يسألونك عن إلغاء الحج:
هذا ما تخسره السعودية
القرار الاضطراري يضع المملكة أمام ملفات إدارة الشعائر
وتسييس الحج و"تأميمه".. ويهدد مكانتها في زعامة الأمة
للمرة الأولى منذ تأسيس السعودية تجد المملكة نفسها أمام القرار الصعب: إلغاء الحج، أو تأدية الشعائر بأعداد رمزية تقدر بعدة مئات، بسبب جائحة كورونا.
قبل منتصف الخمسينات كان عدد الحجاج القادمين من خارج المملكة أقل من 100 ألف شخص، وبحلول الألفية الثانية تخطى العدد الإجمالي مليونَي حاج، بل تجاوز عددهم 3 ملايين في عام 2012.
والمستقبل يبدو أكثر صعوبة..
الدين الإسلامي هو الأسرع نمواً في العالم، وبحلول سنة 2050 سيصل عدد المسلمين إلى 2.7 مليار نسمة، أي ما يقارب ثلث سكان الأرض، وبحلول سنة 2070 سيصبح الإسلام أكبر ديانة على وجه الأرض، وارتفاع عدد المسلمين يعني ارتفاع عدد الحجاج والمعتمرين.
السعودية تعرف أن ذلك يعني زيادة أعداد ضيوف الرحمن، وبالتالي ارتفاع التدفقات النقدية من الحج والعمرة.
لدينا الآن مليون و800 ألف حاج، والمستهدف 5 ملايين حاج في 2030.
ولدينا 7 ملايين معتمر، والمستهدف 15 مليوناً في 2022، ثم 30 مليوناً في 2030.
هكذا أعلنت وزارة الحج والعمرة مع بداية الترويج لرؤية 2030، التي تستهدف تحقيق 50 مليار ريال إيرادات من موسم حج 2030.
لكن المملكة ألغت الحج هذا العام بسبب محنة كورونا.
ويشكّل الاعتماد الاقتصادي على واردات الحج والعمرة مخاطرة، تتمثل في احتمالية انخفاض أعداد الحجاج والمعتمرين لأي سببٍ مستقبلاً، وهو ما سيضع المملكة «على حافة هاوية مالية حادة».
أما الفاتورة الباهظة فهي تأثُّر صورة المملكة في صدارة العالم الإسلامي السني، لأسباب عديدة سبقت كورونا وتراجع أسعار النفط، أسباب تتعلق بالسياسة الخارجية في المنطقة، وحوادث بشعة مثل قتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018.
السطور التالية تستعرض الفوائد المعنوية والمادية للحج، وأسلوب الحكومة السعودية في إدارته خلال السنوات الماضية، ومن ثَم خسائر المملكة من إلغائه هذا العام.
إدارة شعائر الحج كانت دائماً أهم أعمدة الشرعية للأسرة السعودية.
منذ تأسيس المملكة يشكل الحج أهم عناصر علاقاتها مع جاراتها ونظيراتها في العالم الإسلامي.
قد تتشاور السعودية مع مؤسسات ودول خارجية حول إجراءات السلامة المتعلقة بالحج، مثل مركز التحكم الجديد، وأساور السلامة، لكنها لا تسمح أبداً لدولة إسلامية بالاقتراب.
حتى دول مجلس التعاون الخليجي لا تجرؤ على التعدي على دور المملكة المعقد في إدارة الحج.
وكلما علا صراخ إيران أو غيرها من «سوء الإدارة»، غاصت الرياض أكثر فيما تعتبره مصيراً وحقاً إلهياً.
ولذا تحاول السعودية الاستفادة قدر الإمكان من استضافة موسم الحج، على الرغم من التداعيات السياسية المحتملة.
صورتين للاختيار بين الصورة الأولى والصورة الثانية
عوائد الحج والسياحة إنعاش سنوي للاقتصاد
يسهم قطاع السياحة بنسبة 3.5% من إجمالي الناتج المحلي السعودي، بما يعادل 85.5 مليار ريال (22.8 مليار دولار) سنوياً.
العائد المباشر من الحج والعمرة يشكل حوالي 60% من الإيرادات السياحية السعودية، وهي بين 20 و26 مليار ريال في 2017.
العائد غير المباشر من هذا القطاع يساوي أضعاف هذا الرقم؛ لأنه ينعش قطاعات أخرى كثيرة مثل: الإسكان والغذاء وتجارة الجملة والتجزئة والنقل والخدمات المالية.
توفّر مواسم الحج والعمرة نحو 900 ألف فرصة عمل موسمية، بما يمثل 7.7% من إجمالي العاملين في المملكة.
ومثلما كانت مكة سوقاً دولية وقبلة للتجار، حتى قبل ظهور الإسلام، وكان الاقتصاد السعودي يعتمد على الحج والعمرة قبل اكتشاف النفط، تبذل المملكة اليوم جهوداً حثيثة لتوسيع «خدمات الحج»، كجزء من استراتيجيتها الرامية لتقليل اعتمادها على عائدات النفط، والاحتفاظ بالعرش الروحي للعالم الإسلامي، والسُنّي بصورة خاصة.
كل عام، تنقل قنوات التلفزيون في بثٍّ متواصل الحدث الإسلامي الأهم: الكعبة وحولها الحجاج بملابس الإحرام يؤدون المناسك التي من المُفترض أن تكون مؤتمراً سنوياً للمساواة.
إلا أن هذه المساواة تصير خرافة حين نقارن الحاج الذي يبيت إلى جوار «المسجد الحرام» بذلك الذي يسكن بفندق قرب ساعة مكة التي تعلو «أبراج البيت»، ويدفع ما بين 1800 و4700 دولار في الليلة واحدة.
تطل مجموعة الفنادق تلك على الكعبة من فوق السحاب، وبينها ثالث أطول أبراج العالم، ويمكن رؤيتها من بُعد 30 كيلومتراً، وهي فخر مكة الذي كلفها 15 مليار دولار، لكن بيت الله الذي كان أكبر ما في تلك المدينة بات مع مرور الوقت أصغر ما فيها حجماً.
فهل أصبح جَنْي المال في مكة أهم من المقدسات الدينية؟
توسعات الحرم من خدمة المناسك إلى الاستثمار
في عهد الملك عبدالعزيز تمت توسعة الحرم المكي بعد أن انتشرت المنازل حوله، وقامت على جانبيه المحال وارتفعت فوقهما المساكن، وقطع الباعة المتجولون قدسية المسعى، واختلط قاصد العبادة بقاصد الدنيا.
وكانت السلطات السعودية على قدر عالٍ من الحساسية في التعامل مع الحرمين المكي والنبوي حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وحافظت مشروعاتها على التوازن المطلوب بين الحداثة والأصالة في الطابع المحلي، والمساواة بين المستفيدين منها، مثل مدن الحجيج وصالة الحج في مطار الملك عبدالعزيز الدولي.
استمر ذلك الحرص في عهد الملك فهد، الذي كانت توسعاته قفزة نوعية وكَمَّية، لزيادة الطاقة الاستيعابية للحرم مع الحفاظ على التجربة الروحانية والإنسانية فيه.
كما قامت الأسرة السعودية بتوسعة وتمهيد الطرق بين المشاعر المقدسة فى مكة المكرمة شملت مِنى والمزدلفة، وتوسعة الطرق بين مكة والمدينة. وكان للطفرة النفطية أثر كبير في الإنفاق المستمر على الحرمين الشريفين.
بعدها فقد السعوديون مع الوقت حساسيتهم تجاه الحرمين.
"على بعد أمتار من المسجد الحرام، وتحديداً في برج ساعة مكة الذي يُعد الأطول بين أبراج البيت السبعة، تقع وحدات إعمار ريزيدنس بفيرمونت مكة بين الطابق 30 والطابق 41.
يصل طول برج ساعة مكة إلى 601 متر.
وتتألق في أعلى قمته أكبر ساعة في العالم تُعلِم المسلمين بأوقات الصلاة، ويصل قطرها إلى 40 متراً، ما يشكل أضعاف ساعة بيغ بن في لندن".
هذا بعض ما ورد في نص ترويجي لفندق بأبراج مكة.
جاء هذا التوسع على حساب «روحانية الحج» التي تأثرت بالمادية المفرطة حول المسجد الحرام، وأدى إلى ظهور التفاوت بصورة صارخة في العبادة التي يفترض أن تعلي قيمتي المساواة والبساطة، حسب صحيفة إندبندنت. والشكوى هنا ليست في التوسعة الضرورية، ولكن في «تحويل الحرم المقدس إلى آلة، مدينة ليس لها هوية ولا تراث ولا ثقافة ولا بيئة طبيعية»، على حد وصف الدكتور سامي العنقاوي، مؤسس ومدير مركز أبحاث الحج.
تسييس الشعائر: لا تأشيرات لخصوم المملكة
منذ بداية الحروب التي مهدت لتأسيس المملكة، عرف مؤسسها الملك عبدالعزيز الذي كان أمير منطقة نجد أهمية السيطرة على المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، لتوسيع النفوذ السياسي والديني لدولته الوليدة.
وسرعان ما ادعى أن الشريف حسين، حاكم مكة، منع حجاج نجد القادمين من الحج. وأعلن الحرب ضد الحجاز للسيطرة على مكة والمدينة، وذلك بعد أن حصل على فتوى شرعية من علمائه.
وكثيراً ما اتهمت إيران السعودية بسوء إدارة الحج. وارتفعت حرارة الأمر حينما انحرف موسم الحج عن قدسيته، وقتل رجال الأمن السعوديون مئات الحجاج الإيرانيين المحتجين عام 1987.
وفي عام 2018 اتهمت قطر السعودية بمنع القطريين من الحج، وهو أمر تنفيه الرياض، فيما قالت الدوحة إن نزاعاً دبلوماسياً لن يمنع مواطنيها من أداء الفريضة.
من جانب آخر تجامل السعودية أصدقاءها بمنحهم حصة أكبر من التأشيرات، بالإضافة إلى دعوات استضافة شخصيات عامة وإعلاميين من جميع بقاع العالم الإسلامي.
مثلاً تمنح السعودية إندونيسيا صاحبة أعلى كثافة إسلامية عالمياً، أكبر حصة للحج تبلغ حوالي 230 ألف تأشيرة حج سنوياً. وتعد زيادة ذلك الرقم طموحاً وأولوية لدى المسؤولين الإندونيسيين، حيث يضطر بعض مواطنيها للانتظار 20 سنة للحصول على فرصة لأداء هذه الفريضة.
لذلك نادراً ما تعترض جاكرتا على جهود الرياض الدينية على أرضها خلال العقود الماضية حرصاً منها على عدم تعريض حصتها من الحج للخطر.
ولكن تورّط الرياض في نزاعات إقليمية أدى إلى مزيد من تسييس الحج، ما دعا أئمة في كل من ليبيا وتونس إلى مقاطعة الحج بسبب التدخل السعودي في الحرب الأهلية باليمن.
دعوات للمقاطعة و"تأثيم" الحج للمرة الثانية
تحت عنوان صادم هو "محمد بن سلمان يجعل المسلمين يقاطعون مكة"، كتبت Foreig Npolicy تقريراً عن الآثار السلبية التي تضفيها سياسات المملكة على صورتها المترسخة كمهد للإسلام، ووطن للحرمين.
وقال التقرير إن ارتفاع حصيلة القتلى في صفوف المدنيين اليمنيين جرّاء القصف السعودي، والمجزرة المروّعة التي ارتكبت في حق الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، والنهج العدواني الذي تتبعه الرياض في تعاملها مع الأزمة الإيرانية، كل هذا دفع بعض الحلفاء السنيين للمملكة لإعادة النظر في دعمهم الثابت لها.
ونقلت الصحيفة عن مفتي ليبيا، الشيخ الصادق الغرياني دعوته جميع المسلمين إلى مقاطعة الحج، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما قال إن أي شخص يذهب للحج مرة ثانية إنما يرتكب إثماً.
ويعتقد الغرياني، أبرز علماء السنة في ليبيا، أن "ضخ أموال الحج في الاقتصاد السعودي يسهم في تمويل صفقات الأسلحة التي تبرمها الرياض وتغذي الهجمات المباشرة التي تشنها على اليمن، والهجمات غير المباشرة على سوريا وليبيا وتونس والسودان والجزائر. وأضاف الغرياني أن "الاستثمار في الحج سيساعد الحكام السعوديين على ارتكاب جرائم ضد إخواننا المسلمين".
تأميم الحج: ترويج المذهب الوهابي والدعوة لآل سعود
على مر السنوات استغلت السلطة السعودية موسم الحج للترويج للمذهب الوهابي.
طبعت الكتب التي تبشر به وتندد بالمخالفين لهم في توجيهاتهم مثل "الرد على المالكي الصوفي"، "فتنة التكفير والحاكمية"، "فتاوى ابن باز"، وغيرها من الكتب التي كانت توزعها مجاناً على زوار بيت الله الحرام.
ورفض السعوديون أي تدخل إسلامي في مناسك الحج من غير شيوخ المملكة.
ولم تشهد خطبة نمرة يوم عرفة خطيباً من خارج المملكة، إلا مرة واحدة.
حدث ذلك مع الشيخ المصري الراحل محمد متولي الشعراوي، الذي ألقى خطبة وقفة عرفة عام 1976، فكان الإمام الوحيد من غير السعوديين الذي خطب على عرفات، واعتبرت هذه الخطبة من التراثيات.
وهاجم خطباء الحرمين على مر السنوات الشيعة والمتصوفة والإباضية في خطب المساجد أثناء موسم الحج، ما أثار غضب الجميع.
أدى الاقتصار على شيوخ المملكة إلى عدم كفاية المرشدين للحجاج، وإلى حوادث متكررة من الزحام والتدافع.