المشهد الأول

في ساعة متأخرة من مساء ليلة صيفية عام 2017 وقف محمد بن سلمان وحده يتطلع نحو مدخل القاعة ثم تهللت أساريره ورحّب بالمبايع القادم: "يا هلا"، وهرول ناحيته مقبلاً يده ثلاثاً ثم انحنى مقبلاً ساقه تعبيراً عن بالغ الاحترام والتقدير، والشخص الذي يلقى كل ذلك الترحاب والتقدير هو الأمير محمد بن نايف الذي يبايع قائلاً: "أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله في المنشط والمكره إن شاء الله"، ويرد الأمير الشاب: "الله يعزك ويطول عمرك".. ويعلن بن نايف: "أنا برتاح الحين وأنت الله يعينك"، كناية عن ترك منصبه كولي للعهد لابن عمه، وينتهي المشهد بوعد من بن سلمان باستشارة ابن عمه الذي يكبره بـ26 عاماً بقوله: "ما نستغنى عن توجيهاتكم ونصحكم الله يعزك".


المشهد الثاني

على النقيض تماماً من المشهد السابق، فزمان المشهد بالتحديد ليس معلوماً ومكانه كذلك ليس معلوماً، والمؤكد أنه لم يجمع بين ولي العهد السابق وولي العهد الحالي، فقد قرأنا عنه في مارس/آذار 2020، وهو مشهد القبض على محمد بن نايف.. ومدة المشهد مفتوحة زمنياً، ولا أحد يعرف على وجه اليقين سبب القبض عليه ولا التهمة الموجهة إليه، والتقارير تتحدث عن أنه حلقة في صراع العرش الذي بدأ منذ تولي الملك سلمان الحكم.

تفصل بين المشهدين مدة تقل عن ثلاث سنوات، شهدت هبوطاً وصعوداً في شؤون الحكم في المملكة تجعل المتابعين في حالة لهاث دائم، ويقف وراء كل ذلك محمد بن سلمان الذي يراه البعض قائداً صاحب رؤية ويراه البعض الآخر شاباً نرجسياً مندفعاً يحمل طموحات لا يمتلك مؤهلات تحقيقها.

وما بين مشهدي المبايعة والاعتقال لولي العهد السابق محمد بن نايف، تعلق بالذاكرة أيضاً مشاهد أخرى لا تقل درامية؛ ففي 24 يونيو/حزيران 2018 تم منح المرأة حق قيادة السيارة في السعودية، كما تم منحها حق حضور مباريات كرة القدم، وحضور الحفلات الموسيقية، والعمل في جميع قطاعات الاقتصاد، لكن في إطار الصورة كانت هناك حملة الاعتقالات بحق كثير من الناشطات والنشطاء الذين كانوا يطالبون بنفس الحقوق، ومن بينهم لجين الهذلول، ورغم أن ولي العهد منح المرأة تلك الحقوق في إطار رؤيته 2030، فإنه لم يفرج عن المعتقلين والمعتقلات الذين طالبوا بها.. حتى اليوم!

أيضا وبينما ينظر إلى العالم مندهشاً من التطورات التي تحدث في المملكة، قامت كتيبة اغتيال يقودها أحد رجال ولي العهد بقتل وتقطيع الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية الرياض في إسطنبول ولم يعثر على جثته حتى الآن!.

"في خريف عام 2017، كان السؤال المسيطر على مَن حضروا مؤتمر دافوس الصحراء من أهل المال وأصحاب القرار حول العالم بشأن ولي عهد المملكة الشاب هو: هل هو بالفعل قائد صاحب رؤية سيحرر السعودية من ماضيها المحافظ أم سائق متهور قد يتسبب في حادث قاتل؟"

يرى البعض ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان في سياق، بينما يراه البعض الآخر في سياق مناقض تماماً، ويحمل كل فريق منهما في جعبته معطيات وأدلة تؤيد موقفه؛ فمن يرونه زعيماً صاحب رؤية للمستقبل يستشهدون بالتغييرات الجذرية التي طالت المملكة دينياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بينما يمسك عليه من يرونه مجرد شاب مغرور ومندفع وغير مؤهل صعدت به الصدفة لقمة الهرم في الأسرة الحاكمة.


فمن يكون محمد بن سلمان إذاً.. في التقرير التالي سنحاول الإجابة عن هذا السؤال.

"الإسكندر الأكبر التالي" بالصدفة

يقع ترتيب الملك سلمان بين أبناء عبدالعزيز في المرتبة الـ 25 بين 36، وهو ما يعني أن فرصة وصوله للعرش من الأساس كانت ضعيفة؛ فمن ناحية كان يسبقه  في سباق العرش كثير من الأخوة، ومن ناحية أخرى لم يتولَّ وزارة قوية يتمكن من خلالها من تقوية مركز أبنائه.

والأمر نفسه ينطبق على محمد بن سلمان نفسه داخل أسرة أبيه، فترتيبه السادس بين أولاد سلمان الذكور، ووالدته هي الزوجة الثانية بينما الزوجة الأولى سلطانة بنت تركي السديري التي تنحدر من عائلة قوية وأنجبت 5 أولاد وبنتاً، وهذا يعني باختصار أن محمد بن سلمان قضى طفولته وفترة مراهقته وبدايات شبابه دون أن يلفت انتباه أيٍّ من المتابعين لآل سعود والمهتمين بإقامة علاقات مبكرة مع من يحتلون ترتيباً متقدماً في سلم العرش.

في عام 2001 توفي الأمير فهد أكبر أبناء سلمان فجأة عن 46 عاماً، وبعد عام واحد توفي أخوه أحمد عن عمر 44 عاماً، وكان محمد بن سلمان وقتها في السادسة عشرة من عمره ولازم والده، بينما كان باقي الإخوة غير الأشقاء مشغولين بشؤونهم الخاصة أو بإدارة أعمال الأسرة، وأدى ذلك لزيادة الارتباط بين سلمان وابنه المراهق الذي تلقى تعليمه في الرياض منذ البداية وحتى حصوله على الشهادة الجامعية.

وأصبح محمد ظل أبيه الذي كان أميراً لمنطقة الرياض، ونمت العلاقة بينهما بصورة عميقة ليصبح الشاب صاحب الحضور القوي سر أبيه وموضع ثقته. 

تشكل وعي محمد بن سلمان تجاه باقي العالم من خلال أفلام هوليوود والكارتون الأمريكي والياباني ووسائل التواصل الاجتماعي، كان الأمير يستغرق ساعات طويلة في ممارسة ألعاب الفيديو وكان أول من أصبح مدمناً على فيسبوك بين أقرانه.

وبدلاً من السفر للخارج بغرض الدراسة -مثل باقي أمراء الأسرة المالكة- بقي بن سلمان في الرياض ودرس القانون في جامعة الملك سعود، وتحدث بعض من أقرانه عن شخصيته المسيطرة التي كانت تقود وتوجه المناقشات بين أصدقائه، وحديثه المتكرر عن رغبته في أن يصبح "الإسكندر الأكبر التالي".

"كان (محمد بن سلمان) يتحدث دائماً عن الحكومة وعن رغبته في أن يكون له دور، وكان يريد أن يكون من يتحدث طول الوقت وكان دائماً يريد أن يكون في مقعد القيادة كما كان معجباً للغاية برئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر: "كان دائم الحديث عن المرأة الحديدية وكيف أنها حسنت النظام الاقتصادي لبريطانيا العظمى".

ومن ناحية الثراء، لم يكن محمد بن سلمان من الأثرياء داخل الأسرة الحاكمة، وقد لاحظ أن والده سلمان رغم أنه من الأمراء أصحاب السطوة بحكم أنه أمير الرياض إلا أن ثروته لا تقارن بثروة غيره من الأمراء، وكان لذلك انعكاس لا يمكن تجاهله على التكوين النفسي للأمير الشاب الذي يرى أبناء عمومته يقضون عطلاتهم في العواصم الأوروبية ويعيشون حياة باذخة وينفقون ملايين الدولارات على السيارات والفنادق والملابس وغيرها.

ولما لم يكن لدى محمد بن سلمان تلك القدرة المالية على الرفاهية والبذخ، فقد توجه وهو في سن المراهقة نحو البورصة السعودية، ومع دخوله العشرينات بدأ يركز على بناء ثروته الخاصة، كما يعتقد الوسطاء الماليون في بورصة لندن أنه كان يشتري أسهم الشركات التي توشك على الإفلاس ويساعدها على ارتفاع قيمة أسهمها ثم يبيعها فجأة قبل أن تنهار، وهو أسلوب يسميه خبراء البورصة "الضخ والبيع"، لكنه ليس أسلوباً نادراً أو خاصاً بمحمد بن سلمان بل هي ممارسة معروفة ومنتشرة، ولا يوجد ما يشير إلى كون محمد بن سلمان ضمن أسوأ من مارسوها.


واقعة "أبو رصاصة"

هناك واقعة متداولة ينفيها المسؤولون السعوديون ويعتبرونها شائعة، تقول إن محمد بن سلمان أراد شراء قطعة أرض من رجل أعمال رفض أن يبيعه إياها فضغط بن سلمان على الموظف المسؤول عن تسجيل الملكية كي يسجل عقد بيعها فرفض الموظف لأن ذلك تزوير، فأرسل له بن سلمان مظروفاً في داخله رصاصة (وفي رواية أخرى حول نفس القصة رصاصتان)، فخاف الموظف على حياته واشتكى لمديره الذي رفع الأمر للملك عبدالله، فأخبر الملك أمير الرياض أن "يؤدّب ابنه".

تلك الواقعة تركت أثراً سيئاً في نفس سلمان وخرج منها محمد بلقب "أبو رصاصة"، وبغض النظر عن كون الواقعة شائعة كما يقول المسؤولون السعوديون الآن أو حقيقة كما يصر مروّجوها، فالشاهد هنا أن محمد بن سلمان نجح بالفعل خلال تلك الفترة من حياته في أن تصبح لديه ثروته الخاصة،

حتى ذلك الوقت إذن، لم يكن هناك سبب يدعو أحداً لتصور أن يجد محمد بن سلمان طريقه للعرش، لكنّ حالتي وفاة في الأسرة المالكة اختصرتا طريق سلمان إلى العرش ومعه ابنه الأثير محمد؛ توفيت زوجة سلمان الأولى في يوليو/تموز 2011، ثم أصيب الأمير سلطان بالسرطان وسافر إلى نيويورك للعلاج وصحبه سلمان، وتوفي سلطان فأصبح الأمير نايف ولياً للعهد، لكنه توفي أيضاً عام 2012، فأصبح سلمان ولياً لعهد أخيه الملك عبدالله.

وعندما توفي الملك عبدالله وتولى العرش الملك سلمان، عين ولده المفضل محمد رئيساً للديوان الملكي، وبعد أقل من ثلاثة أشهر أصبح محمد بن سلمان ولياً لولي العهد ثم ولياً للعهد عام 2017، لكن الأمير الشاب أصبح الحاكم الفعلي للمملكة منذ جلس والده على العرش في 23 يناير/كانون الثاني 2015، وجميع القرارات التي اتخذتها السعودية منذ تلك اللحظة تحمل بصمته ورؤيته.


رؤية 2030.. وعود التحول لدولة عصرية

قدم محمد بن سلمان نفسه للسعوديين في الداخل وللرأي العام العالمي من خلال "رؤية المملكة العربية السعودية 2030"، وهي كما سماها "رؤية الحاضر للمستقبل"، والتي ارتكزت على ثلاثة عوامل رئيسية للنجاح: أولها العمق العربي والإسلامي، وثانيها القدرات الاستثمارية الضخمة التي تمثل محركاً للاقتصاد، وثالثها الموقع الجغرافي الاستراتيجي.

منذ اليوم الأول لم تكن الرؤية تتعلق  بالجانب الاقتصادي للمملكة، فالواقع أنه بدأ في عرضها على الرأي العام الغربي أولاً كرؤية شاملة لتحويل المملكة المحافظة إلى دولة عصرية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فقد كان لافتاً أن تختاره مجلة فورين بوليسي الأمريكية ضمن القادة الأكثر تأثيراً في العالم من خلال قائمتها السنوية وكان ذلك عام 2015، أي قبل أن يعلن عن رؤية 2030 بشكل رسمي في السعودية.

وخلال خريف 2017، عقد محمد بن سلمان مؤتمراً اقتصادياً ضخماً دعا إليه أبرز شخصيات عالم الأعمال والاستثمار وصناع القرار حول العالم، للكشف عن فرص الاستثمار الضخمة في المملكة، لكنه أيضاً تحدث بشكل أكثر توسعاً عن رؤيته.

الحدث هنا كان الإعلان عن مشروع "نيوم"، المدينة الترفيهية الأضخم في العالم في قلب الصحراء بالقرب من البحر الأحمر، حيث رجال الأعمال يضعون قوانينها لتحفيز ألمع العقول في العالم للإبداع على الأراضي السعودية، في إطار التخطيط لمستقبل ما بعد النفط والاستفادة من شمس السعودية لتغذية المدينة بأكملها بالطاقة الشمسية وحيث يعمل بها روبوتات أكثر من البشر، بحسب رؤية محمد بن سلمان، والمدينة تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار وستكون مكاناً "للحالمين"، "هي إذن ليست مشروعاً للتنمية الاقتصادية بل هي قفزة حضارية للبشرية".

لكن ما حدث غير ذلك.. تحول وعد الرفاهية إلى تقشف غير مسبوق

بعد أن دخلت رؤية 2030 عامها الخامس، فوجئ السعوديون بقرارات تقشف لم يعهدوها، وفرضت عليهم ضريبة القيمة المضافة، وتم إلغاء بدل غلاء المعيشة لموظفي الدولة، وجاء التبرير أن وباء كورونا وتداعياته هي السبب، لكن القصة كانت قد بدأت قبل الوباء، والسبب المباشر فيها هي قرارات ولي العهد غير المدروسة وآخرها إشعال حرب أسعار النفط مع روسيا، بل إن وكالة بلومبيرغ الأمريكية نشرت تقريراً حول توجيه محمد بن سلمان للقائمين على مشروع "بوابة الدرعية" السياحي والثقافي "بالإسراع وعدم التباطؤ" في المشروع الذي تزيد تكلفته على 20 مليار دولار.

يأتي ذلك رغم تحذيرات خبراء الاقتصاد من أن قرارات التقشف لمواجهة تداعيات الأزمة المزدوجة من انهيار أسعار النفط ووباء كورونا ليست الطريقة الصحيحة للتعامل؛ لأن ذلك سيؤدي إلى زيادة في الأسعار وارتفاع التضخم في المملكة، وهو ما يعني أن وعود ولي العهد بتنويع مصادر الاقتصاد السعودي لم يتحقق أي منها بعد مرور أربع سنوات على إطلاقها.


أرامكو في البورصة الأمريكية!.. لكنها لم تراوح الرياض!

في 4 يناير/كانون الثاني 2016، كشف محمد بن سلمان أن عملاق النفط السعودي أرامكو قد يدرج في البورصة وأن صندوق الاستثمارات العامة سيدير عملية الاكتتاب، ومنذ ذلك الوقت شهدت عملية الطرح الأولي هبوطاً وصعوداً، شأنها شأن جميع قرارات ولي العهد، والتي يرجعها المراقبون إلى طبيعته الشخصية المندفعة من جهة وحجم المعارضة التي يواجهها من جهة أخرى.

وبعد أن كان متوقعاً أن يبدأ الاكتتاب الأوّلي في النصف الثاني من 2018، تأخر طرح أرامكو حتى 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حيث تحول الطرح بعد أن كانت الخطة أن يتم من خلال إحدى البورصات العالمية، أرادها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن تكون بورصة نيويورك، أو لندن، انتهى الأمر بطرح 1.5% من الأسهم في البورصة السعودية، ومع انتهاء فترة الاكتتاب

السجن لمن يجرؤ على المعارضة

الإنسان حبيس عاداته ويميل بطبعه للتمرد على التغيير، فالطبيعي إذاً أن تلقى تحولات اجتماعية وثقافية ودينية بهذا الحجم معارضة ومقاومة داخل مجتمع محافظ ومنغلق على ذاته كالمجتمع السعودي، وهنا يأتي رد الفعل العنيف من جانب ولي العهد والمتمثل في قمع معارضيه واعتقالهم وتحويلهم للمحاكمة في ظل نظام قضائي يتسم بسرية إجراءاته ويتعرض لانتقادات دائمة من المنظمات الحقوقية الدولية.

وفي هذا السياق تأتي محاكمة الداعية سلمان العودة بين 20 شخصاً تم اعتقالهم منتصف سبتمبر/أيلول 2017، بينهم كتّاب وصحفيون، في سياق حملة قمع استهدفت معارضين لطريقة إدارة ولي العهد للمملكة، وتجري محاكمتهم أمام محكمة الجزاء المختصة، وهي المحكمة الخاصة بقضايا الإرهاب، على الرغم من أن المتهمين ليسوا أعضاء في تنظيمات إرهابية ولم توجه لهم تهم تتعلق بالإرهاب بل هم ببساطة معارضون لسياسات ولي العهد.

لكن قمع المعارضين لسياسات ولي العهد لم يقتصر على فئة بعينها ولم يأخذ شكلاً أو نمطاً محدداً، فمن الناشطين والناشطات المطالبين بحقوق المرأة، لأمراء آل سعود المعارضين لتحكم محمد بن سلمان في جميع مصادر القوة والثروة في المملكة، خروجاً على تقاليد الحكم القائمة على التوازن بين أمراء آل سعود، وصولاً إلى التجسس على الهواتف والحسابات الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي، لكن جريمة اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول مطلع أكتوبر/تشرين الأول كانت نقطة فاصلة في نظرة الخارج والداخل لولي العهد وأدت لتكبيل حركته بصورة لافتة، وصلت إلى حد الحديث عن إمكانية إزاحته من ولاية العهد، بحسب تقارير إعلامية غربية عديدة وقتها.


واقعة الريتز كارلتون وصراع العرش

"بعد أسبوعين فقط من مؤتمر دافوس الصحراء، طفت على السطح حقيقة قاسية، فقد قام ولي العهد "الإصلاحي" باعتقال المئات من أمراء وأغنياء المملكة ووضعهم رهن الإقامة الجبرية في فندق الريتز كارلتون في الرياض ليحوله إلى سجن خمس نجوم"، في إطار حملة مكافحة الفساد بحسب البيانات الرسمية، لكن كواليس الضربة التي تحمل بصمات محمد بن سلمان أشارت بوضوح إلى صراع العرش ووجود معارضة ليست هينة لصعوده الصاروخي.

وتزامنت حملة الاعتقالات تلك مع احتجاز رئيس وزراء لبنان وقتها سعد الحريري وإجباره على إعلان استقالته من الرياض، وهو ما جاء في سياق ربما يبدو خارجياً وهو الصراع مع إيران، لكن التصرف ذاته يحمل نفس البصمات وطريقة التعامل مع المعارضين أو حتى المختلفين في الرأي والرؤية سواء كان ذلك في شأن داخلي أو في علاقات خارجية مع دول أخرى ذات سيادة، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة حول رؤية الأمير لقدراته وما يمكنه أن يفعله.


"يكافح الفساد".. لكن إلا الاقتراب من ثروته!

وبينما كانت الاعتقالات تتم، جرى الإعلان عن تأسيس هيئة مكافحة الفساد برئاسة محمد بن سلمان، على الرغم من أن ثروته نفسها ومصدرها غير معلومين، لكن المعروف منها هو أنه اشترى يختاً بقيمة نحو نصف مليار دولار، وقصره بفرنسا الموصوف بأنه أغلى منزل في العالم، ولوحة ليوناردو دا فينشي التي دفع فيها أكثر من 450 مليون دولار، فمن أين لولي العهد الذي يكافح الفساد كل تلك الأموال وهو لم يكن أبداً من بين أثرياء آل سعود؟

القصة إذاً لم تكن مكافحة الفساد، رغم أن ولي العهد استولى من نزلاء الريتز على أكثر من 100 مليار دولار قبل إطلاق سراحهم، في إطار تسويات أطلق عليها إعادة ما استولوا عليه من أموال المملكة، لكنها كانت بداية ظهور صراع العرش إلى الواجهة رغم أن كل ما حدث ويحدث حتى الآن يمكن اعتباره قمة جبل الجليد.


السقوط في مستنقع اليمن

يعد المثال الأبرز على التحول الجذري الذي طرأ على السياسة الخارجية للمملكة هو حرب اليمن التي شنتها السعودية في مارس/آذار 2015، على الرغم من أن انقلاب الحوثيين على الحكومة الشرعية كان قد وقع في عام 2014، ويرى كثير من المراقبين الغربيين أن قرار الملك سلمان تعيين نجله وزيراً للدفاع منذ اليوم الأول لجلوسه على العرش كان بسبب الموقف في اليمن.

وتحدث كثيرون عن دوافع محمد بن سلمان من وراء الحرب اليمن والتي تمثلت في اعتقاده الراسخ بقدرة التحالف السعودي عسكرياً على هزيمة الحوثيين المدعومين من طهران وإعادة الحكومة الشرعية إلى صنعاء في مدة قصيرة وأطلق على العملية "عاصفة الحزم"، لكن أثبتت الأيام والسنين أن حسابات ولي العهد كانت خاطئة فتحولت عاصفة الحزم إلى حرب تخطت عامها السادس كبدت المملكة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات وتسببت في أسوأ كارثة إنسانية في العالم في العقود الأخيرة بحسب تقارير الهيئات الدولية.

في الوقت نفسه نجد أن الهجمات الصاروخية التي تعرضت لها منشآت أرامكو النفطية منتصف سبتمبر/أيلول 2019، جاءت بمثابة تذكير لولي العهد بأنه ربما يبالغ في تقدير القدرات العسكرية للمملكة من ناحية وفي التقليل من الخطر الإيراني من ناحية أخرى؛ بل أصبحت المحافظات السعودية المجاورة لليمن مستباحة أمام الضربات الصاروخية والمدفعية للحوثيين، ووصلت الهجمات إلى الرياض ذاتها وتم استهداف منشآت أرامكو، فأين وعود ولي العهد بنقل "الحرب إلى داخل إيران"؟


حصان طروادة للإمارات

وربما تكون علاقة محمد بن سلمان مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد من أكثر الأمور التي تظهر ملمحاً مهماً في شخصية ولي عهد السعودية، انطلاقاً من ملف واحد فقط على الأقل وهو حرب اليمن؛ فقد كانت الإمارات الحليف الرئيسي للسعودية في تحالف دعم الشرعية، لكن اتضح لاحقاً أن أهداف محمد بن زايد كانت مختلفة تماماً عن هدف محمد بن سلمان، بل يمكن القول إن الأهداف الإماراتية تناقض هدف الحرب وهو "إعادة الشرعية لليمن"، فمحمد بن زايد أراد منذ البداية مساعدة الانفصاليون ين الجنوبيين على إعادة تأسيس جمهوريتهم الجنوبية، بهدف إحكام السيطرة على الموانئ اليمنية للتحكم في باب المندب، فكيف لم ينتبه محمد بن سلمان لتلك الحقيقة منذ اللحظة الأولى؟

وعن العلاقة بين بن سلمان وبن زايد، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في يونيو/حزيران 2019 تقريراً بعنوان "أقوى حاكم عربي ليس بن سلمان، بل بن زايد"، رصدت فيه كيف يستغل ولي عهد أبوظبي طموحات واندفاع محمد بن سلمان بغرض تنفيذ أغراض ولي عهد أبوظبي الخاصة والمتمثلة في اتجاهين رئيسيين: الأول هو محاربة الإسلام السياسي بشكل عام وجماعة الإخوان بشكل خاص، والثاني هو أن تصبح أبوظبي اللاعب الإقليمي الرئيسي من خلال دعم الديكتاتوريين العسكريين في الدول العربية التي تشهد حراكاً سياسياً.

محمد بن سلمان إذاً الطامح إلى تحويل المملكة العربية السعودية تحت قيادته إلى دولة عصرية وقوة إقليمية ذات نفوذ، وجد نفسه بمثابة حصان طروادة الذي استخدمه محمد بن زايد في اليمن لتحقيق أغراضه الخاصة، دون أن تدخل الإمارات في مواجهة عدائية مفتوحة مع طهران، ثم الانسحاب المفاجئ من حرب اليمن بعد أن تزايدت الانتقادات الدولية وبدأت تتحول إلى عقوبات وحرمان من السلاح لدى بعض العواصم الغربية.


محمد بن سلمان يقدم نفسه للغرب.. زعيماً إصلاحياً

يمكن اعتبار عام 2018 عاماً مفصلياً في سباق السرعة الذي يخوضه ولي العهد لإحكام قبضته على مقاليد الحكم في المملكة، ومن أجل ذلك كانت جولاته الخارجية للعواصم الغربية أشبه ما تكون برحلات مكوكية سريعة الإيقاع مزدحمة اللقاءات مع الزعماء وكبار رجال الأعمال وقادة الشركات العملاقة، وبصفة خاصة زيارته إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

كانت زيارة محمد بن سلمان الولايات المتحدة في مارس/آذار 2018 بمثابة التقديم الرسمي للزعيم السعودي للمجتمع الأمريكي سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، فقد زار 5 ولايات أمريكية والتقى ثلاث رؤساء أمريكيين سابقين بخلاف لقائه مع ترامب في البيت الأبيض، كما التقى مع جيف بيزوس مؤسس أمازون ومارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك وزار هوليوود وأجرى مقابلات مع القنوات والصحف الأمريكية الكبرى، شرح خلالها ما يحدث من انفتاح في المجتمع السعودي وخطة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح الثقافي، كما استفاض في شرح الموقف السياسي في المنطقة مركزاً على التغلغل الإيراني في الدول العربية ومخاطر الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما مع طهران.

قد يرى البعض أن الاستقبال الإيجابي من مجتمع المال وشركات التكنولوجيا في وادي السيليكون لمحمد بن سلمان سببه الوحيد هو المال السعودي الوفير الذي يطمع هؤلاء في الحصول على حصة منه، وهم على الأرجح محقون، لكن شخصية ولي العهد نفسه وحديثه عن "محاربة الإرهاب" وتفكيك منابعه من خلال محاربة التطرف ودعم "الإسلام المعتدل" ومنح المرأة حقوقها والوقوف في وجه إيران كلها عوامل ساهمت في رسم صورة إيجابية في الغرب عن الزعيم الواعد الذي يحمل رؤية تحررية تقترب كثيراً من أفكار العولمة والانفتاح، فلم يحدث أن قام ولي للعهد بزيارة هوليوود من قبل على أي حال.


زلزال اغتيال جمال خاشقجي

 لم يمر عام الاحتفاء الغربي بمحمد بن سلمان قبل أن يحدث الزلزال وهو  اغتيال الصحفي السعودي  جمال خاشقجي دخل القنصلية السعودية في إسطنبول يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول 2018، ولمدة أسبوعين تقريباً غيرت الحكومة السعودية روايتها لما حدث له من الادعاء بأنه غادر القنصلية إلى الاعتراف بأن فريقاً من "القتلة المارقين" بينهم نائب رئيس المخابرات السعودية أحمد العسيري نفذوا الجريمة، وأحالتهم للمحاكمة.

بشاعة الجريمة من حيث التخطيط والتنفيذ لم تكن السبب الوحيد لتحولها إلى قضية رأي عام عالمي، بل يمكن القول إن شخصية محمد بن سلمان نفسها ورغبته في الظهور على المسرح الدولي كزعيم شاب يحارب "الإرهاب" ويحقق إصلاحات غير مسبوقة في المملكة الغنية بالنفط ساهم في تسليط الأضواء بنفس قدر مساهمة بشاعة جريمة قتل وتقطيع أوصال إنسان على أيدي فريق اغتيال يعمل لدى حكومة بلاده وعلى أرض دولة ثالثة هي تركيا.

وعلى الرغم من نفي محمد بن سلمان أنه أعطى أمر اغتيال خاشقجي، وتحمله المسؤولية السياسية عن الجريمة بعد وقوعها بشهور طويلة، فإن توابع زلزال اغتيال خاشقجي لا تزال حاضرة حتى اليوم، رغم أن حدتها بدأت تخفت بالتأكيد.

فالغرب الذي هرول لاحتضان الزعيم الشاب صاحب الرؤية العصرية، لم يتوقف كثيراً عند حرب اليمن في البداية فسببها دعم الشرعية من ناحية والدفاع عن النفس ضد التوغل الإيراني من ناحية أخرى، لكن جريمة اغتيال خاشقجي بالتحديد تسببت في تلطيخ سُمعة المملكة وهدمت صورة الزعيم الشاب الإصلاحي، على الأرجح إلى غير رجعة.


هذا هو ولي العهد.. فكيف سيكون الملك محمد بن سلمان؟

الآن ومع تدهور الحالة الصحية للملك سلمان ما استدعى إدخاله المستشفى في الرياض ثم خروجه منها، ربما يجد السعوديون أنفسهم في أي لحظة تحت قيادة "الملك محمد بن سلمان"، وهو ما يطرح تساؤلاً هاماً بشأن طبيعة حكمه؛ فهل سيكون ملكاً صاحب رؤية يحقق للسعوديين الرفاهية ويحرر شبابها من ماضيها المحافظ؟ أم سيكون ذلك السائق المتهور الذي قد يتسبب في حادث قاتل؟".

وكما يقول بين هابرد مؤلف كتاب "صعود محمد بن سلمان" إن هناك عدة عوامل ساعدت الشاب الطموح على أن يصبح الحاكم الفعلي للمملكة من بينها علاقته القوية بأبيه وخشية المنتقدين لتصرفاته من شكواه إلى الملك، وهو ما أدى لأن يصبح المتحكم في كل شيء في حياة أبيه، فكيف سيكون الوضع عندما يصبح هو ذاته الجالس على العرش؟