى الصين حيث التهديد بغزو تايوان يقترب من أن يصبح واقعاً فعلياً.

"سنكتب معاً قصة أمريكية عن الأمل وليس الخوف، عن الوحدة وليس الانقسام، عن النور وليس الظلام.. قصة عن الحب والتعافي والاحترام والكرامة.. لتكن هذه القصة مرشدنا ودليلنا".. بهذه الكلمات قص بايدن في يوم تنصيبه شريط حكاية الرئيس رقم 46 في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن شتان بين ما وعد به الرئيس الأكبر سناً على الإطلاق في تاريخ أمريكا، وبين ما تحقق فعلاً بنهاية العام الأول من رئاسته، وبصفة خاصة في السياسة الخارجية. ولنبدأ بالوعد الأبرز والعنوان الأعرض وهو "أمريكا عادت"، وهو الشعار الذي رفعه بايدن فخوراً ومصمماً ومعلناً عن عودة الولايات المتحدة لتتبوأ موقع القيادة على المسرح العالمي، فماذا شهد عام 2021 بالنسبة لتلك "العودة الأمريكية"؟

ظروف استثنائية، فهل كان الرئيس استثنائياً؟

شهدت الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، الرئيس السابق الصاخب، تغييرات ضخمة على المستويين الداخلي والخارجي بالنسبة للولايات المتحدة وحول العالم أيضاً. وكانت حادثة اقتحام أنصار ترامب الكونغرس الأمريكي لتعطيل جلسة التصديق على فوز بايدن يوم 6 يناير/كانون الثاني مؤشراً على مدى صعوبة مهمة الرئيس الجديد على المستوى الداخلي والخارجي أيضاً.

ففي الوقت الذي كان يستعد فيه بايدن إلى العودة للبيت الأبيض مرة أخرى، بعد أن قضى فيه 8 سنوات نائباً لباراك أوباما، كانت الولايات المتحدة تواجه تحديات ضخمة تتمثل في حالة استقطاب وانقسام حادة وأزمة جائحة كورونا التي تعصف بالبلاد وتسببت في انكماش اقتصادي حاد وقضية الهجرة والحدود وغيرها من الملفات الداخلية، بينما كانت علاقات واشنطن مع العالم -حلفاء وخصوماً- تواجه تحديات لا تقل خطورة عن الوضع الداخلي.

وهكذا بدأ جو بايدن رئاسته يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021 رافعاً شعار "عودة أمريكا إلى مقعد القيادة"، وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، قدم الرئيس حزمة ضخمة من الوعود للأمريكيين وللعالم، فما هي أبرز تلك الوعود، وماذا تحقق منها، وماذا لم يتحقق؟

وعد بايدن بعودة واشنطن إلى المنظمات والهيئات والاتفاقيات الدولية التي كان ترامب قد انسحب منها، وحقق هذا الوعد بالفعل؛ إذ أعاد الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية، بعد أن كان ترامب قد أرسل قراره بالانسحاب منها على خلفية الاتهامات للمنظمة بالتواطؤ مع الصين في التستر على أصل وتوقيت تفشي فيروس كورونا. فأرسل بايدن خطاباً يلغي قرار ترامب وأعاد واشنطن لمنظمة الصحة العالمية.

وفيما يتعلق باتفاقية باريس للمناخ الموقعة عام 2015، والهادفة إلى اتخاذ الدول الكبرى إجراءات للتخفيف من الانبعاثات الكربونية للتصدي لظاهرة الاحتباس الحراري والتغير المناخي، أعاد بايدن التزام الولايات المتحدة بالاتفاقية بعد أن كان ترامب قد أعلن الانسحاب منها. كما نفذ بايدن وعده بإلغاء قرار ترامب حظر سفر مواطني بعض الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة.

لكن بايدن قدم وعوداً أخرى كثيرة لم يتحقق منها شيء بعد مرور العام الأول من رئاسته، كوعده بتأسيس هيئة تكنولوجية مكونة من حلفاء واشنطن لتسهيل الانتقال إلى تقنية 5G أو الجيل الخامس بهدف محاصرة الشركات الصينية التي تستحوذ على نصيب الأسد عالمياً في هذا المجال، ولكي يصبح أمام حلفاء واشنطن بديل عن الصين في ذلك القطاع الحيوي.

وقدم بايدن وعوداً ضخمة للأمريكيين، منها خلق مليون فرصة عمل في مجال صناعة السيارات الكهربائية خلال العام الأول من رئاسته وتأسيس هيئة طوارئ صحية جديدة لتحسين استعداد الحكومة الفيدرالية للتعامل مع الأوبئة والأزمات الصحية وتغيير قوانين الضرائب على شركات الأدوية حتى يجبرها على نقل مصانع الإنتاج من الخارج إلى الداخل، وغيرها من الوعود التي لم يتحقق منها أي شيء بينما عامه الأول في البيت الأبيض يوشك على الرحيل.

مشاكل بايدن الصحية عرض مستمر

الحالة الصحية للرئيس الأمريكي، أو لأي رئيس أو زعيم في واقع الأمر، تمثل قضية عامة تشغل المواطنين، وهذه النقطة مثلت ضلعاً هاماً من أضلاع العام الأول للرئيس بايدن. فالرئيس تعثر وسقط ثلاث مرات متتالية لدى صعوده سلم الطائرة الرئاسية، وكان ذلك في مارس/آذار 2021، مما وضع الحالة الصحية لبايدن تحت المنظار طوال العام.

ولا تتوقف التعليقات على صحة الرئيس بايدن عند حالته الجسدية فقط، إنما تتخطاها إلى حالته العقلية أيضاً، وكان ترامب من أوائل من أطلقوا التحذيرات بشأن مدى سلامة الحالة الذهنية والعقلية لخليفته، إذ قال لصحيفة New York Post تعليقاً على سقوط بايدن المتكرر على سلم الطائرة الرئاسية إنه (ترامب) لم يتفاجأ.

وأضاف ترامب للصحيفة في مارس/آذار إنه يعتقد أيضاً أن "الحالة العقلية لبايدن قد تتضاءل لدرجة أنه قد لا يفهم ما يوقعه: "بايدن قد يكون مصاباً بالخرف (ألزهايمر)، وأنه مرتبك جداً ولا يستطيع فهم الأوراق التي يوقعها، والتي قد تحتوي على إملاءات رئاسية".

ومن الطبيعي أن تكون شهادة ترامب في أي شيء يتعلق ببايدن، أو أي من خصوم الرئيس السابق على أية حال، محل شك وقد لا يعتد بها كثير من المواطنين الداعمين لبايدن أو حتى المحايدين، إلا أن تكرار المؤشرات على أن الرئيس ليس في كامل لياقته الصحية والذهنية تكررت على مدار العام بصورة بات من الصعب إنكارها.

وتناولت وسائل الإعلام الأمريكية التقليدية ومنصات التواصل الاجتماعي الحالة الصحية والعقلية لجو بايدن بصورة مكثفة، ولا تزال. وتناول تقرير في صحيفة New York Post، خلال ديسمبر/ كانون الأول 2021، الحالة العقلية للرئيس جاء عنوانه "قصص بايدن المختلقة وأسلوبه يثيران تساؤلات خطيرة بشأن صحته العقلية"، ورصد التقرير عدداً من القصص التي يرويها بايدن علنا، ويغير في تفاصيلها وشخوصها بصورة تدعو للقلق بشأن دقة المعلومات وحتى الدافع أو المغزى من وراء سرد "حكايات" بلا معنى.

وكانت إحدى تلك القصص التي رواها بايدن خلال حدث اجتماعي مؤخراً، بحسب الصحيفة الأمريكية، يتعلق بما بدور مزعوم للرئيس بايدن خلال حرب الأيام الست بين إسرائيل ومصر عام 1967؛ إذ قال بايدن لجمهوره إنه كان يلعب دور الوسيط بين غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل خلال تلك الحرب وبين الحكومة المصرية. ولا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً بأي حال من الأحوال، لأن غولدا مائير لم تكن رئيسة وزراء إسرائيل وقتها، بل كان ليفي أشكول هو من يشغل المنصب، وكان بايدن نفسه وقتها لا يزال طالباً في السنة الأخيرة في كلية الحقوق ولم يكن أحد في إسرائيل أو مصر أو حتى أمريكا قد سمع به.

هذه القصة وغيرها من القصص التي يرويها بايدن في مناسبات عامة تشير، بحسب تقرير الصحيفة، إلى أن الرئيس ربما يعاني من حالة انفصال جزئي عن الواقع حيث يصور له خياله أموراً لم تحدث فعلاً فيرويها على أنها حقائق، وهي إحدى العلامات على "الخرف" الذي يصيب بعضاً من كبار السن.

وإذا أضيف إلى تلك الحالات من القصص المفبركة والتعثر والسقوط، حالة "النعاس" التي يقع بايدن ضحية لها خلال اجتماعات عامة، ربما أكثرها شهرة ما حدث خلال لقائه في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، فإن كبار المسؤولين في إدارة بايدن يواجهون أسئلة محرجة للغاية ويجدون صعوبة في الرد عليها.

ولم يكن دخول جيل بايدن، زوجة الرئيس، على خط الدفاع عن "الصحة العقلية لزوجها"، إلا مؤشراً آخر على مدى عمق القضية وتأثيرها المتصاعد. فقد قالت السيدة الأولى خلال ديسمبر/كانون الأول، في لقاء لها على قناة CBS، من شأن التقارير بشأن صحة بايدن العقلية، واصفة إياها "بالسخيفة"، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك بوست الأمريكية.

لكن دفاع جيل بايدن وباقي المسؤولين الكبار في إدارة زوجها عن صحته العقلية يبدو غير مقنع لنحو 50% من الناخبين الأمريكيين، الذين عبروا في أكثر من استطلاع رأي عن قناعتهم بأن جو بايدن "غير مؤهل من ناحية صحته العقلية" للقيام بدوره كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية.

وحتى تكتمل دائرة الشك في صحة بايدن، جاء رده على سؤال بشأن احتمال سعيه للفوز بفترة رئاسية ثانية، أي الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة 2024، قال بايدن إنه سوف يترشح بالفعل إذا كان "في صحة جيدة". الإجابة منطقية تماماً بالطبع، خصوصاً أن الرجل أكمل عامه الـ79 في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أي أنه سيكون تجاوز 82 عاماً عندما يحين موعد تلك الانتخابات. لكن في ظل الجدل حول "صحته العقلية"، تسببت تلك الإجابة في سكب الوقود على نيران مستعرة أصلاً، واتخذها خصومه دليلاً آخر على "الخرف".

وعود بايدن تنكسر على صخرة الانقسام

وإذا نحينا "صحة بايدن" والجدل بشأنها جانباً، لنواصل التقليب في صفحات عامه الأول في البيت الأبيض، لوجدنا تلك الصفحات تسطر مزيداً من الصعوبات والتحديات والأحزان كذلك. ففي خطابه بمناسبة مرور المائة يوم الأولى من رئاسته، كشف بايدن عن مشروعه الضخم للبنية التحتية في الولايات المتحدة، والذي تخطت ميزانيته الأولية 3 تريليونات دولار، بهدف خلق عشرات الملايين من فرص العمل وإعادة خطوط الإنتاج إلى الداخل وإنعاش الاقتصاد والهدف الأساسي لكل ذلك هو استعادة زمام المبادرة في المنافسة مع الصين ومبادرة الحزام والطريق الخاصة بالرئيس شي جين بينغ.

لكن خطة الرئيس بايدن الطموحة ارتطمت ولا تزال بصخرة الانقسام والاستقطاب المسيطرة على الكونغرس والمجتمع بشكل عام، بل تخطى الأمر تلك الصخرة نفسها ووجد بايدن معارضة لأجندته الكبرى من جانب بعض من أنصاره، أي مشرعين من الحزب الديمقراطي نفسه.

وبعد أن كان الرجل يأمل في أن تساهم تلك الخطة الضخمة في تحقيق عدد كبير من الأهداف، انتهى العام ولم تصل الخطة إلى مرحلة التصويت داخل الكونغرس من الأساس، وتم الإعلان عن ترحيلها إلى العام المقبل.

والأمر نفسه يتعلق بوعد بايدن تشكيل لجنة وطنية تعمل على إصلاح القوانين المنظمة لعمل الشرطة في البلاد، على خلفية الحركة الاحتجاجية الضخمة ضد العنصرية "حياة السود مهمة" والتي اندلعت في صيف 2020 بسبب مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي على يد رجل شرطة أبيض بطريقة بشعة.

فقد بدأ بايدن رئاسته، كخليفة لدونالد ترامب، على أساس حزمة وعود قدمها للأمريكيين تهدف إلى استعادة دور الحكومة الفيدرالية اقتصادياً واجتماعياً وفرض الأمن وإصلاح تشريعي لمحاربة العنصرية، لكن شيئاً من هذا لم يتحقق، فالوباء ما زال متفشياً بصورة خطيرة والاقتصاد منكمش والشرطة تعمل بنفس الطريقة، وحتى درة التاج في رئاسته "إعادة بناء أفضل" أعلن جو مانشين السيناتور الديمقراطي والحليف لبايدن معارضته لها الأحد 19 ديسمبر/كانون الأول ليصبح مصيرها في مهب الريح، بحسب تقرير لمجلة Politico جاء عنوانه لافتاً بمناسبة العام "بايدن وعد بالكفاءة والنظام، لكن الفوضى والشكوك تنتصران".

هذه المؤشرات على مدى "عجز" الرئيس عن تحقيق الكثير من وعوده تجسدت بصورة عملية في أول انتخابات هامة تشهدها الولايات المتحدة في عام بايدن الأول، إذ حقق الجمهوريون انتصارات مفاجئة في انتخابات ولايات هامة أبرزها فيرجينيا، وذلك في يوم الانتخابات الكبير 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

وشهد عدد من الولايات انتخابات على مقعد حاكم الولاية وعمدة المقاطعة، كان أبرزها في فيرجينيا، فيما يعرف بالثلاثاء الكبير، وهي أكبر عملية انتخابية في البلاد منذ انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وقبل عام من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ.

وتنافس الديمقراطي تيري ماكوليف والجمهوري غلين يونغكين على منصب حاكم ولاية فيرجينيا، الواقعة في شرق البلاد، والتي فاز الديمقراطيون في جميع الانتخابات فيها (رئاسية وبرلمانية) على مدى السنوات الثماني الماضية، وفاز فيها بايدن على ترامب في الانتخابات الأخيرة بفارق 10 نقاط كاملة.

ونظراً لأهمية هذه الانتخابات، فإن بايدن حضر فيها مرتين بنفسه للدعاية لصالح أحد رموز الحزب الديمقراطي في الولاية ماكوليف (حاكم الولاية السابق والطامح إلى فترة ثانية غير متتالية)، في مواجهة يونغكين، المرشح الجمهوري عديم الخبرة السياسية ورجل الأعمال البالغ من العمر 55 عاماً.

وكان من المتوقع أن يحقق ماكوليف فوزاً مريحاً في سباق حاكم فرجينيا، لكن النتيجة حملت أخباراً سارة ليونغكين والجمهوريين ولترامب بطبيعة الحال، إذ فاز المرشّح الجمهوري على حليف بايدن الديمقراطي، مما أدى إلى تبادل الديمقراطيين الاتهامات حول سبب الهزيمة ونال بايدن نصيب الأسد من الانتقادات، حتى إنه خرج ليدافع عن نفسه.

الانسحاب من أفغانستان

عام 2021 كان عاماً سيئاً بالنسبة لبايدن على المستوى الداخلي. لكن المدافعين عنه يرجعون ذلك بالأساس إلى الظروف التي خلفتها رئاسة ترامب "الكارثية" وأن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت كي تعود الأمور إلى طبيعتها. فماذا عن صورة الولايات المتحدة خارجياً، وهل نجح بايدن في إصلاح ما أفسده ترامب، ولو جزئيا، خلال عامه الأول في المكتب البيضاوي؟

الصورة بألف كلمة، كما يقولون. ولا شك أن صورة، أو بالأحرى، صور الولايات المتحدة حول العالم جاءت معبرة في أغلب الأحيان. فقرار الانسحاب من أفغانستان على الطريقة البايدنية، على سبيل المثال، يصلح كحالة دراسة عن عام بايدن الأول في السلطة. قرار الانسحاب من أفغانستان كان ترامب قد اتخذه بالفعل ووقع اتفاقا بين الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكا من جهة وبين حركة طالبان من جهة أخرى، وذلك في العاصمة القطرية الدوحة، يقضي بانسحاب كامل القوات الأجنبية من أفغانستان بنهاية أبريل/نيسان 2021.

بايدن، الذي كان قد انتقد اتفاق ترامب، أعلن عن الحاجة لمزيد من الوقت لترتيب عملية الانسحاب، ولضمان صمود الحكومة الأفغانية في مواجهة حركة طالبان. ولم يجر بايدن مفاوضات مع الأطراف الأفغانية أو الحلفاء، وأعلن من البيت الأبيض أن القوات الأمريكية ستكمل انسحابها من أفغانستان قبل 11 سبتمبر/أيلول 2021، تزامناً مع الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول 2001 التي أوقعت نحو 3 آلاف قتيل وتبنتها القاعدة.

أعلن بايدن قراره بالانسحاب نهائياً من أفغانستان يوم 14 أبريل/نيسان 2021، أي أن نحو أربعة أشهر ونصف فصلت بين الإعلان والتطبيق للانسحاب، كانت أكثر من كافية كي يتم ذلك الانسحاب بصورة منظمة ومنسقة مع جميع الأطراف، خصوصاً أن قرار الانسحاب نفسه يعتبره الجميع، باستثناء جنرالات البنتاغون وأصحاب شركات السلاح، سليماً تماماً وتأخر سنوات طويلة بغض النظر عن مدى مشروعية الغزو نفسه.

لكن ما حدث بالفعل كان شيئاً "مهيناً" لأمريكا ولجيشها ولصورتها كقوة عالمية مهيمنة بشكل عام، وذلك الوصف ليس صادراً عن خصوم واشنطن بل جاء على لسان رئيسها السابق دونالد ترامب. وعلى مدى عدة أيام، ظل مطار كابول محط أنظار العالم بينما تهرول الطائرات الأمريكية لإكمال عمليات الإجلاء، وسط "مناشدات" من مسؤولين أمريكيين لقادة طالبان، الذين عادوا لحكم البلاد مرة أخرى، للسماح بتمديد المهلة لأسبوعين دون جدوى.

وكشفت تقارير أقرب حلفاء واشنطن من أعضاء حلف الناتو عن غياب تام للتنسيق معهم من جانب الأمريكيين، وكيف أن طريقة تنفيذ الانسحاب من جانب القادة الأمريكيين قد اتسمت بالسرية والتصرف المنفرد، مما أربك الحلفاء والحكومة الأفغانية وتسبب في تلك المشاهد الفوضوية التي ظلت ولا تزال حديث العالم بأسره.

بايدن وترامب وجهان لعملة واحدة!

لطالما وجه بايدن وفريقه انتقادات عنيفة لترامب بسبب قراراته المتقلبة وعدم احترامه لبروتوكولات السياسة الخارجية الراسخة في التعامل مع الحلفاء ومع الخصوم أيضاً، لكن عام بايدن الأول كشف عن تشابه لا يمكن تجاهله بين الرئيسين الحالي والسابق في طريقة إدارة الأمور، بحسب كثير من المراقبين والمحللين.

وربما كان الانسحاب الفوضوي من أفغانستان واحداً من أبرز الأدلة على هذا التشابه بين بايدن وترامب، إذ شبهه كثير من الخبراء العسكريين بما أقدم عليه ترامب بإعلان قراره سحب القوات الأمريكية من سوريا. لكن الإعلان عن اتفاقية "أوكوس" بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا كان دليلاً أكثر فجاجة، بحسب رد الفعل الفرنسي.

فالإعلان عن تلك الاتفاقية، بعيداً عن هدفها الرئيسي في محاصرة الصين، إلا أنه بالنسبة لفرنسا كان يعني شيئاً واحداً وهو إلغاء أستراليا صفقة غواصات ضخمة كانت قد اتفقت عليها مع فرنسا، لتستبدلها بغواصات نووية من أمريكا وبريطانيا. وبالتالي لم يتأخر رد الفعل الفرنسي على ذلك الإعلان من جانب الدول الثلاث، إذ وصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ما حدث بأنه "طعنة في الظهر"، ووصف ما أقدم عليه بايدن بأنه تصرف من نوعية تصرفات سلفه في البيت الأبيض دونالد ترامب.

وقال لودريان في تصريحات بثتها إذاعة فرانس إنفو: "هذا القرار الجائر الأحادي وغير المتوقع يذكرني كثيراً بما كان يفعله السيد ترامب". وأضاف: "أشعر بالغضب والمرارة، هذا أمر لا يحدث بين الحلفاء".

ووصلت الأمور إلى حد استدعاء فرنسا سفيرها لدى الولايات المتحدة للتشاور، قبل أن يتراجع إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي ويقرر إعادة السفير بعد مكالمة هاتفية من بايدن، لكن الشرخ العميق في الثقة تسبب بالفعل في أضرار تخص حلف الناتو ومدى تماسكه ربما لا يمكن إصلاحها مرة أخرى، بحسب كثير من المحللين.

الاتفاق النووي الإيراني

كان بايدن قد جعل من إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني درة التاج في سياسته الخارجية في الشرق الأوسط. فالاتفاق بين إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، خطة العمل الشاملة المشتركة، تم توقيعه عام 2015 بهدف وضع برنامج طهران النووي تحت الرقابة الشاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية مقابل رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية، لكن ترامب انسحب منه عام 2018 وأعاد تفعيل العقوبات وتشديدها بصورة غير مسبوقة.

وظل بايدن وإدارته يحاولون إقناع الإيرانيين بالعودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي أولاً قبل رفع العقوبات دون جدوى لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، وبدأت المفاوضات النووية في العاصمة النمساوية فيينا في أبريل/نيسان 2021 حتى يونيو/حزيران دون التوصل لاتفاق.

توقفت المفاوضات حتى 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 ليفاجأ الأمريكيون والوفود الغربية بأن إيران رفعت سقف مطالبها بصورة وصفها دبلوماسيون غربيون "بالاستفزاز"، وها هو عام 2021 ينتهي بينما يجد بايدن نفسه في مأزق حقيقي مع مطلع 2022. فالتقارير الغربية تقول إن إيران اقتربت كثيراً من "العتبة النووية"، أي القدرة على إنتاج سلاح نووي، ويقدرون الفترة الزمنية بأشهر قليلة وربما أسابيع، على الرغم من أن طهران تنفي طوال الوقت السعي لامتلاك قنبلة نووية.

ووسط إصرار إيران على أن تربع إدارة بايدن العقوبات أولاً وتدفع مليارات الدولارات كتعويض عن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وتريد ضمانات قانونية ملزمة بأن واشنطن لن تنسحب مرة أخرى من الاتفاق، يجد بايدن نفسه دون أوراق ضغط يمكنه توظيفها لتحقيق هدفه الأساسي وهو إعادة إحياء الاتفاق النووي، باستثناء التهديد بالذهاب إلى خيار ضرب المنشآت النووية لطهران، وهو ما يقول الخبراء إنه خيار غير مجدٍ.

يواجه بايدن ضغوطاً من إسرائيل للذهاب إلى الخيار العسكري، لكنه يرفع شعار الدبلوماسية، وقالت تقارير إعلامية إن الرئيس الأمريكي يرفض الرد على اتصالات رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ بداية ديسمبر/كانون الأول، وأرسل مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان إلى إسرائيل "لمناقشة" نووي إيران وعرض سيناريوهات متعددة للتعامل معه.

هذه المعطيات تشير إلى أن عام 2022 ربما يحمل للرئيس بايدن تحديات أكثر صعوبة مما واجهه خلال العام المنقضي، فهل ينجح في إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران قبل فوات الأوان؟ وهل يستطيع إقناع الإسرائيليين بالتوقف عن إشعال الأمور من خلال التهديدات الموجهة لطهران واستهداف منشآتها النووية بهجمات سيبرانية؟ وكيف سيكون السيناريو البديل في حال فشل الدبلوماسية؟ كلها أسئلة تحملها الأيام الأولى من عام 2022 وتلقي بها على مكتب بايدن ليجد لها إجابات، فهل يستطيع؟

روسيا وأزمة أوكرانيا

من الشرق الأوسط، حيث يسعى بايدن لإيجاد مخرج من الحفرة التي حفرها له ترامب بشأن ملف إيران النووي، إلى أوروبا، حيث حفرة أعمق حفرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظيره الأمريكي، على طول الحدود الروسية-الأوكرانية البالغة 402 كيلو متر. إذ شهد النصف الثاني من عام 2021 تصعيداً عسكرياً بين روسيا وأوكرانيا، سببه الرئيسي بعيداً عن جذوره التاريخية يرجع إلى "الخط الأحمر"، الذي قرر بوتين أن الوقت بات مناسباً له كي يرسمه للولايات المتحدة ولحلف الناتو، بشأن التوسع شرقاً والاقتراب أكثر من حدود روسيا.

وترجع قصة الخط الأحمر إلى وعد قدمته واشنطن لموسكو قبل ثلاثة عقود، عندما تفكك الاتحاد السوفييتي، مفاده عدم ضم حلف الناتو أياً من دول شرق أوروبا، ومن ثم نشر قوات وأنظمة تسليح في تلك الدول، لكن واشنطن والناتو لم يلتزما بذلك الوعد، حيث تم ضم كثير من دول أوروبا الشرقية للحلف، لتتم إزاحة ذلك الخط الأحمر بمقدار أكثر من 950 كيلومتراً ناحية الشرق، بالقرب من روسيا.

ولا يمكن القول إن الأزمة الحالية على الحدود الروسية-الأوكرانية وليدة اللحظة، أو حتى جديدة من نوعها، فعام 2014 شهد أزمة مماثلة انتهت بضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ما تسبب في فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية من الغرب على روسيا. ومع ذلك ظلت الأوضاع مشتعلة ولنفس الأسباب، فروسيا لا تعتبر أوكرانيا دولة مستقلة، بل تنظر إليها على أنها امتداد لروسيا القيصرية، خصوصاً أن الأقاليم الشرقية من أوكرانيا تتحدث الروسية، ويعتبر أغلب سكانها أنفسهم روساً أكثر من كونهم أوكرانيين.

لكن هذه المرة عبّر الدب الروسي بشكل علني عما يريده، وهو ضمانات قانونية يقدمها بايدن تنص على أن حلف الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته في أي وقت من الأوقات، وهي ضمانات يقول بايدن إنه لا يمكن أن يقدمها، كما أعلن ساكن البيت الأبيض أنه "لا يقبل خطوطاً حمراء" من أحد. وفي المقابل، لا يبدو أن بوتين قد يتراجع عن مطالبه، وتواصل روسيا حشد المزيد من قواتها العسكرية على حدود أوكرانيا، ما يضع أوروبا في حالة من القلق الشديد، خشية إقدام موسكو على الغزو بالفعل.

وهكذا يجد بايدن نفسه في مواجهة أزمة أخرى لا تضع فقط رئاسته على المحك، بل ستكون لها تأثيرات وتداعيات خطيرة على الوضع الدولي للولايات المتحدة، والذي لا يمر بأفضل فتراته على أقل تقدير. فهل يرضخ بايدن لمطالب بوتين بشأن أوكرانيا ليجنب أوروبا وربما العالم حرباً لا أحد يعلم أين قد تصل شظاياها؟ أم يكتفي الرئيس الأمريكي بالانتظار حتى يغزو بوتين إقليم دونباس الأوكراني ويضمه إلى الاتحاد الروسي كما فعل مع القرم، ومن ثم يفرض عقوبات اقتصادية كما حدث عام 2014، حتى وإن كانت عقوبات أكثر قسوة؟ لا أحد يمكنه التكهن بما قد تسفر عنه أزمة أوكرانيا في نهاية المطاف، لكن المؤكد أنه يمثل اختباراً من العيار الثقيل للرئيس الأمريكي، قد يضطر للإجابة عنه مطلع 2022.

الصين اختبار آخر أكثر صعوبة على بايدن

كان اعتبار الصين المنافس الأقوى للولايات المتحدة أحد الملفات القليلة، بل ربما يكون الملف الوحيد في السياسة الخارجية، التي اتفقت فيها إدارة بايدن مع إدارة ترامب، إذ شهدت رئاسة ترامب حرباً تجارية بين واشنطن وبكين، ووصلت في عام ترامب الأخير العلاقات بين البلدين إلى نقطة متدنية للغاية، على خلفية اتهام الرئيس السابق الصين بأنها "خلقت فيروس كورونا في المعمل" وصدرته إلى الولايات المتحدة والعالم!

وهكذا تسلم بايدن رئاسته واضعاً الصين أمامه كخصم، وكرر اتهامات ترامب فيما يخص فيروس كورونا، لكن الفرق بينهما هو أن بايدن أراد أن يثبت التهمة على بكين فأعطى أجهزته الاستخباراتية مهلة 3 أشهر، لتقديم دليل دامغ على أن فيروس كورونا ناتج عن تسريب من معمل ووهان وليس فيروساً طبيعياً. انتهت المهلة ولم يقدم الأمريكيون أدلة، بينما نجحت الصين إلى حد كبير في تغيير الرواية وتحويل الأنظار إلى الأمريكيين فيما يتعلق بالفيروس، وفشلت محاولات تشكيل لجنة تحقيق جديدة لتقف على حقيقة الفيروس.

وأصبحت الحرب الباردة بين بكين وواشنطن أمراً واقعاً، لا يقتصر فقط على الحرب التجارية أو أصل الفيروس. فالصين باتت تتحكم في الشرق الأوسط وفي إفريقيا، من خلال الاستثمارات الضخمة، في إطار مبادرة الحزام والطريق، على عكس الانكماش الأمريكي وتراجُع النفوذ بشكل واضح في تلك المناطق.

واستغلت الصين الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان لتسخر من مدى التزام واشنطن بتعهداتها مع حلفائها، وفي الوقت نفسه رفعت بكين من درجة الاستعداد للانقضاض على تايوان وإعادة توحيدها مع البر الرئيسي، وهو التحدي الأخطر الذي قد يجد بايدن نفسه في مواجهته خلال عام 2022.

كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أن استعادة الجزيرة ستتم في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.

ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول، إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً من ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يُلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.

وخلال القمة الافتراضية التي جمعت بايدن ونظيره الصيني شين جين بينغ، بعد أشهر من محاولات فريق بايدن إقناع شي بعقد قمة وجهاً لوجه دون جدوى، قال شي لبايدن إن بلاده ستضطر لاتخاذ "تدابير حازمة" إذا تجاوزت القوى المؤيدة لاستقلال تايوان "الخط الأحمر"، مضيفاً: "تتحلى الصين بالصبر وتسعى لإعادة وحدة سلمية بكل إخلاص ودأب، لكن إذا أقدم المؤيدون لانفصال تايوان على استفزازات أو تجاوزوا الخط الأحمر فسنضطر لاتخاذ إجراءات حاسمة".

الرسالة واضحة ولا تحتاج لتفسير، فهل يشهد عام 2022 إقدام شي على تلك "الإجراءات الحاسمة"، والتي تعني باختصار غزو تايوان وفرض إعادة التوحيد بالقوة، وإذا حدث ذلك كيف سيكون رد الفعل الأمريكي؟ الإجابة ببساطة لا توجد حلول ممكنة، بحسب أغلب الخبراء العسكريين.

وبخلاف اختبار تايوان، يواجه بايدن أيضاً اختبارات لا تقل صعوبة وخطورة تتعلق بالاقتصاد، بعد أن تجاوز الاقتصاد الصيني أو كاد نظيره الأمريكي، والتكنولوجيا، بعد أن باتت الصين رائدة في مجال تقنيات الجيل الخامس، وانعكاس ذلك التفوق الصيني على علاقات أمريكا مع حلفائها التقليديين حول العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط.

الإمارات، التي كانت تحلم بالحصول على الطائرة إف 35 الشبحية الأمريكية، وأقدمت على إعلان التطبيع مع إسرائيل في إطار صفقة للحصول على تلك الطائرة، هددت إدارة بايدن بوقف المناقشات حول إتمام الصفقة، والسبب الضغوط الأمريكية على أبوظبي لطرد شركة هواوي الصينية من البلاد. وهذا الإجراء من جانب الإمارات يكشف مدى دقة الموقف الذي تواجهه الإدارة الأمريكية في تكوين تحالف ضد الصين. كما فرضت واشنطن أواخر ديسمبر/كانون الأول 2021، عقوبات على شركات صينية بسبب تعاملات لها مع السعودية في المجالات العسكرية.

وترسم هذه الأجواء صورةً قاتمة بشأن التحديات التي ربما يجد بايدن نفسه محاطاً بها مع مطلع عام 2022، خاصةً أنه عام حاسم في رئاسته؛ إذ سيشهد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وهو ما يعني أن كل إخفاق في أي من تلك الملفات قد يكلف الديمقراطيين أغلبيتهم الهشة في مجلسي النواب والشيوخ، ومن ثم يقضي بايدن ما تبقى من رئاسته محاصراً بالجمهوريين في مبنى الكابيتول، ممهداً الطريق لأن تكون رئاسته فترة واحدة على غرار سلفه ترامب.