مسيطرون عسكرياً وفاشلون سياسياً..

لماذا تراجع نفوذ إيران
في بلاد العرب؟

أغلب حلفاء طهران ناجحون في المواجهات المسلحة لكن "رجالها" يخسرون في ساحات السياسة.

العرب يسعون لاستعادة العراق والتواصل مع سوريا واحتواء حزب الله في لبنان لتحجيم وكلاء إيران.

مصير النفوذ الإيراني بعد تقليل الدعم للأصدقاء وغضب الشارع العربي وتصاعد الصراع مع الغرب.

في السنوات الأخيرة وصلت إيران إلى العمق العربي عبر حلفاء ووكلاء وميليشيات مسلحة.

قالت التحليلات: إيران تحكم 4 عواصم عربية.
وقالت طهران: لنا 6 جيوش أسسها قاسم سليماني على التراب العربي.

الأمير تركي الفيصل، نجل الملك السعودي الراحل فيصل، وسفير السعودية السابق إلى واشنطن، وصف التوسع الإيراني وقتها بعبارة واحدة قصيرة: إن "الإيرانيين قد أمسكوا بنا من عُنقنا".

وقال رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، إن إيران أحاطت إسرائيل على مدى 30 سنة بما يشبه حلقة من القذائف الصاروخية، وفي العقد الأخير سمحوا لحزب الله بالتسلح بأكثر من 100 ألف قذيفة صاروخية. 

لكن يبدو أن الصورة تتغير على أبواب 2022.

من قلب إيران نفسها، وصولاً إلى العراق وسوريا ولبنان، يتغير المشهد التستراتيجي في الشرق الأوسط بشكل لا يتلاءم مع خطط طهران وطموحاتها.

الصورة العامة هي أنَّ توسّع إيران بلغ ذروته في 2018 ودخل منذ ذلك الحين مرحلة جديدة، لم تتعرض فيها طهران لأي انتكاسات عسكرية استراتيجية لكنها اصطدمت بجدار "الرفض السياسي" لحلفائها في أكثر من دولة عربية. 

أكبر مشكلة أساسية لإيران هي أن أغلب حلفائها في كثير من الأحيان ينجحون في المواجهات المسلحة، لكنهم غير قادرين على ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي لاحقاً.

هذا التقرير يستعرض نجاح معظم الميليشيات المدعومة من إيران في الساحات العسكرية، وإخفاق أصدقائها في دوائر السياسة المحلية، لاسيما في لبنان والعراق، إضافة إلى مستقبل النفوذ الإيراني في البلاد العربية على الصعيدين العسكري والسياسي.

هكذا أسست إيران نفوذها
في بلاد العرب

منذ سنوات يكرر المسؤولون الإيرانيون أنهم يتحكَّمون في أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد. 

منذ سنوات تُدير طهران عبر تلك البلدان الأربعة شبكة من الميليشيات يمتد عبرها نفوذها، وهي تستهلك الموارد المحلية بكثافة وترسم حلقة إقليمية مشتعلة تحاصر السعودية فعلياً. 

وحسب تقرير لموقع The Atlantic، اختارت إيران في صراع النفوذ مع خصومها العرب سلاحاً أرخص وأكثر قدرة من الجيوش والحروب الصريحة، هو الأسلوب "الميليشياتي" في الحرب، أو اللامُتماثل Asymmetrical.

أسلوبٌ منح طهران كثيراً من المزايا على حساب جيرانها الخليجيين الأكثر ثراء منها.

هم يحوزون قوات مسلحة تقليدية جيدة التسليح ولكن ضعيفة الخبرة. 

وهم عاجزون عن مواجهة النفوذ الإيراني في بلدان مجاورة، ومناطق مؤثرة في اللعبة الجيواستراتيجية.

ويمكن لإيران أن تُضيف إلى كل ذلك برنامجاً نووياً يمضي على قدم وساق.

نبدأ حكاية التوغل الإيراني في الجسد العربي من وقت الذروة، وحتى بدايات التراجع "السياسي".

في 2018: كانت إيران جاهزة بالأذرع الثلاث

كان الحديث وقتها يدور عن حرب وشيكة بين إيران وأمريكا.
ارتفعت حرارة الحرب الكلامية بين الغريمين، وسط تنامي المخاوف من اندلاع حرب حقيقية بين الجانبين. 
استبعد البعض أن تكون لواشنطن نية في خوض صراع عسكري مباشر، وهناك أسباب ثلاثة.

الأول: تلك المصاعب التي واجهها الجيش الأمريكي بعد غزوه العراق عام 2003.

والثاني: الأثر السلبي الخطير على الاقتصاد العالمي وأسعار النفط.

العامل الثالث والأكثر أهمية الذي قد يجعل إيران أكثر تحصيناً هو أذرعها العسكرية المنتشرة في عدد من الدول العربية، والتي تستغلها ورقة ضغط ضد الولايات المتحدة.
نتحدث عن العراق وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزة.

تقرير تحليلي لموقع دويتشه فيله في 2018،اعتبر التدخل العسكري لإيران في الملف السوري قد أطال أمد الحرب، وأضفى على النزاع طائفية لن تَسلم البلاد من تبعاتها في العقود القادمة. 

كما أن طهران غيّرت من معاناة أهل اليمن عبر دعمها لمجموعة الحوثيين، ليصبح اليمن مسرحاً لأسوأ كارثة إنسانية في تاريخ البشرية، وفق شهادة الأمم المتحدة. 

يضاف إلى ذلك "حزب الله"، الذراع السياسية الأبرز لإيران.

إضافة إلى ميليشيات عسكرية منتشرة في أفغانستان وباكستان والعراق.

ذهب الرئيس حسن روحاني إلى القول بأن "الدولة التي ساعدت شعوب العراق وسوريا ولبنان واليمن على مواجهة المجموعات الإرهابية هي إيران".

وأطلق النائب البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني تصريحاً كان أكثر وضوحاً، وذلك غداة سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين، قائلاً: "انضمام رابع عاصمة عربية، وهي صنعاء، إلى فضاء الثورة الإسلامية، بعد كل من بغداد وبيروت ودمشق"، على حد قوله.

ولتحقيق هذه الاستراتيجية تعتمد السياسة الإيرانية على منظومة من ثلاث قوات:

• فيلق القدس.. جيش النخبة في الحرس الثوري 
تأسس عام 1991. مهمته بقيادة سليماني، إنجاز العمليات الخارجية للنظام الإيراني. ورغم أن ميزانيته تبقى أمراً سرياً لا يخضع لمراقبة سلطة البرلمان، فإن رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان، علاء الدين بروجردي، كشف أن طهران خصصت مبلغ 300 مليون دولار لهذا الفيلق.

• الحشد العراقي والميليشيات الشيعية الأخرى
الوضع في العراق أكثر حساسية. 
بعد انهيار مؤسسات الدولة العسكرية عقب التدخل الأمريكي، سارعت إيران بخلق ميليشيات عسكرية من رحم الطائفة الشيعية، لدعم الموالين لها في الحكم، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد.

• حزب الله اللبناني
منذ نشأته في عام 1982 وهو يتلقى الدعم المالي من طهران. وتقدر تقارير إعلامية ميزانية مخصصة له بنحو 200 مليون دولار سنوياً. وتمد إيران الحزب بالتدريب العسكري وبالسلاح. ويعد الحزب النموذج الأبرز للتدخل الإيراني في المنطقة، خاصة أنه خرج عن جغرافيته الأساسية في لبنان، للدفاع عن المصالح الإيرانية إلى خارج الحدود اللبنانية. 

ودوره لم يعد مقتصراً على "الممانعة" و"المقاومة" كما روّج من قبل، بقدر ما انتقل بالأحرى إلى الخطوط الأمامية في الصراع السوري واليمني.

في 2020 أصبحت إيران لاعباً في الصراعات العربية

رغم الأزمات التي يعانيها الداخل الإيراني، كانت طهران تتوسع في نفوذها بسبع دول، خمس منها عربية واثنتان إسلامية.

ووفق خارطة نشرها تقرير ميونيخ للأمن لعام 2020، فإن إيران تتمتع بنفوذ في جارتها العراق، وتوجد سيطرة في داخل سوريا، ولبنان، واليمن، والأراضي الفلسطينية، وأفغانستان، وباكستان.

وتعتبر إيران لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط، حيث يغذي دورها نزاعات إقليمية عديدة، خصوصاً في سوريا والعراق واليمن.

وتُظهر الخارطة وجود أربع ميليشيات رئيسية على الأقل تدعمها إيران في العراق، وتضم عصائب أهل الحق، ومنظمة بدر، وكتائب حزب الله، وحركة النجباء، فضلاً عن الحشد الشعبي.

في سوريا تدين عدة ميليشيات رئيسية بالولاء لطهران، منها اللواء 313، ولواء الباقر، وقوات الرضا، وجماعات سورية مسلحة أخرى مثل ميليشيا «هاشميون»، فضلاً عن الدعم الذي تقدمه مالياً وعسكرياً لنظام بشار الأسد.

وفي لبنان، الممثل الرئيسي لإيران هو حزب الله اللبناني، الذي تستخدمه أيضاً في تنفيذ عدد من سياساتها وتدخلاتها في الدول الأخرى.

وفي اليمن، تعد جماعة أنصار الله التي تُعرف بالحوثيين، الممثل الأساسي لهم في البلاد، وهي أحد أبرز أطراف الصراع الذي راح ضحيته عشرات آلاف من المدنيين منذ 2014، حيث تصاعدت الحرب بين الحوثيين والقوات الموالية للرئيس المعترف به عبد ربه منصور هادي، والذي تبعه تدخُّل التحالف بقيادة السعودية، في مارس/آذار 2015

وفي أفغانستان تدعم طهران لواء "الفاطميون". وفي باكستان لواء "زينبيون"، ويقاتل العديد من عناصر هذين اللواءين في سوريا، وهما يضمان الآلاف من الشباب الباكستانيين والأفغانيين الشيعة.

في 2021 بدأ التراجع الإيراني بعد مقتل سليماني

في خريف 2021، نقلت وكالة مهر نيوز الإيرانية تصريحات "صريحة" للواء غلام علي رشيد، قائد مقر خاتم الأنبياء المركزي، أحد القوات الأربع التابعة للجيش الإيراني.

قال الرجل بوضوح، إن قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، أنشأ 6 جيوش خارج الأراضي الإيرانية بدعم من قيادة الحرس الثوري وقوات الجيش وهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة.

العبارة الأكثر صراحة في تصريحات رشيد هي التالية: أي عدو يريد محاربة النظام الإسلامي الإيراني يجب أن يمر عبر هذه الجيوش الستة، ومن ثم فإن العدو لا يستطيع تنفيذ مهمته بوجودها.

هذه الجيوش، وفق رشيد، تشمل حزب الله اللبناني، وقوات النظام في سوريا، والحشد الشعبي العراقي، وميليشيا الحوثيين في اليمن، مؤكداً أن تلك القوات تمثل قوة ردع بالنسبة لإيران.
كما أن إيران تدعم فصائل المقاومة في فلسطين.

وتتمسك "حماس" في علاقتها مع إيران بثوابت إبقاء التعاون ضمن حدود الدعم العسكري لمواجهة إسرائيل، دون السماح بتوظيفها في الصراعات الإقليمية، أو كأداة للقوة الناعمة الإيرانية عن طريق نشر التشيع.

كما أن حركة "الجهاد الإسلامي" رفضت ضمناً تصريحات القائد الإيراني، وأكدت في تصريحات منشورة أن علاقتها بإيران هي "لمواجهة الكيان الصهيوني، وليست مرتبطة بأي هدف آخر"، في إشارة إلى تصريحات رشيد.

كان سليماني قبل مصرعه مسؤولاً عن عمليات سرية في الخارج وكثيراً ما كان يُشاهد بميادين القتال وهو يوجه الجماعات الشيعية العراقية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

التصريحات اعتراف رسمي بدعم إيران وتمويلها للمجموعات الشيعية المسلحة في العراق، و"حزب الله" اللبناني، وحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة، إضافة إلى قوات النظام السوري، وجماعة الحوثي في اليمن التي ظلت إيران تنكر تقديمها أي دعم مالي أو تسليحي لها طيلة سنوات.

لكن تطورات الأحداث في العامين الأخيرين حملت مؤشرات "تغيير" كبير في قوة ووظائف هذه الجيوش.

فقدت إيران أعداداً غير معروفة من الجنود والضباط في سوريا والعراق، خاصة خلال الحرب مع تنظيم داعش.  

وتتعرض قواعد الميليشيات الإيرانية والحليفة لها لغارات إسرائيلية بصورة منتظمة.

وفي العراق هناك دعوات من بعض القوى العراقية لحل "الحشد الشعبي" بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم "داعش" وانتفاء الحاجة إليه.

في 2022: الصعوبات التي تواجه حلفاء إيران في العالم العربي

في ختام قمة بغداد بصيف 2021، والتي جمعت عدداً من الخصوم الإقليميين، أثار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، جدلاً بوقوفه في الصف الأول المُخصَّص لرؤساء الدول لالتقاط صورةٍ جماعية. 

صورته بين رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خرقت البروتوكول الدبلوماسي، وزادت الشكوك حول نوايا الجمهورية الإسلامية تجاه الدول العربية. 

الوزير الإيراني أمير عبد اللهيان ينتهك البروتوكول في قمة بغداد بالوقوف في صف الرؤساء (الثاني من اليمين)

إيران ليست على وشك التخلص من حلفائها العرب من غير الدول. 

إنهم يظلون قوة عسكرية قوية للغاية، ونفوذاً كبيراً للقوة الإقليمية الإيرانية في لبنان والعراق حتى لو تجاوزوا ذروة صلاحياتهم.

يمكن لجماعات -مثل حزب الله اللبناني والحوثيون في اليمن أن تجبر إسرائيل على القتال على جبهتين إن لم تكن ثلاث جبهات إذا ضربت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، فكيف تستغنى طهران عن هذه الدرع القوية؟

استراتيجية إيران في بناء خط دفاع خارجي بالدول العربية التي يسكنها ممثلون محليون أثبتت نجاحها بشكل جيد. 

أصبح حزب الله أقوى قوة سياسية وعسكرية بلبنان، ولاعباً في الحرب الأهلية السورية، ونموذجاً للميليشيات في أماكن أخرى.

وأعاق الحوثيون آلة الحرب السعودية، ويرى البعض أنهم هزموا المملكة في حرب مدمرة استمرت سبع سنوات تقريباً. 

وتبقى الميليشيات العراقية قوة في حد ذاتها. 

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الميليشيات -مثل حزب الله والجماعات المدعومة من إيران في العراق- أصبحت مرتبطة بشكل متزايد بالأنظمة الفاسدة التي ردت بعنف على الاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بتغيير شامل.

وحمّل المتظاهرون الميليشيات ذات الغالبية الشيعية مسؤولية الترويج لهوية طائفية بدلاً من هوية وطنية تتجاوز الدين والعرق.

وتلقى تحالف الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران، خسارة كبرى في الانتخابات العراقية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وشهد ائتلاف الفتح -الذي كان ثاني أكبر كتلة بالبرلمان سابقاً- تراجعاً في عدد مقاعده.


لكن هناك أسباباً للقلق الإيراني من التطورات في سوريا

ما يُقلق حزب الله وإيران هو أن الدول العربية وروسيا تبدو على الموجة نفسها في سوريا ولبنان. 

هناك تحوّلٌ لافت في مواقف السعودية والإمارات من سوريا. 

فقد أعاد الإماراتيون فتح سفارة في دمشق في عام 2018.

وظهرت في الآونة الأخيرة مؤشّرات عدّة على رغبة عربية في عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. 

أما السعوديون فقد اعتمدوا مقاربة أكثر حذراً مقارنةً مع الإمارات والعراق ومصر، ولكن المملكة تمضي نحو استئناف الاتصالات مع نظام الرئيس بشار الأسد. 

السؤال هو: ما الثمن الذي ستحاول الدول العربية وسوريا انتزاعه مقابل استئناف هذه الاتصالات؟

من الواضح أن كلمة السر هي إيران.

غالب الظن أن دول الخليج، انطلاقاً من شعورها بأن سوريا تعاني هشاشة استثنائية، إذ قُدِّرت تكاليف إعادة الإعمار في عام 2019 بـ200 إلى 400 مليار دولار، سوف تطالب دمشق بالحد من علاقاتها مع إيران. 

ربما يرفض الأسد، ولكن خياراته محدودة. 

لا توجد بلاد كثيرة ترغب في تقديم المال إلى سوريا، فيما لا يزال الأسد في السلطة، لذا لا يمكنه أن يكون انتقائياً إذا أراد إطلاق عملية إعادة الإعمار. 

ولن يكون الحدّ من العلاقات السورية مع طهران سهلاً، فالنفوذ الإيراني في البلاد واسع جداً ويمتدّ إلى عمق المؤسسات الأمنية والاستخبارية التابعة للنظام.

فإلى متى يصمد "البناء" الإيراني على أرض سوريا؟

الكاظمي يبتعد بالعراق عن "المركز" الإيراني

خلال العقد الأخير، شكَّلت إيران محوراً قتالياً موالياً لها في العراق.

طيف واسع من المجموعات الشيعية المسلحة العراقية المنضوية ضمن هيئة "الحشد الشعبي".

تشير بعض التقديرات إلى نحو 200 ألف مقاتل من مجموعات مسلحة من دول عدة تقاتل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا واليمن، منها أكثر من 100 ألف مسلح في سوريا وحدَها، وفق تصريحات لقائد الحرس الثوري الإيراني السابق محمد علي جعفري.

الكثير من ملامح هذه الخريطة يتغير الآن.

تتجه الحكومة العراقية نحو تبني سياسة جديدة تركز على الاقتراب أكثر من محيطها العربي بإعادة بناء الثقة مع دول خليجية على خلاف مع إيران، هي السعودية والإمارات، وبناء علاقات اقتصادية متميزة مع الأردن ومصر.

ومنذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء اتسمت العلاقة بينه وبين فصائل الحشد الشعبي المدعومة من إيران بالتوتر والعداء المفتوح.

ويعمل الكاظمي، منذ كان مديراً لجهاز المخابرات الوطني العراقي، على تطوير شبكة واسعة من العلاقات مع القادة وكبار المسؤولين في الشرق الأوسط. 

وحقق نجاحاً كبيراً في أداء دور الوسيط الصادق وميسِّر الحوار، ولا سيما بين إيران وخصومها الإقليميين. 

واعتمد مقاربة "صفر أعداء" في إدارته للعلاقات الإقليمية.

ما يُضفى المصداقية على سياسته بالنسبة إلى معظم دول المنطقة هو ما عُرف عنه من اعتدال وبراغماتية وعدم ميل للأيديولوجيات الطائفية، فضلاً عن كونه أقل خضوعاً للتأثير الإيراني من أسلافه.

الكاظمي لا يريد عداوةً مع إيران، بل يريد احتواءها، والتقليل من تأثيرها على القرار العراقي.

وهو يتعرَّض لضغوط من المجموعات المسلحة خارج سلطة الدولة تتمثل في مهاجمة الدول الأخرى، مثل السعودية، وتنظيم استعراضات عسكرية وسط العاصمة في تهديد واضح لسلطة الدولة العراقية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية.

ويحاول الكاظمي حث إيران على ممارسة المزيد من الضغوط على المجموعات المسلحة الحليفة لها لوقف تهديداتها للأمن والاستقرار.

وفي تطور ينمُّ عن نفاد الصبر، نقلت وكالة أسوشيتد برس الأمريكية عن مسؤولين عراقيين، قولهم إن الكاظمي طلب من السلطات الإيرانية استخدام نفوذها لوقف تهديدات الجماعات المسلحة الحليفة لها.

ترى إيران أن العراق أصبح جزءاً من نفوذها التقليدي في المنطقة، وترفض التدخل أو النفوذ الخارجي في العراق، سواء الأمريكي أو السعودي أو غيرهما من الدول التي تعتقد طهران أنها "معادية" لها.

لكن العراق بدأ في التحليق بعيداً عن المدار الإيراني، ببطء وبالتدريج.

ومنذ رحيل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني مطلع 2020، برزت خلافات بين الميليشيات والقوى الشيعية المهيمنة على الحكم منذ العام 2003.

وكشفت الانتخابات التشريعية المزيد من صراع النفوذ بين القوى الشيعية المدعومة بميليشيات مسلحة.

وجاءت الانتخابات البرلمانية في 2021 انتكاسةً للجماعات الشيعية المدعومة من إيران، إذ فاز الصدريون بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي ينظر له على أنه مستقل نسبياً عن طهران بأكبر عددٍ من المقاعد، وتراجعت قائمة الحشد الشعبي وغيرها من القوائم الموالية لإيران.

وإيران لا تقف موقف المتفرج على تراجع أدوات نفوذها في بلاد الرافدين.

في صيف 2021 قالت رويترز إن إيران اختارت مئات من المقاتلين الذين يحظون بثقتها من الفصائل الحليفة لها في العراق، لتشكل جماعات نخبوية أصغر حجماً شديدة الولاء لها، بدلاً من اعتمادها على جماعات كبيرة كان لها في وقت من الأوقات نفوذ عليها.

وتم تدريب الجماعات السرية الجديدة على حرب الطائرات المسيرة والاستطلاع والدعاية الإلكترونية.

هكذا قررت طهران العودة إلى امتلاك ناصية القدرة العسكرية، بعد أن أصبح وجود ممثليها في مركز القرار السياسي صعباً.

حروب حزب الله في السياسة الداخلية تزعج الجميع

في لبنان هناك وضع أكثر تعقيداً في أوساط الطائفة الشيعية، أو على الأقل القسم المؤيد لحزب الله. 

الحزب مدجّج بالسلاح، لكن إيران، راعيته الخارجية، غير موجودة ميدانياً في لبنان.

لذلك لا يتحدث أحد عن إرغامها على الخروج من البلاد لإضعاف حزب الله. 

بل على العكس، بنى الإيرانيون مشروعهم الإقليمي فوق ركام الخلافات العربية في لبنان والعراق وسورية واليمن، وليس من خلال عمليات انتشار عسكري مفتوحة. 

ضمن "حزب الله" تغلغله في مفاصل الدولة اللبنانية، حتى إن دخول وخروج الآلاف من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات التابعة لإيران في لبنان وغيرها، بات أمراً طبيعياً للكثيرين، بل إن الرئيس حسن روحاني أكد أن في لبنان "لا قرار دون الرجوع إلى إيران".

هذه التطورات قابلتها تحركات دولية، تمثلت في وضعه على لائحة الإرهاب، في حين وضعت دول أخرى عدداً من قادته على قائمة المتورطين في أعمال إرهابية وتمويلها.

كما يواجه حزب الله أزمة مالية بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، ما يحدُّ من حصوله على العملة الصعبة. ونتيجة لذلك، تحول رواتب الموظفين المدنيين بالحزب إلى الليرة اللبنانية المنهارة، فيما استمر الموظّفون العسكريون في تسلم رواتبهم بالدولار الأمريكي. 

كل هذا يخلق فجوات مالية واجتماعية حادّة بين الموظفين العسكريين والموظفين المدنيين في الحزب، بينما يوسّع ذلك الفجوة بين أعضاء حزب الله والطائفة الشيعية على نطاق أوسع. 

أيضاً لجأ حزب الله إلى الحد من خدماته الاجتماعية والأنشطة الخيرية للخروج من أزمته، ما يُضعف أدواته في المساعدة الاجتماعية والإنسانية ويجعلها غير كافية.

وأصبح الحزب متهماً بالمسؤولية عن مجموعة متنوعة من الأزمات اللبنانية، بما في ذلك الانفجار الهائل في ميناء بيروت في أغسطس/آب 2020، وشارك أعضاؤه في اشتباكات مسلحة اندلعت خلال الاحتجاجات ضد قاضٍ يحقق في كارثة الميناء.

وعلى الرغم من أن حزب الله ينفي ضلوعه في أعمال العنف، فإن العديد من اللبنانيين، الذين يتظاهرون في الشوارع منذ أكثر من عامين، يريدون إنهاء التدخل الإيراني في شؤون بلادهم. على نحو متزايد، هناك قلق من اندلاع حرب أهلية جديدة.

وهاهو الشارع ينتفض على نفوذ إيران في العراق ولبنان

أهم ما يواجه المشروع الإيراني في البلاد العربية هو الغضب الشعبي من تدخلات طهران ورجالها في كل مكان.

انفجر الغضب الشعبي في بيروت وبغداد ضد الفساد والطائفية عام 2019، وهو غضب استهدف نفوذ إيران وميليشياتها في البلدين. 

وجود إيران في لبنان والعراق لم يجلب أي مزايا اقتصادية لسُكَّانهما، باستثناء حلفاء إيران المقرَّبين أو حفنة من الفاسدين المتعاونين معها، وهو ما تزامن مع سقوط البلدين في قبضة الإهمال الاقتصادي، كما كتبت كيم غطاس في The Atlantic.

ولذلك تواصلت الاحتجاجات في لبنان والعراق ضد إيران وحلفائها.

تسبَّب تقلُّب المزاج العام ضد طهران في خسارة حلفائها الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالعراق في أكتوبر/تشرين الأول. 

هل يعني ذلك أن النفوذ الإيراني في العراق ينحسر؟

لا، لكنه يعني أن قبضة طهران تخلخلت قليلاً.

وفي لبنان، هتف المتظاهرون لأول مرة بشعارات مناوئة لميليشيا حزب الله وزعيمه "حسن نصر الله". حدث هذا في بعض المدن التي يُعَدُّ حضور الحزب فيها أقوى ما يكون.

وشهد صيف 2021 صداماً بين عدد من أعضاء حزب الله وأعضاء من شتى الطوائف في عدة مواقع بلبنان الذي يعجُّ بالسلاح، وأسفر الصدام عن مقتل عضويْن على الأقل من الحزب رمياً بالرصاص، ما يعني أن هالة القوة المنيعة للحزب قد تلقَّت ضربة.

منح كل هذا للجماعات المعارضة في لبنان بعض الأمل في تكرار بعض من النجاحات التي شهدها العراق بانتزاع مقاعد برلمانية من قبضة حزب الله وحلفائه، في الانتخابات المقررة بشهر مارس/آذار 2022.

ويؤكد تقرير The Atlantic أن السخط الشعبي في العراق ولبنان حقيقي.

وأن إيران تتعلَّم أن هيمنتها عبر القمع والاغتيالات تظل عملاً شاقاً لا نهاية له.

غير أن طهران ستواصل استخدام أدواتها تلك كافة، بما فيها العنف، لإحكام قبضتها، والحفاظ على مناطق نفوذها عبر الوكلاء.

لكن هل بإمكان هذا الضغط الشعبي ضد إيران أن يُترجَم إذاً إلى تغيير سياسي؟ 

الإجابة باختصار هي "لا"، أو على الأقل ليس بصورة فعّالة، لأن مناورة إيران وحلفائها الراسخين داخل لبنان والعراق عملة صعبة للغاية، حسب استخلاص الصحيفة الأمريكية.

ثم إن طهران لا تستطيع الإنفاق على حلفائها كما في السابق

نفقات إيران اليوم على الجماعات والميليشيات والأحزاب الحليفة هبطت إلى نصف ما كانت عليه عام 2014 تقريباً، وتقف عند نحو 2-3 مليارات دولار سنوياً حسب تقدير أكاديمي إيراني يعمل خارج بلاده. 

وتمويل هذه الميليشيات ليس معضلة تعوق طهران من الاحتفاظ بها، لكن هناك مشكلة أكبر.

التحدي الحقيقي الذي يواجه إيران هو المشهد الإقليمي الذي يتغيَّر سريعاً هذه الأيام، وهو عينه السبب الذي يُفسِّر عدم رغبتها في التنازل أثناء المحادثات النووية الأخيرة.

هناك ضربات إسرائيلية مستمرة على المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا.

ومنافسة إيرانية غير متكافئة مع الجيش الروسي الأقوى منها في سوريا.

وهكذا لم يعُد متاحاً أمام صانع القرار الإيراني أن يعبث بأولويات الإنفاق، والبلاد تقترب من "المشهد" الرئيسيّ في صراعها الأبدي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن ورائهما العالم الغربي.

يذهب تحليل لمجلة فورين بوليسي إلى أن إيران تعاني من إفلاس مالي وسياسي بسبب العقوبات الأمريكية والتي تجعلها غير قادرة على الاستمرار في حماية "الفاسدين من السياسيين والميليشيات التابعين لها" في العراق ولبنان.

وهذا ليس كل الحقيقة.

ثمَّة أزمة بانتظار الانفجار دوماً في رُكِن ما من أركان الشرق الأوسط.

وإذا ما وصلت المفاوضات النووية مع إيران إلى طريق مسدود، فسرعان ما ستتفاقم التوتَّرات سريعاً من جديد، وينادي بعضُها بعضاً مثل قطع الدومينو. 


وهذا ما يتغيَّر ضد إيران في مباريات السياسة والاقتصاد

شهد النصف الثاني من عام 2021 تحرُّكات مثيرة ومتعددة الأوجه على رقعة شطرنج الشرق الأوسط.

استضاف العراق محادثات بين السعودية وإيران.

وزار وزير الخارجية الإماراتي دمشق.

وطرحت مصر والأردن مقترحات لمعالجة أزمة الطاقة في لبنان.

ووقَّع كلٌّ من الأردن وإسرائيل والإمارات اتفاقاً للطاقة. 

إنه نشاط إقليمي، يتسم معظمه بالتعاون بين أطراف عدة، أكثر مما شهده الشرق الأوسط منذ سنوات. 

لكن كل هذا لا يُضعِف النفوذ الإيراني في البلاد العربية، لأن طهران موجودة بحكم شراكات وتحالفات طائفية تحكمها المصلحة قبل التحالف.

ولأن إيران نجحت في العثور على موطئ قدم على التراب العربي بسبب ضعف العرب ومشكلاتهم المزمنة.

لم يُسهم شيء في تعزيز مصالح إيران بقدر الانقسام والفشل المؤسسي داخل الدول العربية.

والتحرُّكات الاستفزازية مثل احتجاز الرياض لرئيس الوزراء اللبناني عام 2017 ومسارعتها لدخول اليمن عسكرياً عام 2015، لم تجلب سوى نتائج عكسية.

وسمحت لإيران بتعميق نفوذها في لبنان واليمن. 

غياب السعودية تقريباً عن العراق بعد سقوط "صدام حسين" كان في صالح إيران بالأخير. 

أما اليوم، فتبدو الدول العربية ماضية نحو العمل مع بعضها بعضاً عشوائياً لحل أزمات الطاقة الإقليمية، حتى إن السعودية تناقش اتفاقات بقيمة مليارات الدولارات مع العراق، تحت شعار أن السبيل الأنجع لمقارعة إيران هو طرح رؤية اقتصادية للشرق الأوسط.

وهاهي الدول العربية تصوغ رسائلها الجديدة إلى إيران بأنها لم تعُد اللاعب الأوحد في العراق ولبنان وسوريا، وإن كانت اليمن مسألة مختلفة.

نعم يسيطرون.. لكن ذلك لن يستمر طويلاً

يمكن القول إن النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط ما زال يحافظ على الأرض التي يسيطر عليها، بل يحقق انتصارات على خصومه المحليين، الذين هم من السنة في أغلب الأحوال، حسب تقرير The Atlantic Council

ولكن المشكلة أن بقدر سيطرة إيران على الدول العربية الأربع الخاضعة لها بقدر ما تسوء الأحوال في هذه الدول.

ويقدم لبنان مثالاً واضحاً على ذلك. فحزب الله في أقوى موقف له في تاريخ البلاد، وفي ذات الوقت لبنان يمر بأسوأ أزمة اقتصادية مرت بها في دولة في العالم منذ 150 عاماً، حسب البنك الدولي، وهناك تحذيرات من تعرض البلاد لخطر الجوع.

وفي اليمن يواصل الحوثيون التقدم وهزيمة الحكومة الشرعية المتحالفة مع السعودية، ولكن الأزمة الإنسانية التي توصف بأنها الأسوأ في العالم تتفاقم.

وانتصار الحوثيين يعني توقف الدعم السعودي لليمن، ما قد يؤدي إلى تفاقم خطير للوضع الاقتصادي والإنساني.

وفي العراق، لا يبدو التدهور الاقتصادي والفوضى السياسية لا مخرج منهما في ظل سياسات الميليشيات الموالية لإيران. 

في سوريا نظام الأسد انتصر على أعدائه، ولكن سوريا محاصرة، والوضع الاقتصادي متدهور بشدة خاصة بالمقارنة بالمناطق الخاضعة للإدارة الكردية أو للمعارضة المتحالفة مع تركيا.

تبدو كل مناطق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط كئيبة ومتوقفة جزئياً عن الحياة الطبيعية.

مجتمعات تواجه عجزاً في مقومات الحياة الأساسية، والإنسانية.

ومع ترسخ نفوذ إيران يزداد تحميل السكان لطهران للمسؤولية عن هذا الوضع الذي يزداد تدهوراً لأسباب عديدة أولها النفوذ الإيراني.

حتى الآن تواصل طهران وحلفاؤها السيطرة على هذه البلدان عبر خليط من التنصل من المسؤولية والعنف والتحريض الطائفي.. لكن هذه الطرق لن تستمر للأبد.