فقراء القاهرة يأكلون من أسواق الفُتات

تبدأ الأسرة الفقيرة يومها بالطعام وتفكر فيه طويلاً، وتبني قراراتها وتدابير حياتها اليومية من خلاله. ينشغلون بأمر المعدة ويفنون أجسادهم بحثاً عن الحد الأدنى من الطعام الذي يملؤها.

متشحات بملابس بسيطة، يقفن في الصباح أمام مدخل شارع التروللي بحي الأميرية الشعبي وسط القاهرة، ينتظرن بداية السوق الأسبوعي الذي يقام يوم الخميس من كل أسبوع.

وخلال دقائق تبدأ سيارات نصف نقل في التوافد على السوق والبحث عن ركن تقف فيه، ثم يبدأ الباعة في تنزيل البضائع من السيارات ورصها على الرصيف.هذه البضائع طعام "فرز ثانٍ"، كما يطلقون عليها في الأسواق المصرية.

طعام الفقراء ليس جديداً على أسواق مصر، لكن دائرة الفقر اتسعت في السنوات الأخيرة، لتضيف إلى زبائن طعام الفرز الثاني الكثيرين من أبناء الشرائح التي كانت "مستورة".

في سوق الخميس لا تبحث سيدات الأميرية عن الطعام التقليدي مثل اللحوم والدجاج، بل على ما هو أرخص.

أحشاء الذبائح وهياكل الفراخ وأجولة من الشيبسي (السائب)، والمعكرونة (السائبة) وبقايا جاتوهات، ومشروبات غازية وعصائر بأنواعها ومسليات وبقايا أجبان ومخللات، وغيرها من المنتجات.

يمر الوقت، ويتحول المكان من الهدوء النسبي إلى صخب شديد بسبب هتافات الباعة المتداخلة التي تتسابق في النداء لجذب انتباه المارة والترويج لمثل هذا النوع من البضائع الرخيصة.

وفي لمح البصر تتدافع السيدات المنتظرات لخطف ما يتم عرضه على البسط المفروشة على الأرض.

يتفحّصن لفائف متآكلة الأطراف من البسطرمة والسوسيس، يتجاذبن أطباق حلوى ليست لها ملامح، وبعضهن يتجادلن مع الباعة في محاولة "للفصال" في نصف الجنيه وأحياناً الربع.

يقطع الصخب صوتٌ هادر لبائعة غاضبة تطلب من زبونة "مزعجة" أن تتوقف عن العبث بـ"بواقي" اللانشون في محاولة للحصول على الأفضل، طالبة منها عدم المساس بالبضاعة إلا بعد دفع ثمنها، أو تنصرف عن الشراء.

لا تحاول كريمة أن تجمّل بضاعتها فهي تعلم جيداً أن هناك طلباً عليها، وبالرغم من أن السلع المعروضة في أكياس بلاستيكية مجهولة المصدر وقاربت مدة صلاحيتها على الانتهاء فإنها الأفضل بالنسبة للمعروض في السوق.

شرحت السيدة أن المحال الكبيرة والمصانع والفنادق والأندية تتخلص من فوائض الأطعمة المخزنة لديها ببيعها إلى "متعهدين"، وبدورهم يبيعونها إلى السيدة الخمسينية وغيرها من البائعين، فيفترشون بها أسواق اليوم الواحد، موضحة أن لها زبوناً دائماً، فجنيهات قليلة كفيلة بإطعام عائلة.

ينقسم البائعون في تلك الأسواق إلى فريقين:

الأول، يتجه إلى المصانع والفنادق الكبيرة ومحلات البقالة الضخمة ويشتري بقاياها بأسعار بخسة، ثم يتوجهون ببضائعهم إلى أسواق بقايا الطعام لعرضها بأسعار مقبولة مقارنة بالعبوات الأصلية. أما الفريق الآخر فهو يتجول حول مصانع الأغذية ومحلات البقالة للبحث عن مخلفات المصانع وأخذها بدلاً من إلقائها في القمامة دون أي مقابل مادي، ثم يتوجهون بها إلى تلك الأسواق لبيعها للفقراء.

حسني أو "تايجر" (اسم أحد منتجات الشيبسي) كما ينادونه، شرح أنه يذهب إلى مصنع الشيبسي ويأخذ الأكياس التي تم إغلاقها بطريقة خاطئة، وكذلك بواقي التعبئة "الشيبسي الكسر"، بأسعار رخيصة ولكن ليس المرتجع من المحال لأنه فاسد.

سوق الخميس في الأميرية

منذ تحرير سعر صرف الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بدأت أسعار السلع والخدمات في السوق المصري ترتفع بشكل تدريجي، ووصل التضخم إلى أعلى مستوياته، بالتزامن مع تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية؛ بهدف خفض العجز وتحسين الاقتصاد ودعمه، ما أثر على القدرة الشرائية للمواطن.

تراجُع قيمة الجنيه تزامن مع رفع أسعار المحروقات والكهرباء مجدداً، بناءً على مطالب صندوق النقد الدولي، كشرط لحصول مصر على الشرائح المتتالية من قرض الصندوق بقيمة 12 مليار دولار.

أسواق "البقايا" هي البديل الوحيد أمام الفقراء

رسمياً لا توجد إحصائية بأعدادها في مصر، لكنها منتشرة في القاهرة والجيزة.

فهناك سوق كرداسة يوم الإثنين بالجيزة، وسوق الأحد في شبرا الخيمة وبولاق الدكرور والسيدة زينب والسيدة عائشة والعمرانية والكيت كات والجيزة ودار السلام وغيرها، فضلاً عن القرى والمحافظات الأخرى، في تجاهل تام من البائع والمشتري والمسؤولين لمصدر المنتجات أو صلاحيتها أو طريقة عرضها.

وفي الوقت الذي تمنع فيه بعض الدول بيع أحشاء الذبائح (الكبد، الكرشة، والمُمبار) أو أطرافها (الكوارع)، فإنها تصنف في أسواق بقايا الطعام من اﻷغذية الرئيسية.

وقد قدّر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ما استوردته مصر في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أكتوبر/تشرين الأول 2016، من أكباد بقر مجمدة بقيمة مليار و968 مليون جنيه تقريباً (ما يقارب 11 مليون دولار)، وأحشاء وأطراف ذبائح مُجمّدة بقيمة 667 مليوناً و195 ألف جنيه.

تعتبر الأحشاءُ والعظام "لحومَ الفقراء"؛ لأن كيلو "الممبار" (أمعاء الحيوان) بـ45 جنيهاً (دولارين ونصف)، لكنه رخيص مقارنة بسعر كيلو اللحم الذي يصل إلى 160 جنيهاً (ما يقارب 9 دولارات) في محال الجزارة الكبيرة.

أما عظام الدواجن (الهياكل) و"الحوائج" وهي عبارة عن رقاب وأجنحة وأرجل الدجاج، فهي البديل الأرخص المتاح للأكثر فقراً، والتي بلغت نسبتهم عام 2016 وفقاً لجهاز الإحصاء 27.8% من السكان في مصر.

وليد (موظف حكومي) تعدى الأربعين من العمر، اختتم تسوّقه بشراء هياكل الدواجن كي لا تتلف بسبب الحر، وأوضح أن كيلو الدجاج يصل إلى 36 جنيهاً (دولارين) وليس باستطاعته أن يوفره لأسرته الصغيرة إلا مرتين في الشهر، فيشتري دجاجة ومعها هياكل لتكون مكمّلة للوجبة الدسمة التي يتلهف عليها أبناؤه الثلاثة، لكنه يلجأ للسوق أسبوعياً لشراء الهياكل، فالكيلو منها بعشرة جنيهات (نصف دولار تقريباً)، أما الأجنحة فتصل إلى 17 جنيهاً (أقل من دولار)، والأرجل بخمسة جنيهات.


المصدر: tradingeconomics.com

مصريون في طابور لشراء طعلم "فرز ثاني"

مَن كان يشتري

الدجاج أصبح يكتفي

بهياكله

يعمل علاء في مجال الدواجن منذ 20 عاماً، وكان دائماً ما يُلقي بالهياكل في القمامة لعدم وجود زبائن، لكنه الآن يقول: "بعد فترة بدأ يسأل عنها مجموعة من الزبائن من أصحاب الحيوانات كالقطط والكلاب، وكنا نبيعها لهم بالكيلو". وهياكل الدواجن عبارة عن أجنحة ورقاب ورؤوس وأرجل وأحشاء، وما يتبقى من الدجاجة بعد بيع لحوم الصدر والأوراك للزبائن. ويتابع أن «الإقبال ازداد على الهياكل في السنة الأخيرة، بعد ارتفاع الأسعار بشكل جنوني رغم تضاعف سعرها من 7 جنيهات للكيلو إلى نحو 18 جنيهاً الآن». يتراوح سعر كيلو الهياكل ما بين 15 و18 جنيهاً للكيلو، وهي مرتبطة بسعر الدواجن الذي ظلَّ يرتفع في السنوات الأخيرة.

هياكل الدواجن أصبحت ضيفاً أساسياً على موائد قطاع كبير من المصريين، وارتفع سعر كيلو الدجاج ليتراوح ما بين 25 و26 جنيهاً، وتبعته زيادة في كرتونة البيض أيضاً، لتصل إلى نحو 38 جنيهاً حالياً.

ويشرح علاء أن زبائن محله يعكسون التردي في الأوضاع الاقتصادية في مصر: «مَن كان يشتري دجاجة كاملة أصبح الآن يشتري نصف دجاجة «وركين»، ومن كان يشتري وركين أصبح الآن يشتري هياكل، ومن كان يشتري الهياكل، لا يأتي للمحل الآن». قديماً كان علاء يملأ محله بمختلف الطيور والحيوانات مثل: الدجاج والبط والديك الرومي والأرانب، ولكن مؤخراً يعتمد فقط على الدجاج، أما الباقي فيأتي به بالطلب نظراً لاتفاع سعره. ويضيف: "من بعد الثورة قبل 7 سنوات بدأ الزبائن من الفقراء يسألون عن الهياكل، عندما كان سعرها يتراوح ما بين 3 إلى 5 جنيهات".

تفحص السيدة أم مصطفى مجموعة من هياكل الدواجن الموضوعة على منضدة أمام محل لبيع الدواجن في منطقة شعبية بالعاصمة المصرية القاهرة، في محاولة لاختيار هيكل محمّل ببعض اللحوم، تعود به إلى أولادها لتصنع منه حساءً بدلاً من اللحوم والدواجن التي لا تقدر على ثمنها.

أم مصطفى، السيدة الأربعينية التي اكتفت بذكر اسم ولدها وترتدي جلباباً أسود اللون وحذاءً مفتوحاً شبه بالٍ، كانت تسرع في فحص الهياكل قبل أن يلحظها صاحب المحل في حي إمبابة شمال القاهرة، وينهرها كعادته مع الزبائن الذين يفتشون في بضاعته. توضح أم مصطفى أن دخل زوجها الشهري الذي يُقدر بـ1500 جنيه لا يكفي لشراء اللحوم سوى مرة واحدة في الشهر، لذا فهي تعوّض الأمر بشراء الهياكل. تقول أم مصطفى بصوت حانق إن الأسعار في ارتفاع مستمر، فبعد أن كانت تشتري كيلو الهياكل بـ7 جنيهات، تضاعَفَ سعرها الآن ووصل في بعض الأحيان إلى 18 جنيهاً للكيلو.

وتنتج مصر نحو 1.6 مليار طائر سنوياً.

هذا الإنتاج يحقق اكتفاءً ذاتياً بنحو 95%.

لسداد العجز يتم استيراد الطيور المجمّدة التي لا يفضلها كثير من المصريين، لكنها أرخص نسبياً من الحيّة.

وهذه الأسواق مقصد الأثرياء أيضاً لأسباب مختلفة

وسط زحام الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة كان يقف رجل تظهر عليه علامات الثراء الواضح.

هذا دفعنا لنسأل البائع عم محمد عما إذا كان المشتري الثري يبحث عن هياكل الدجاج مثل الآخرين، فردّ علينا ضاحكاً بأنه يشتريها كوجبة لكلابه وقططه، قبل أن يضيف بصوت يجمع بين الفكاهة والشطارة: لهذا أبيعها له بضعف الثمن.

لا تقتصر البقايا على الذبائح والدواجن بل تعدتها للسلع الغذائية الطازجة ونصف المعطوبة، فداخل السوق جميع المنتجات ملقاة على الأرض تطل من داخل صناديق مفتوحة، وأسعارها لا تقارن بالأسواق التجارية المعروفة، كعلب الصلصة وأطراف جُبن رومي مبشور وأنواع غريبة من العصائر والزيوت، وأنواع مختلفة ما بين شيبسي بالشطة والليمون وآخر بالملح، وكرتونة تمتلئ بالكثير من قطع الشوكولاتة ذات الماركات المعروفة وبقايا وجبات الفنادق، من كسر مخبوزات وحلويات.

لا ترى الطبقة المتوسطة غضاضة في وجودها بالسوق

على العكس. تقول منال (ربة منزل) إن سوق البواقي "اكتشاف عظيم" فهي تتردد عليه منذ شهرين فقط بعد أن ضاق الحال بزوجها.

الوضع الاقتصادي لأسرة منال كان متوسطاً والدخل يكفي الاحتياجات الأساسية وكان "خزين" المنزل متوفراً، بجانب الادخار لأي طوارئ من المحتمل ظهورها فجأة، لكن عقب تحرير سعر صرف العملة المحلية (تعويمها) أمام الدولار تبدل كل شيء، وتدرجت معيشتهم من السيئ إلى الأسوأ.

بدأت علاقتها بالسوق عندما سمعت عن رخص المنتجات وتلهف الجميع عليها، وبالفعل وجدت أن معظمها بقايا مطاعم وماركات كبيرة. وهي تشتري نفس ماركة الشوكولاتة التي يحبها أطفالها بخمسة جنيهات بدلاً من 18 جنيهاً (نحو دولار واحد)؛ لأنها هنا لا تكون معيوبة الشكل بسبب التخزين وبالتالي لا تعرضها المحلات الكبيرة، كما تشتري بقايا الجبن الرومي والبلوبيف، بعُشر ثمنهما من المحال الكبيرة، لصناعة المعجنات.

تفحص منال البضاعة جيداً وتركز على المنتجات المستمرة صلاحيتها وتتابع الباعة على الهاتف الجوال لتكون أول من يحصل على منتجات طازجة.

هكذا يتحايل

فقراء القاهرة

على الحياة

معظم فقراء القاهرة يخرجون إلى خضم الحياة والعمل صباحاً دون إفطار. الملاحظة للباحث د. سعيد المصري، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة وعالم الاجتماع المعروف، في بحثه المهم "إعادة إنتاج التراث الشعبي"، الصادر في عام 2012. ويضيف أن المُعدَمين ربما يقتصرون على وجبة واحدة هي العشاء، مع ما تيسّر من وجبات نثرية أو "تصبيرات" خلال النهار.

ويصبح الأمر أكثر صعوبة في الأيام الأخيرة من كل شهر.

لكن التحايل والرغبة في الرضا يغلبان الإحساس بالفقر، فتنتشر بين الفقراء عبارة تبريرية لعدم الإفطار: الواحد لما يقوم من النوم يبقى مش طايق الأكل ومالوش نفس ياكل.

يتم ترحيل وجبة الإفطار إلى الظهر، وربما تحل محل الغداء.

البحث تم في الفترة من 1995 حتى 2009، في أفقر مناطق حي بولاق، الذي بلغت نسبة الفقراء فيه 81.6٪، ويعيش أغلب سكانه في بيوت متواضعة، وثلثهم تقريباً يستخدمون حمامات مشتركة.

من كتاب "إعادة إنتاج التراث الشعبي للباحث سعيد المصري

من كتاب "إعادة إنتاج التراث الشعبي للباحث سعيد المصري

من كتاب "إعادة إنتاج التراث الشعبي للباحث سعيد المصري

وتحصي الدراسة أساليب فقراء القاهرة في التحايل على الحياة، كما يشير الكاتب بلال فضل، كاختصار عدد الوجبات اليومية وتعزيز الشعور بالإشباع، بالإكثار من النشويات، والاعتماد على الأطعمة الرخيصة وبدائل اللحوم، والاعتماد على وجبات «التصبيرة»، وتطبيق قيود صارمة في تقسيم «المنابات» والحصص، وربط عدد الوجبات اليومية ومواعيدها بالدخل ومدى الاستقرار في ظروف العمل، حيث يسود اعتقاد لدى كثير من الفقراء العاملين بأن المعدة يمكن أن تكفّ عن الجوع أطول فترة ممكنة من النهار إذا لم يتم تناول أي أطعمة في الصباح، وهو ما يعبر عنه عامل خراطة بقوله للباحث: «البطن زي المكنة تديها تشتغل وتفتح بقها وتقول لك كمان وكمان»، ولهذا يتم ترحيل الإفطار لوقت متأخر أو يستبدل بوجبة خفيفة لـ«تغيير الريق»، وقد تحل وجبة الإفطار محل الغداء، لكن تبقى وجبة العشاء رئيسية لا تحتمل الإلغاء.

يجب على الفقير أن يسد رمقه أولاً، تلك هي المسألة كما يبرهن عليها بحث "إعادة إنتاج التراث الشعبي".

وثانياً، يجب عليه أن يتظاهر بأن طعامه مثل جيرانه، ويخفي عنهم حقيقة ما يأكل.

ولأن الفقراء يدركون أن حلقة الحرمان التي يعيشونها مفرغة ولا فكاك منها، يحرص أغلبهم على اللجوء إلى تبني قيمة القناعة، ونشر نظرة إيجابية لحياة الحرمان، وهو ما يتم عبر إعادة إنتاج الثقافة الشعبية من خلال 4 آليات:

1- التوافق مع الضرورة.

2- توظيف العلاقات التضامنية مع الجيران.

3- التماثل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي مع المجتمع.

4- الشعور بالرضا.

صفحات على فيسبوك وسيارات الجيش لبيع اللحوم

لم تعد الأسواق الشعبية فقط هي المكان الوحيد للحصول على الطعام "الكسر" الرخيص، فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" جروبات لبيع هذا النوع من الأطعمة.

كان الهدف هو مساعدة الأسر البسيطة في الحصول على احتياجاتهم، وانضم إليهم بعد زيادة الأسعار أصحاب الطبقة المتوسطة، يشبعون رغباتهم في تناول اطعمة الأغنياء لكن بأسعار معقولة باعتبارها فرزاً ثانياً، مثل الجاتو والديك الرومي وغيرهما.

حبيبة محمود لجأت إلى صفحات بيع الطعام "الكسر"، فهي من وجهة نظرها أفضل من أسواق بقايا الطعام؛ لأن التعامل من خلالها يتم في "ستر" بعيداً عن أعين الناس ومعايرة أقربائها بأنها من فعلت ذلك بنفسها بعد أن رفضت الزواج من ابن عمها الثري وفضلت عليه الموظف.

هي الآن تشتري من جروب "يبيع كل حاجة بالجملة"، هياكل الفراخ وأجنحتها، وسعرها يختلف حسب كمية اللحوم الملتصقة بها، وتقوم بطهيها بنفس طريقة مطاعم كنتاكي ليتناولها أطفالها.

كما أنها نجحت من خلال تلك الجروبات في توفير قطع الجاتوه لأطفالها، حيث يقوم أحد الجروبات بتسويق فوائض منتجات بعض محلات الحلوى الفاخرة، وهي تقدمه سواء كقطع منفصلة إذا كانت حالتها جيدة، أو تدمج عدة قطع وتصنع منها تورتة لأبنائها الأربعة.

"أم جاسر" توفر على صفحتها الشخصية كسر الجاتو وباقي حلويات الطبقة الراقية بأسعار تنافسية لكي تساعد الفقراء على أن "يلهطوا" أو يتذوقوا ما اعتاد عليه الأغنياء، مثل شكولاتة نوتيلا الأصلي الكيلو بـ 35 جنيهاً (1.9 دولار) وبسكويت شطرنج ويفر وسادة وعجوة وبوريو، وبسبوسة بالمكسرات بـ 45 جنيهاً (2.5 دولار) للكيلو" والبضائع طازجة يوماً بيوم.

تشتري أم مصطفى أحياناً اللحم المستورد من سيارات الجيش والشرطة المتنقلة في الشوارع؛ "لأنها أرخص من الجزار، ولكن في النهاية تكون مرة واحدة شهرياً، فراتب زوجي موظف الحكومة لن يكفي".

تتحدث السيدة الأربعينية بسرعة ولهفة، لتحاول أن تظفر بقطعة جيدة من الهياكل «كي تضيف دسماً للشوربة.. ما باليد حيلة». في الماضي كنت أشتري الهياكل وأنا محرجة من البائع والزبائن، تقول أم مصطفى، لكنها الآن لا تشعر بأي حرج؛ لأن هناك الكثيرين مثلها بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني. تؤكد أنها في بعض الأوقات كانت تطبخ طعامها بالماء ومكعبات مرقة الدجاج الجاهزة، ولكن أولادها يتمنون أن يأكلوا لحماً ودجاجاً، وليس هناك أرخص من الهياكل.

لكن خبراء الصحة يحذرون من انتشار تلك الأسواق

سواءٌ في الحقيقة أو في العالم الافتراضي خصوصاً لو كانت كما هي في مصر من دون رقيب، مشيرين إلى أنها تهدد حياة المصريين وتؤثر على صحتهم بالسلب على المدى الطويل.

مديحة عبدالقادر، أستاذة التغذية بالمركز القومي للبحوث، شرحت أن المنتجات التي تبيعها تلك الأسواق مصادرها غير معروفة، وفسادها شبه مؤكد، حيث يتم وضع الطعام على طاولات غير نظيفة ما يعرضها للتلوث، كما أن البائع يسمح للزبائن بتذوق الطعام وهو ما يساعد على انتقال الأمراض.

وأشارت أستاذة التغذية إلى أن الطعام الصحي يفسد إذا لم تتم تعبئته وتخزينه بطرق سليمة، وهو ما يؤثر على التكوين الجسدي للأطفال، لافتة إلى أن بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة "يونيسف" لعامي 2014 و2015، أشارت إلى أن 21% من أطفال مصر في الفئة العمرية أقل من 5 سنوات مُصابون بالتقزّم، وأن المصابين بالهُزال في الفئة نفسها تُقدر نسبتهم بـ 8%، وهما العرضان الناجمان عن سوء التغذية.

وقالت لـ "عربي بوست" إن هذه الأسواق من الممكن أن تكون حلاً لأزمة الفقر والجوع التي يعاني منها كثير من المصريين إذا تم تجميع الأطعمة "الكسر" وتوزيعها بطرق صحية وتحت رقابة ومسؤولية خبراء لمنع انتهاك حقوق الفقراء.

وكانت لجنة سلامة الغذاء بوزارة الصحة قد أوصت في وقت سابق بضرورة حظر تداول هياكل الدواجن؛ نظراً لخطورتها على صحة المستهلك، إلا أن مسؤولاً تجارياً قال إن إصدار قرار كهذا سيُهدر 30% من المردود الاقتصادي لقطاع الثروة الداجنة.

وفي حوار صحفي صادم كشف الدكتور حسين منصور، المسؤول عن إنشاء الهيئة القومية لسلامة الغذاء، أن 80% من الأغذية المعروضة فى الأسواق تأتي من مصانع "بير السلم"، أي دون ضوابط ومعايير ورقابة.

في النهاية..

الفقراء

يدفعون الثمن مرتين

وفقاً لنتائج دراسة أعدها معهد الدراسات والتقييم الصحي بجامعة واشنطن تُعد سوء التغذية قاتلاً مجهولاً في مصر.

أمراض القلب والأوعية الدموية السبب الأهم للموت المبكر في مصر، حيث نتج عنها ما يزيد على 40% من جميع الوفيات في 2013، في مقابل الثلث عام 1990. كما تتزايد معدلات الإصابة بمرض السكري، الذي بدوره يمكن أن يؤدي إلى أمراض القلب. وفي 2015 وحدها، جرى تسجيل ما يزيد على 7.8 مليون حالة سكري جديدة وفقاً للاتحاد الدولي للسكري. وتشير البيانات الرسمية إلى أن عدد وفيات البالغين الناتجة عن السكري بلغت 78 ألفاً و184 شخصاً، لكنها في الأغلب أعلى كثيراً.

وكانت مصر ضمن دول شملتها الدراسة الصادرة عن البنك الدولي 2017 بعنوان «إطار من أجل الاستثمار في التغذية»، فهي بين أكثر 20 دولة على مستوى العالم معاناة من سوء التغذية الحاد، قياساً بأربعة مظاهر: انتشار التقزم، وقلة الرضاعة الطبيعية، والهزال، والأنيميا.

حسب بيانات البنك الدولي، هناك 4 مواد يجب أن تحرص الحكومة على توفيرها للأمهات ولأبنائهن في مصر، هي: فيتامين أ، الحديد، اليود والزنك. 4 مواد تنقذ ملايين من مخاطر التقزم والأنيميا والهزال الشديد.

نحو نصف الأمهات في مصر يعانين من الأنيميا، أو نقص الحديد.

نحو الخُمس يعانين من فقر فيتامين أ.

ويؤدي هذا إلى عدم التمكن من إرضاع الطفل لمدة 6 أشهر متواصلة، دون الاستعانة بأي غذاء خارجي، كما تقتضي توصيات منظمة الصحة العالمية. ويؤدي ذلك إلى نقص في مناعة الأطفال، كما تؤدي الاستعانة بالألبان الصناعية وبالأطعمة الخارجية إلى الإسهال الشديد المتكرر لدى الأطفال، وهو ما يزيد من الهزال، وفقدان الزنك اللازم للتعافي، فيبقى 40% منهم فريسة للأمراض المميتة.

وتضيف الكاتبة الاقتصادية سلمى حسين أنه "في يوم إطلاق نتائج دراسة البنك الدولي، امتلأ الرواق الفسيح بمئات من الحضور، حضر وزراء من عشرات الدول في إفريقيا وآسيا، وغاب الوزراء المصريون، وكل أعضاء الوفد المصري الموجود في الاجتماعات".

التقزم قد لا يقتصر على الطعام.