من المدينة المُحرمة في بكين بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رحلته الاستثنائية إلى الصين عام 2017.

تجول ترامب وزوجته مع الرئيس الصيني شي جين بينغ وعقيلته، بين أركان القصر الإمبراطوري الفريد، الذي يحيط به سور بارتفاع 10 أمتار، ونهر اصطناعي بعرض 52 متراً، يسمى نهر "هو تشنغ"، أي نهر الدفاع عن المدينة.

في حديثه مع  ضيفه، أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى رمز "السلام" في أسماء القاعات الثلاث الرئيسية للمجمع الكبير، مؤكداً المبدأ الكونفوشيوسي "السلام أهم من أي شيء آخر".

لكن علاقة الصين وأمريكا لم تعرف شيئاً من السلام على مر السنوات.

والاحتقان بين البلدين يزداد بوتيرة يومية.

ترامب يتصورها معركة منذ اللحظة الأولى له في البيت الأبيض.

فور انتشار كورونا المستجد، أعاد الرئيس الأمريكي العمل بقانون الإنتاج الدفاعي الذي يعود إلى حقبة الحرب الكورية.

وصوّر نفسه بأنه «رئيس زمن الحرب»، الذي يقاتل من أجل «النصر الكامل» ضد «عدو غير مرئي» هو الفيروس.

لكن حربه على كورونا كانت أيضاً حرباً على الصين.. "مصدر الكارثة، ربما تم تخليق الفيروس بأيديهم، أخفوا عن العالم ظهور الوباء في البداية".. إلخ.

لماذا الصين؟

لأن المعركة قديمة، وكانت قبل كورونا تدخل في أجواء تصاعدية، رغم اتفاق  مبدئي بين واشنطن وبكين في بداية العام.

في عام 1956، كشف التدخل الفاشل في السويس عن تدهور القوة البريطانية، ما مثل نهاية المملكة المتحدة كقوة عالمية. وعلى الولايات المتحدة مواجهة هذه اللحظة بدقة متناهية؛ لأن جائحة فيروس كورونا يمكن أن تمثل تكراراً لأزمة السويس مرة أخرى.

وها هو كورونا يفعلها مع الإمبراطورية الأمريكية.

قوَّض الثقة في قدرة وكفاءة الحكومة الأمريكية. فالتصريحات العامة التي أدلى بها الرئيس دونالد ترامب عملت إلى حد بعيد على بث الارتباك ونشر المخاوف  بين مواطنيه، وفي جميع أنحاء العالم. 

وقد أثبت كل من القطاعين العام والخاص أنهما غير مستعدين لإنتاج وتوزيع الأدوات اللازمة للاختبارات والاستجابة لنتائجها.

فهل تسقط أمريكا عن عرش العالم وتمنحه رغماً عنها إلى ورثة إمبراطورية التنين؟

سؤال يحاول هذا التقرير الإجابة عنه، مع استعراض تاريخ التنافس والحروب بين الصين وأمريكا قبل وخلال أزمة كورونا، ومدى قدرة الصين على التحكم في اقتصاد الكوكب، ثم السيناريوهات الأقرب مع انتهاء الوباء.

يحدد البعض 1914 تاريخاً لميلاد الإمبراطورية الأمريكية، وذلك عندما قررت الولايات المتحدة خوض غمار الحرب العالمية الأولى والاستفادة من مواردها الاقتصادية في توظيف قوتها لقيادة العالم. 

ثم تأكد النفوذ العالمي الأمريكي مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وامتد القرن الأمريكي ليشهد وصول القواعد العسكرية الأمريكية لكل بقاع العالم، في حين هيمنت الثقافة الأمريكية على الملايين، من لغة التخاطب وطريقة الملبس وقوائم الطعام، وشاشات التلفزيون والسينما.

مواجهات غير مباشرة

شهد بحر الصين الجنوبي خلال العقد الأخير محاولات هيمنة قامت بها الصين من أجل السيطرة على مناطقه الاقتصادية، ما جعلها تتصادم مع جارتها فيتنام والفلبين وإندونيسيا. ويخشى جيران الصين من أن تتحول القوة الاقتصادية الكبيرة للصين إلى أداة للتوسع والتمدد الجيوستراتيجية، من هنا تتحالف تلك الدول عسكرياً مع الولايات المتحدة، وتطالب واشنطن بزيادة تواجدها العسكري في المنطقة لردع الأهداف العسكرية للصين.

لا يختلف الأمر مع جوهر التواجد الأمريكي العسكري الواسع في كوريا واليابان، فهذه القوى الآسيوية تدرك مخاطر التهديدات الصينية المستقبلية، ولا تريد للقوات الأمريكية الرحيل، بل تعلن طوكيو وسيول استعدادهما لتمويل بقائها داخل بلادهم كما يريد الرئيس ترامب. وبسبب المخاوف من الهيمنة الصينية، تجمع واشنطن بالهند -الجار الغربي للصين- علاقات عسكرية وتنسيق استراتيجي متصاعد.

هجمات نيويورك كانت لحظة تغيير كبرى

ويعد بعض الخبراء عام 2001 نقطة مفصلية في صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة. ففي هذه الفترة وقعت هجمات 11 سبتمبر/أيلول وما تبعها من غزو واشنطن لأفغانستان والعراق بحجة حربها على ما تسميه "الإرهاب العالمي"، وفي نفس العام تم قبول الصين في عضوية منظمة التجارة الدولية.

وانشغلت واشنطن بحروبها، في حين تفرغت بكين للتصنيع وحرية التجارة دون رقيب أو إلزام بتغيير سياساتها الحمائية ضد الاستثمار الأجنبي والسماح للشركات الأجنبية بدخول أسواقها إلا بعد الانصياع لشروط الحكومة الصينية.

أما الاستراتيجية الصينية فهي لا تعتمد على المنحى الصدامي تجاه الخصوم، تلجأ تارة إلى الإغواء بإغراق شركائها في الديون؛ سعياً منها إلى السيطرة على موانئ ومميزات لوجستية تحتاج إليها من أجل طريق الحرير، وتارة باستغلال الماضي المناهض للاستعمار الغربي، وتقديم نفسها كبديل ومنقذ لهذه الدول من جشع الرجل الأبيض.

من  يومها الأول كانت العلاقة بين الصديقين اللدودين تتأرجح بين الصراع والتعاون الحذر والشكوك.

اللقاء الرسمي الأول كان في 1844، حيث تم توقيع معاهدة وانغيا Wanghia التي نصّت على منح الأمريكيين مختلف الامتيازات والحصانات في الصين.

سقطت الإمبراطورية ودخلت  الصين إلى التجربة الشيوعية، التي دفعتها للمواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في أكثر من جبهة سياسية وجغرافية، أشهرها صراع الكوريتين واستقلال فورموزا، تايوان حالياً وكمبوديا وفيتنام وغيرها. وطردت أمريكا وحلفاؤها الصين من الأمم المتحدة، وأصبحت تايوان هي من يمثل مئات  الملايين من أبناء الصين.

بعد قيام جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الاعتراف بنظام الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وأصرت بدلاً من ذلك على اعتبار نظام شيانغ كاي شيك الذي فرّ نحو جزيرة تايوان ممثلاً شرعياً للشعب الصيني. واستمر رفض الأمريكيين الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية لنحو 30 عاماً.

ثم قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بزيارة تاريخية إلى الصين عام 1972، ليسلك الطرفان دروب التطبيع والصداقة المشوبة بالحذر، خاصة بعد عودة العلاقات الدبلوماسية اعتباراً من أول يناير/كانون الثاني 1979.

عقب وقوع "حادثة تيان آن مين" عام 1989 التي استخدمت فيها سلطات بكين القوة المفرطة لفضّ الاحتجاجات، دخلت العلاقات الصينية الأمريكية فى فترة شتاء قارس صعبة للغاية، وجمدت إدارة بوش العلاقات الصينية الأمريكية تحت شعار حماية "حقوق الإنسان".

ومع تولي شي جين بينغ مهام الرئاسة في الصين عام 2012، بدأت طبيعة العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين في التغيير. 

استبدل شي شعار الصعود السلمي الذي استخدمه سلفه بشعارين جديدين هما:

حلم الصين

وتجديد الصين

وفي الوقت ذاته عمد إلى تركيز السلطات بشكل أكبر في يده ليصبح نظامه أكثر شمولية واستبداداً من أسلافه. 

وقد أدت استراتيجية شي إلى خلق توترات مع الولايات المتحدة، بل مع العديد من الشركاء التجاريين للصين الذين وجدوا أنفسهم عالقين في علاقات غير متكافئة بشكل متزايد لصالح بكين.

استراتيجية شي انتهت باحتلالها وعسكرتها لبحر الصين الجنوبي، وتراجع مستوى الحكم الذاتي الذي وعدت بكين به هونغ كونغ في عام 1997، وارتفاع مستوى التوتر مع اليابان حول جزر متنازع عليها، ووالعلاقة المتوترة بتايوان، فضلاً عن تحويل بكين إقليم شينجيانغ الذي تقطنه أقلية الإيغور المسلمة إلى معسكر اعتقال ضخم.

وحرصت إدارة أوباما على سياسة المشاركة مع الصين. ولكن مع قدوم ترامب وصقور إدارته، بدأ المسؤولون الأمريكيون يتحدثون عن صعود الصين وقوتها الاقتصادية والعسكرية كتهديد للمصالح الاستراتيجية الأمريكية؛ ومن ثمَّ أخذت العلاقات منحى تصاعدياً، وشهدت الكثير من مراحل التوتر.

مجالات الصراع

تكنولوجيا الاتصالات (تقنيات شبكة الجيل الخامس)، وسباق الأسلحة المتطوّرة (منظومة صواريخ هايبرسونيك)، وممرات اقتصاد السوق العالمي (مشروع طريق الحرير الجديد) هي الكلمات المفتاح أو الأبعاد الثلاثة التي تُحرّك الصراع بين العولمة والعولمة الجديدة.. بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

طريق الحرير: لهذا تخاف أمريكا

يمثل مشروع "طريق الحرير الجديد" نوعاً جديداً من عولمة السوق الاقتصادية، ناعم وخفي، تحت سيطرة ضابط إيقاع جديد هو الصين وحلفاؤها. 

تم الإعداد لهذا المشروع قبل سنوات من الإعلان عنه بشكل رسمي في 2013. والطريق يربط بين الصين و60 دولة، ويتكوّن من حزام بري من السكك الحديدية والطرق، يمر عبر آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يصل إلى إفريقيا وأوروبا الغربية.. طريق تضمن الصين من خلاله وصول سلعها زهيدة الأثمان إلى أغلب أسواق العالم، بأسرع وقت وبأقل كلفة.

تسعى الإدارة الصينية لاستكمال مشروع "طريق الحرير الجديد" في نهاية 2030، وهي المدة الكافية حسب توقعاتها لتأمين وصولها بل واكتساحها الأسواق الأوروبية، وأيضاً الأسواق التي تحتكرها البلدان الأوروبية منذ الحقبة الاستعمارية وعلى رأسها السوق الإفريقية. 

أليس هذا مخيفاً للأمريكيين؟

تعمل الصين على تحقيق هدفها بصمت، وبدعم روسي وإيراني، يمكنه أن يدعمها في إضعاف النفوذ الأمريكي على القرارات الحاسمة دولياً، والتي يمكن أن تعيق تقدمها نحو الريادة ونحو سيطرتها على الاقتصاد العالمي، بينما تغيب أي قرارات رسمية للاتحاد الأوروبي.

إفريقيا: الصين في كل القارة السمراء

تأسس منتدى التعاون الصيني - الإفريقي في 2000، بمشاركة 45 دولة إفريقية. وتأسس منتدى التعاون الصيني ـ العربي الذي انعقد بمدينة تيانجين الصينية في 2010 وارتقى سنة 2018 إلى مستوى الشراكة في التعاون الثنائي. 

وهددت الصين بالاستيلاء على ميناء مومباسا بكينيا إذا لم تسدد كينيا ديونها لها، وقامت بالاستيلاء على ميناء جنوب سيريلانكا مقابل عدم سداد الديون، فحصلت على موطئ قدم استراتيجي على طول الممر التجاري والعسكري في جنوب آسيا.

صراع على تقنية الجيل الخامس

أحد أهم النزاعات بين البلدين قضية الأمن في البنية التحتية لشبكة الهاتف المحمول من الجيل الخامس، وهو ما يعتبره أغلب المحللين الاقتصاديين مُحدِّداً أساسياً لمستقبل القرن الواحد والعشرين. فالولايات المتحدة الأمريكية رفضت مشاركة شركة هواوي الصينية في بناء شبكات الجيل الخامس، لاتهامها بالقرب من قيادة الدولة والحزب في بكين. 

تكنولوجيا الجيل الخامس 5G توفر سرعة استجابة للإنترنت أكبر بكثير من تقنية الجيل الرابع، وتحتاج إليها المعدات الطبية، والمعدات الأكثر تطوراً في تصنيع الطائرات ومنظومات الصواريخ والرادارات المتطورة والسيارات بلا سائق.

العنصر الأهم من حسابات المكسب والخسارة المالية، هو الكنز المعلوماتي المتمثل في قاعدة البيانات التي يمكن أن تقع في قبضة من يسيطر على هذه الشبكات التي تؤمّن وتراقب وصول المعلومات.

وقد يتعلق الأمر بأسرار الدول. فمن يعرفك جيداً ويدرك تفاصيلك سيكون الأقدر على السيطرة على اختياراتك والتحكم بها. وهو ما أشار إليه ترامب وهو يتهم هواوي بأنها من ضمن شركات الاتصال التي تستخدم تقنيات تجسّس لصالح الحكومة الصينية، كما اتهمها بسرقة أسرار تكنولوجية.

الملكية الفكرية

نقلت شركات أمريكية إنتاجها إلى الصين للتمتع بميزة انخفاض تكاليف الإنتاج، لكن كان على هذه الشركات دفع ثمن باهظ نظير الانتقال للصين: "فقد أجبرتهم بكين على نقل التكنولوجيا معهم، وحقوق ملكيتهم الفكرية أيضاً".

وهناك شركات لم تنتقل للصين، تزعم أن الصينيين حاولوا التسلل لأسرارها التجارية. وأمام القضاء الأمريكي قائمة طويلة من الاتهامات ضد أفراد صينيين وشركات للتجسس والقرصنة الإلكترونية.

وتزعم الحكومة الأمريكية أن الحجم الإجمالي للملكية الفكرية التي سرقتها الصين خلال السنوات الأربع بين 2013 و2017 تصل إلى 1.2 تريليون دولار. وبحسب متخصصين، يبرز هذا الملف على أنه السبب الأول للتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين.

كان الحريق مشتعلاً بالفعل قبل غزو كورونا للكوكب.

كانت واشنطن وبكين تتبادلان القرارات العقابية، ورفع الجمارك على واردات الطرف الآخر. لكن العلاقة ازدادت لهيباً بعنصرين حاسمين:

شخصية الرئيس هنا وهناك، أي الأيديولوجيا الجامدة للرئيس الصيني شي جين بينغ، والأيديولوجيا القومية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ثم أزمة فيروس كورونا المستجد.

كيف استقبلت العلاقة المتوترة أصلاً مزيداً من التوتر في ظل الثلاثي الجديد: ترامب/ بينغ/ كورونا؟

الجراح التي عمّقها كورونا في الجانبين

منحت أزمة فيروس كورونا المستجد إدارة ترامب المبرر المنطقي لإنهاء أي أمل يتعلق بإمكانية اتباع نهج المشاركة مع الصين مرة أخرى، وإجبارها على لعب دور أقل أهمية في النظام العالمي والاقتصادي. 

والصين تعي ذلك جيداً، وتعرف أن الطريق إلى النفوذ يمر ببعض التضحيات.. والتنازلات.

في معركة التعاطف: الصين تكسب

وحين كانت واشنطن تعلن إغلاق حدودها بوجه القادمين من عدة دول أوروبية، بما فيها إيطاليا، أعلنت الصين إرسال فرق طبية ومواد ضرورية إلى إيطاليا، ثم إلى إيران وصربيا.

وفي لحظة أدارت دول أوروبا الكبرى ظهرها للدول الأقل نفوذاً، طارت أساطيل المساعدات الصينية إلى هذه الدول. والجميع يذكر صورة مواطنين في إيطاليا أنزلوا علم الاتحاد الأوروبي ورفعوا علم الصين مكانه.

في التصالح وضبط النفس: يخسر الطرفان

وجاء انتشار الوباء في وقت كانت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة متأزمة في الأصل. فلم ينجح اتفاق تجاري جزئي أبرم مؤخراً في حل الخلافات التجارية بين البلدين.

علاوةً على ذلك، فإن البلدين سائران قدماً في تعزيز قدراتهما العسكرية، استعداداً لصراع عسكري محتمل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. في غضون ذلك، برزت الصين كقوة عسكرية عظمى، على المستوى الإقليمي، والآن تسعى إلى تبوؤ الموقع القيادي الذي تعتقد أنها تستحقه.

في معركة الحكم الرشيد: أمريكا تكسب

وصلت الولايات المتحدة لموقعها الرائد في العالم على مدار العقود السبعة الماضية، على أسس الثراء والقوة العسكرية. لكن الأساس الأهم كان الشرعية من أسلوب الحكم الداخلي في البلاد، وقدرتها على توفير المواد والسلع على النطاق العالمي وقدرتها ورغبتها في حشد الردود الدولية للكوارث والأزمات.

وعلى النقيض من ذلك تقدم الصين للعالم نموذجاً شمولياً، ورث مركزية العصر الشيوعي، وجمود الحزب الواحد الحاكم، وشخصية الرئيس الطاغية.

في التأثير والقوى الناعمة: أمريكا تكسب

إن ما جعل الولايات المتحدة قطباً عالمياً ليس السلاح الأمريكي ولا وول ستريت فحسب، بل منتجات أخرى تعولمت مثل هوليوود، ومنابر الإعلام والفن، واللغة الإنجليزية، والانفتاح الأمريكي على المهاجرين من أصحاب الكفاءات العلمية، ومنحهم الجنسية الأمريكية، والجامعات العريقة ذات الإمكانات الهائلة، بالإضافة إلى الديمقراطية والحرية الإعلامية.

وكلها عوامل لا تزال الصين مفتقرة لها.

ارتكبت السياسة الأمريكية فظائع كثيرة ضد أمم وشعوب كثيرة، لا سيما العالم العربي، إلا أن صعود الصين لن يكون فأل خير على ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا على حقوق الأقليات، فقد شهدنا القسوة التي تتعامل بها الصين مع المعارضين، وهيمنتها على الإعلام، وبطشها بالمسلمين الإيغور، وبكل مَن يحاول التعبير الأمين، بما في ذلك الطبيب الذي اكتشف الفيروس وحذر من انتشاره.

المؤكد أن  نفوذ واشنطن يتراجع، وأن عوامل كثيرة تزيحها عن مقعد قيادة العالم.

لكن ليس من المؤكد أن تتبوأ الصين مكانة الولايات المتحدة وحدها، أو بمشاركة أطراف أخرى.  

رغم هذا، تبقى الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على القيام بدور وريث الولايات المتحدة على عرش العالم، إذا افترضنا هبوطاً اضطرارياً لأمريكا.

ويتوقع روبرت فوجيل، أحد خبراء الاقتصاد الحائزين على جائزة نوبل، أن تنتج الصين وحدها 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مقابل 21% فقط للولايات المتحدة وأوروبا واليابان مجتمعين، وذلك بحلول عام 2040.

مع الأسف يا سيد ترامب: المواجهة العسكرية غير مضمونة

منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض واستخدامه مصطلح "الحرب التجارية" مع الصين زادت حدة القلق من الصراع الصيني-الأمريكي واحتمالات تحوله لمواجهة مسلحة

الصين قصة مختلفة تماماً، لضخامة اقتصادها وتنوّعه وتنامي قوتها التكنولوجية بصورة متسارعة ومشروع "الحزام والطريق" الدولي الذي تبنيه شركاتها وقواتها العسكرية التي تزداد وتصبح أكثر حداثة بصورة مذهلة، كل هذه عناصر قد تمكن الصين من التفوق على الولايات المتحدة كقوة عالمية مسيطرة، وهذا ما لن تسمح به واشنطن، وهنا بالتحديد مكمن الخطر في أن تتحول الحرب التجارية إلى مواجهة مسلحة.

ورغم أنه ليس بإمكان الصين تحدي القوة الأمريكية على المستوى العالمي، فإنها باتت قوة عسكرية ذات مصداقية وتأثير في محيطها الإقليمي.

وأكدت دراسة أسترالية في 2019 تراجع قوة الجيش الأمريكي في آسيا، وأنه لم يعد في موقع يسمح له بمواجهة الصين. 

وأكدت الدراسة أن الجيش الصيني يمكنه القضاء على القواعد الأمريكية في آسيا بصواريخه في غضون ساعات قليلة. "الصين أنشأت ترسانة مثيرة من الصواريخ الدقيقة وأنظمة الدفاع الأخرى، ما يقوض الهيمنة العسكرية الأمريكية في المنطقة، وجميع المنشآت العسكرية لأمريكا وحلفائها في غرب المحيط الهادئ في مرمى الهجمات الصاروخية الصينية الدقيقة خلال الساعات الأولى لأي صراع مسلح".

لكن الحرب تبقى احتمالاً مستبعداً. 

الصين ستتجنب أي حرب عسكرية مع الولايات المتحدة؛ لأن عصب سياستها الحالية قائم على الحفاظ على الاستقرار الداخلي.

وأمريكا ترامب لن تغامر بحرب عسكرية، وهي تعرف أن العنصر الحاسم في الانتخابات الرئاسية منذ عقود هو الاقتصاد، وبالتالي فإن هدف ترامب الحفاظ على قوة الاقتصاد الأمريكي الحالية.

الحرب قد تكون في الفضاء في حالة المواجهة العسكرية 

الصين تمتلك صواريخ بالستية أسرع من الصوت، وأسقطت قبل سنوات قمراً صناعياً في الفضاء بصاروخ أرض-فضاء خارجي. وتزيد قطع أسطولها البحري على ما تمتلكه أمريكا ربما أضعافاً. 

وصادق الرئيس دونالد ترامب على قانون الميزانية العسكرية لعام 2020، ليصبح لدى الولايات المتحدة قوة فضائية مهمتها ضمان الهيمنة الأمريكية على ساحة المعركة الجديدة هذه، في مواجهة التحدي الروسي والصيني.

فجاء رد الصين على ذلك باتهام الولايات المتحدة بـ"تسليح الفضاء الخارجي".

تعرف الصين أن المواجهة مع أمريكا قادمة لا محالة، وتدرك أن صعودها الاقتصادي يحتاج قوة عسكرية لحمايته.

لقد نهجت الصين في العقود الماضية سياسة الابتعاد عن الأزمات الدولية، وأفسحت المجال لأمريكا وغيرها للانخراط في حروب وأزمات جيوسياسية، إلا ما اختص بالأمن القومي الصيني المباشر، في تايوان والتيبت وبحر الصين الجنوبي.

لكن هذه السياسة لن تستمر طويلاً. الصين بدأت في تطوير منظومتها العسكرية، وانخرطت في تحالفات إقليمية، وستضطر للتدخل بشكل أكبر في نزاعات عالمية، ذلك لحماية مصادر المواد الخام في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحماية أسواقها في آسيا، وضمان حرية النقل الذي ينبغي على مشروع الحزام والطريق أن يقوم به.

ربما ستحاول الصين تفادي مواجهة عسكرية مع أمريكا، لكنها ستعتمد استراتيجية تُرهق فيها الأَسد الجريح، وتستنزف قوته، بينما تعزز من حضورها الدولي وتوسعها الاقتصادي.

هل تستطيع الصين أن تملأ الفراغ الناشئ عن الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة؟

السطور التالية تحمل مؤشرات إيجابية قد تمنح الصين القدرة على أعباء المنصب الجديد..

الاقتصاد هو من يقرر الأقوى.. والصين أقوى

من المؤكد أن يسهم فيروس كوفيد 19 في تغيير بوصلة الاقتصاد العالمي، وفي تسريع تحوّلات كبيرة بدأت منذ فترة، وربما  يكون مبكراً الحديث عن انتقال مركز العولمة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين، كما يقول البروفيسور السنغافوري وعميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية، كيشور مهبوباني.

الأمريكيون فقدوا الثقة بالعولمة والتجارة الدولية، بينما تفرد الصين أجنحتها التجارية العملاقة فوق قارات العالم، في شراهة العائد من سنوات المقاطعة والانغلاق تحت الحكم الشيوعي.

ويرى مهبوباني أن الولايات المتحدة سيكون أمامها خياران، فإن كان هدفها الرئيسي هو ضمان استمرار هيمنتها بالعالم، فسيتعين عليها تفادي أي صراع جيوسياسي مع الصين، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.

أما إذا كان هدفها هو تحسين ظروف عيش الشعب الأمريكي، الذي تدهورت أوضاعه الاجتماعية، فسيتعين عليها التعاون مع الصين.

أزمة الفيروس نقلت مركز النفوذ شرقاً.. والصين رائدة

يتوقع محللون أن يشهد العالم تسارعاً في انتقال مركز القوة والنفوذ من الغرب، إلى دول آسيوية، وخاصة الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، بسبب قدرتها على السيطرة على المرض بطرقها المختلفة، ما قد يحسن من صورتها، مقابل صورة الدولة الأوروبية، والولايات المتحدة، التي اتسمت استجاباتها للفيروس بالعشوائية والبلبلة والضعف.  

أظهرت طرق التعامل مع تبعات فيروس كورونا استعداد الدول الآسيوية بصورة أفضل من نظيراتها الغربية، ودعم ذلك تقدم نظم الحكم المحلية والمركزية كذلك في تلك الدول سواء التي تتبع نموذجاً ليبرالياً ديمقراطياً أو تلك الخاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي الواحد.

وإذا دخلت موسكو على خط الصراع.. تتحالف مع الصين

وفي ظل بوادر نشوء نظام عالمي جديد ثنائي القطب بعد زوال فيروس كورونا، يكون قطباه هما روسيا وأمريكا، من المرجح أن تتعاون روسيا مع الصين ضد الولايات المتحدة، خاصة بعد تصاعُد التوترات بين الولايات المتحدة والصين منذ بدء تفشي فيروس كورونا، واعتبار واشنطن الصينَ أكبر منافسيها.

من المرجح جداً أن تنضم روسيا إلى الكتلة الصينية في الحرب الباردة الجديدة. ويؤكد خبراء روس أن الصين بحاجة إلى روسيا في التعامل مع القضايا الدولية، وستأخذ المصالح الروسية في اعتبارها. 

إلا أن روسيا، نظراً لاعتمادها المتزايد على الصين، ستشارك بدور ثانوي غير مباشر في كتلة تتزعمها الصين.

ويوجد سيناريو ثالث تؤدي فيه روسيا دور الموازِن لمنع أي هيمنة عالمية، أي عالم بلا أقطاب من الأصل!

إنها بداية القرن الآسيوي.. والصين في المقدمة

قد يدخل العالم بعد كورونا في مرحلة من تعدد الأقطاب مع زيادة قوة ومكانة دول مثل الصين والهند في الشؤون العالمية، وظهور رغبة روسية وربما أوروبية في لعب دور متزايد في القضايا العالمية الكبرى مثل البيئة والمناخ. 

في هذه الحالة يبدأ على الفور قرن آسيوي بامتياز. 

مع أخذ تعداد السكان وضخامة الاقتصاديين الصيني والهندي في الحسبان، فمن الطبيعي أن نكون على مقربة من قرن آسيوي تقوده أكبر دولتين في القارة الآسيوية. وقدمت شركة جولدمان ساكس مؤخراً تقريراً تنبأت فيه بأن يكون الناتج الإجمالي الصيني الأعلى في العالم، ويليه الناتج الهندي في المركز الثاني وذلك قبل حلول عام 2050.

حتى من قبل انتشار وباء كورونا عرفت الكثير من الدول الآسيوية نمواً اقتصادياً كبيراً خاصة بعدما اتبعت آليات السوق الحر، وأقدمت نخب تلك الدول خاصة في كوريا واليابان وتايوان والصين وفيتنام وسنغافورة وإندونيسيا وماليزيا على اقتناء العلم والمعرفة من كبريات الجامعات الأمريكية والأوروبية.

يضع الباحث والصحفي محمد المنشاوي ثلاثة سيناريوهات لمستقبل الصراع على قيادة العالم بين الصين والولايات المتحدة بعد أزمة كورونا:

تخرج الصين في السيناريو الأول أكثر ثقة بنفسها وبقيادتها وبنظامها وطريقة الحكم فيها

يمتد النفوذ الصيني ليهيمن على القارة الآسيوية بداية قبل التعبير عن الطموح في التواجد العسكري في مناطق بعيدة عن الحدود الصينية. 

وسيقوّي الحزب الشيوعي الحاكم من قبضته على كل مفاصل الحياة الصينية، ويُحكم سيطرته على هونغ كونغ، وتختفي عملياً أي معارضة داخلية سواء السياسي منها أو ما هو قائم على اعتبارات دينية أو إثنية أو عرقية. 

سيعرف جيران الصين القلق، لكنهم لن يكون باستطاعتهم وقف النفوذ الصيني. 

وستقترب الدول الخليجية عسكرياً أكثر من الصين على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا. 

لن تحاول الصين تصدير أي فكر سياسي أو أيديولوجية حكم لغيرها من الدول، فهي لا تهتم إلا بالحفاظ على هيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية، وتريد دولاً مستقرة تستفيد منها ومعها تجارياً. وستستفيد من صعود الصين النظم المستبدة حول العالم وتتطور علاقاتها للاستفادة من التكنولوجيا الصينية الضرورية لدعم بقاء تلك النظم غير الديمقراطية.

يتم إعادة انتخاب دونالد ترامب في هذا السيناريو، ويستمر التهاوي الأمريكي مع استمرار الاستقطاب الداخلي غير المسبوق، ويستمر الصراع بين البيت الأبيض وأجهزة الدولة الأمريكية والمنظمات الدولية بما يعمّق فقدان ثقة الحلفاء الغربيين في القيادة الأمريكية.

السيناريو الثاني أن تدفع تبعات أزمة كورونا إلى تجديد الهيمنة الأمريكية والغربية على قمة النظام الدولي

تعود العلاقات الطيبة بين واشنطن والأمم المتحدة، وتدفع واشنطن للعمل الجماعي الدولي، وتعود لاتفاقية باريس للمناخ.

ومع الضغط الأمريكي والأوروبي ستضطر الصين للانصياع للغرب، وتعترف بمسؤوليتها عن انتشار فيروس كورونا خارج حدودها، وتقوم بغلق أسواق الحيوانات البرية للأبد، وتسمح للخبراء الغربيين بالتعاون مع المختبرات والعلماء الصينيين من أجل منع خروج أي وباء جديد من الأراضي الصينية. 

وستضغط الولايات المتحدة على الصين لزيادة مساهمتها في المنظمات الدولية وتقديم المزيد من المنح الاقتصادية لدول العالم الثالث بديلاً عن اتباعها سياسة الإقراض.

وسيزيد التواجد العسكري الأمريكي حول الحدود الصينية، ويتم وضع قواعد لفتح الصين أسواقها وشركاتها أمام استثمارات الغرب. 

ولا يتوقع هذا السيناريو إعادة انتخاب ترامب بل إدارة جديدة برئاسة جو بايدن لها رؤية عالمية متوازنة للدور الأمريكي التقليدي، وتتحسن علاقات واشنطن وبكين في العديد من القضايا الشائكة.

السيناريو الثالث يرى أن الجميع سيخرج خاسراً في عالم ما بعد كورونا

في هذا السيناريو تعاني الولايات المتحدة والصين وأوروبا وبقية العالم من تبعات الهزات التي تتعرض لها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. 

ويستمر الركود الاقتصادي العالمي طوال عقد العشرينيات من القرن الحالي.

ويتم إعادة انتخاب ترامب.

وتتفكك قوة رابطة الاتحاد الأوروبي وتتزايد دعوات انسحاب الدول منه، وتتشدد الدول مع الداخلين والخارجين من حدودها ومطاراتها. 

وسيعاني الحزب الشيوعي الصيني في إحكام سيطرته على الاقتصاد مع الفشل في عدم تحقيق معدلات النمو السابقة.

يزيد الإيمان بفلسفة «أمريكا أولاً»، وتقوى شوكة الحزب الشيوعي في الصين، وتستغل الدولتان القومية الشعبوية داخلياً وخارجياً، وتتأثر الحريات العامة وتقوى شوكة الأجهزة الأمنية ودور الدولة. 

وتتأثر العولمة بالسلب مع التراجع في معدلات التجارة والسفر الدولية، وسينتشر الفقر حول العالم، وتقوّي الدول المستبدة من سيطرتها الداخلية بأساليب قمع لا يسألها عنها أحد في الجماعة الدولية.

وفي ظل هذا السيناريو سيعرف العالم مواجهات اقتصادية وتجارية بين الولايات المتحدة والصين.

ومواجهات جيواستراتيجية بين روسيا والولايات المتحدة.

ومزيداً من الصراع على مناطق النفوذ حول العالم. 

وسيعرف العالم الثالث الكثير من الصراعات على موارد الثروة والغذاء، خاصة في مناطق الكثافة السكانية العالية في دول جنوب آسيا وشمال إفريقيا بصورة أكبر من نظيرتها في دول إفريقيا جنوب الصحراء أو دول أمريكا الجنوبية.

هكذا يبدو العالم بلا أقطاب تديره كما شاءت، وشاء لها الهوى.

الفيروس؟ إنه جرس الإنذار الأخير للبشر

محاولة الصين الوصول إلى مقعد القيادة العالمية في مواجهة فيروس كورونا تستند إلى الانكفاء الداخلي على سياسات الولايات المتحدة. 

وبالتالي، فإن النجاح النهائي لمسعى الصين سيعتمد بقدر كبير على ما يحدث في واشنطن، كما يعتمد على ما يحدث في بكين أيضاً. 

هناك الكثير مما يمكن أن تفعله واشنطن وبكين معاً لصالح العالم، مثل التنسيق على مستوى الأبحاث الخاصة باللقاحات والتجارب السريرية، بالإضافة إلى التحفيز المالي، بجانب مشاركة المعلومات، والتعاون في عمليات تصنيع آلات إنتاج مكونات أجهزة التنفس الحرجة أو أجهزة التنفس الصناعي وتقديم المساعدة المشتركة للآخرين.

فيروس كورونا "جرس إنذار" يعزز التقدم في مواجهة التحديات العالمية الأخرى التي تتطلب التعاون بين الولايات المتحدة والصين، مثل تغير المناخ. 

لكن حسابات المصالح هي التي تصنع القرار،  وحتى الآن لا يشهد العالم مؤشراً واضحاً على رغبة الدول الكبرى في التنسيق، حتى لو كان بمذاق التنازلات أحياناً.

وما زال أمام البشرية الكثير لتتعلمه من محنة كورونا.