سمعوا كلماتك الأخيرة.. يا جمال!


شهادات مروعة لبعض من استمعوا لتسجيلات صوتية للدقائق الأخيرة في حياة خاشقجي قبل مقتله الوحشي بالقنصلية السعودية في اسطنبول

دخلوا مبنى القنصلية السعودية في العاشرة صباحا.

فيلا باللون الأصفر الشاحب، جسدها مزروع بكاميرات المراقبة، في شارع تصطف على جانبيه الأشجار.

قبل عام واحد، سجلت الكاميرات كتيبة الإعدام دخول إلى المبنى. كانوا 15 شخصا، كلهم يعملون في مواقع مرموقة بالحكومة السعودية.

هبطوا على اسطنبول في الظلام ذات ليلة، واتجهوا من  المطار إلى حي "ليفانت" الراقي، على بعد أمتار من مضيق  البوسفور الساحر.

قبل عام واحد، كان الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي هنا أيضا.

التقطت له كاميرات المراقبة صورةٌ وهو يعبر باب القنصلية.

الباب الفاصل بين الدنيا والجحيم.

بين الحياة والموت.

كانت هذه هي الصورة الأخيرة له. 

فقد نصبوا "الفخ".

وانتظروا وصول "الهدف".

ثم ارتكبوا جريمتهم التي فضحتها التكنولوجيا بالتفصيل المثير للرعب: الاستخبارات التركية حصلت على تسجيلات لجميع مراحل التخطيط للجريمة وتنفيذها. ولم يستمع إلى هذه التسجيلات سوى بضعة أشخاص، منهم مسؤولون كبار في حكومات غربية، ومحققون باسم منظمات دولية. 

لكن الصندوق الأسود المرعب بكامله في حوزة السلطات التركية.

صندوق يحتفظ إلى الأبد بوحشية القتلة وهم يضحكون ويدخنون قبل الجريمة وبعدها.

وفي ذكرى مرور عام على الجريمة البشعة التي أودت بحياة جمال يتذكره الأصدقاء: سلام عليك يا ابن مدينة رسول الله.

وبعد عام من رحيله الدامي، يكشف أصدقاء جدد له عن شعورهم بالصدمة بعد أن استمعوا لتسجيلات اللحظات الأخيرة في حياته.

الصدمة: هناك لحظات تشك فيها بآدمية هؤلاء الذين يستعدون لتقطيع جثة ساخنة، وهم يتحدثون عن الموسيقى، ويسخرون من القتيل. 
هناك لحظة يمكنك فيها سماع صوت جمال وهو يتحول من شخصٍ واثق وصلب، إلى شخصٍ يشعر بالخوف ثم القلق ثم الرعب المتزايد.
وهنا تعرف أنَّ هناك شيئاً مميتاً على وشك الحدوث.
شيء غير إنساني.

هذه اللحظات أصبحت "خالدة" في خزائن سرية، تنتظر الإفراج عنها، لتوثّق هذه الجريمة الوحشية.
لكن البعض استمع إليها. 

في هذا التقرير شهادات بعض من استمع لتسجيلات حصلت عليها المخابرات التركية من داخل القنصلية، من بينهم اثنان تحدثاً عنها حصرياً إلى برنامج Panorama الذي يُعرَض على هيئة الإذاعة البريطانية BBC

وفي ذكرى مرور عام على الجريمة البشعة التي أودت
بحياة جمال:
سلام عليك يا ابن مدينة رسول الله.

رثاء  أصدقائه في واشنطن بوست: صديقنا المفقود جمال خاشقجي

ماذا الذي استمعتَ إليه في التسجيلات السرية للجريمة؟

بي بي سي تسأل بعض من استمعوا إلى شرائط تحتفظ بها مخابرات
تركيا للدقائق الأخيرة في حياة جمال

جين كوربين Jane Corbin صحفية استقصائية وصانعة أفلام وثائقية لبرنامج "بانوراما" الشهير على شاشة BBC، بحثت عن شهود استمعوا للتسجيلات السرية، واختارت أن تحكي ما جرى بالتوازي مع الأصوات المرعبة التي أصبحت مثل كوابيس لا  تنتهي في الذاكرة.

التقت أنييس كالامار، المُقرّرة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو «الإعدام التعسفي» في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. أنييس قادت تحقيقا في مقتل جمال، وطلبت بإلحاح من السلطات التركية الاستماع لما دار في قنصلية الموت وقت الجريمة.

وسمحوا لها أخيرا.

سجلت مراسلة بي بي سي أيضا شهادة المحامية البريطانية البارونة هيلينا عن لحظات موت جمال خاشقجي، وذكرت ملاحظاتٍ مفصلة عن المحادثات التي سمعتها بين أعضاء فرقة الاغتيال السعودية.

وكانت تقرأ ذلك من دفتر ملاحظاتها، والرعب واضحٌ في صوتها.

التقت أيضا خديجة جنكيز، خطيبة الصحفي الراحل، التي نبّهتها إلى الخطورة الحقيقية لجريمة قتل جمال خاشقجي: إنها ليست مأساتي وحدي، وإنما مأساة للبشرية جمعاء، لكل الأشخاص الذين يفكرون مثل جمال والذين اتخذوا موقفاً مثله.

تقول مراسلة بي بي سي: إن رعب الاستماع إلى صوت شخص ما، والخوف في صوته، وأنَّك تستمع إلى شيء أثناء حدوثه مباشرةً، كل ذلك يجعلك تشعر بقشعريرةٍ في جسدك. 

تضيف: يمكنك سماعهم يضحكون. هذا فعلٌ تقشعر له الأبدان. لقد كانوا ينتظرون هناك وهم يعلمون أن هذا الرجل سيأتي وأنَّهم سيقتلونه ويقطعون جثته.

إليك شهادات من تقرير بي بي سي، وشهادات أخرى عن الإنسان جمال خاشقجي، وعن الجريمة التي نفذتها كائنات لا تعرف شيئا عن معنى كلمة إنسان

Jane Corbin صحفية استقصائية وصانعة أفلام وثائقية

Jane Corbin صحفية استقصائية وصانعة أفلام وثائقية

سألهم: هل ستحقنوني؟ 

أنييس كالامار: المكالمة الأولى مع سعود القحطاني الذي أمر بالتنفيذ

أنييس  كالامار المُقرّرة الخاصة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء 

أنييس  كالامار المُقرّرة الخاصة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء 

صممتُ على استخدام تفويضي الخاص للتحقيق في عملية القتل، في الوقت الذي ظهر فيه تردُّد الأمم المتحدة في إجراء تحقيق جنائي دولي.

واستغرق إقناع الاستخبارات التركية أسبوعا، قبل أن تسمح لي أنا وهيلين كينيدي ومترجم من اللغة العربية بالاستماع للتسجيلات.

كانت نية تركيا الواضحة في السماح لي بذلك هي مساعدتي على إثبات سبق الإصرار والترصد. 

استمع فريقي إلى 45 دقيقة مُستخرَجة من التسجيلات التي سُجِّلت في يومين حاسمين.

تبدأ التسجيلات بعد زيارة خاشقجي الأولى للقنصلية، لطلب وثائق تخص حالته العائلية. طلب موظفو القنصلية منه العودة في غضون أيام قليلة.

ولكن فور خروجه من المبنى، أجريت مكالمات هاتفية مع مسؤولين سعوديين في الرياض، وكُلُّها سجِّلت على يد الاستخبارات التركية.

المثير للاهتمام في هذه المكالمة الهاتفية هو أنها شهدت وصف خاشقجي بأنه أحد الأشخاص الذين تلاحقهم السلطات السعودية.

يبدو أنَّ المكالمة الأولى قد أخطَرَت سعود القحطاني ، الذي كان أحد مساعدي محمد بن سلمان النافذين ومدير مكتب اتصالاته، بمجيء خاشقجي إلى القنصلية.

سعود القحطاني مدير مكتب اتصالات بن سلمان

سعود القحطاني مدير مكتب اتصالات بن سلمان

لقد أمر شخصٌ ما في مكتب الاتصالات بتنفيذ العملية. 

ومن المنطقي أن نرى تلك الإشارة إلى مكتب الاتصالات على أنها إشارة إلى سعود القحطاني نفسه.

لقد ذُكِر اسمه مباشرةً في عدة حملات أخرى ضد أشخاصٍ بعينهم. 

تم  تنفيذ العملية بأيدي مسؤولين حكوميين كانوا يتصرفون بصفتهم الرسمية.

كان اثنان منهم يحملان جوازات سفر دبلوماسية. 

لست متيقنة من مدى دراية خاشقجي في تلك اللحظة بما كان فريق الاغتيال يخطط له. لا أعرف ما إذا كان قد عرف آنذاك أنَّه سيُقتَل، لكنَّه كان يظن بالتأكيد أنهم يحاولون اختطافه. وسألهم في أحد التسجيلات: هل ستحقنوني؟ فقالوا له: نعم". 

الأصوات التي تُسمع بعد هذه اللحظة تشير إلى أنَّهم كانوا يخنقونه، ربما بكيسٍ من البلاستيك فوق رأسه. وكذلك أغلِقَ فمَّه -بعنف- ربما بأيدي أحدهم أو بشيء آخر. 

في حوالي الساعة 15:00، تُظهر كاميرات المراقبة سيارات تابعة للقنصلية وهي تغادر وتتوقف عند مقر إقامة القنصل العام على بعد شارعين.

يدخل ثلاثة رجال وهم يحملون حقائب وأكياس بلاستيكية، أعتقد أنها كانت تحوي أجزاء من الجثة.

وبعدها تنطلق سيارة مبتعدة. ولم تظهر جثة خاشقجي أبداً.

في اليوم التالي، قال الأتراك إنه لا يزال في الداخل.

كانت الاستخبارات التركية قد بدأت بالفعل في فحص تسجيلات القنصلية، والتي منها المكالمات التي أُجريت قبل أربعة أيام من اختفاء خاشقجي.

فهل عرفوا في ذلك الوقت أن حياته كانت في خطر، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحذروه؟

لا أعتقد أنهم كانوا على علم بما حدث. لا يوجد دليل يوحي بأنهم كانوا يستمعون مباشرة إلى ما كان يحدث.

يُجرى هذا النشاط الاستخباراتي من حين لآخر، وقد يراجعون التسجيلات في حالة حدوث ما يستدعي ذلك. وكان مقتل خاشقجي واختفاؤه هو السبب الوحيد الذي دفعهم لمراجعة التسجيلات.

وبعد أربعة أيام من مقتل خاشقجي، وصل فريق سعودي آخر، زعم أعضاؤه أنهم جاءوا للوقوف على حقيقة ما حدث.

قبل أن يتمكنوا من جمع بعض الأدلة، لم يكن ثمة شيء، ولا حتى أدلة حمض نووي تثبت أن خاشقجي كان حاضراً.

الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن المكان نُظف جيداً وبطريقة تخفي أي أدلة جنائية.

الطبيب صلاح الطبيقي وماهر مطرب ضابط الاستخبارات السعودية

الطبيب صلاح الطبيقي وماهر مطرب ضابط الاستخبارات السعودية

في يناير/كانون الثاني، قدمت الحكومة السعودية أخيراً 11 شخصاً في الرياض للمحاكمة بتهمة قتل خاشقجي، وكان من بينهم ماهر عبد العزيز مطرب ضابط الاستخبارات السعودية، والطبيب صلاح الطبيقي، لكن العقل المدبر المزعوم للجريمة، سعود القحطاني، لم يكن من بينهم.

لم يُدَن القحطاني أو يُستدعَ حتى للمحكمة لتقديم أدلة. وقيل إنه محتجز بمعزل عن الجميع، حتى عائلته، لكنه لا يزال على اتصال مع ولي العهد.

التقرير الذي  قدمته لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة توصل إلى نتيجة حاسمة: لا يمكن وصف هذه الجريمة بموجب القانون الدولي وتحت أي ظرف سوى أنها جريمة قتل نفذتها دولة.

أنييس  كالامار المُقرّرة الخاصة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء 
في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان

ثم بدأوا يُخرسونه بالقوة

هيلينا آن كينيدي: ثمة شيء شرير ورهيب حدث في تلك القنصلية

لا أشك على الإطلاق في أنَّها مهمةٌ جاءت بأوامر من الأعلى، وأنَّ كانت مُنظَّمة للغاية، ولم تكن عمليةً مفاجئة ثانوية. 

ومن خلال الاستماع إلى التسجيلات، أعتقد أنَّ ماهر عبدالعزيز المطرب هو الذي أدار العملية. المطرب شوهد عدة مرات وهو يسافر مع محمد بن سلمان ضِمن حَرَسه الخاص.

المطرب مع محمد بن سلمان

المطرب مع محمد بن سلمان

وقيل في المكالمات التي أجريت بين القنصل العام والمطرب: لقد تلقينا معلومات تفيد بأنَّ خاشقجي سيأتي يوم الثلاثاء.

وبينما كان خاشقجي وخديجة يسيران نحو القنصلية يوم 2 أكتوبر/ تشرين أول  2018، كانت هناك محادثة هاتفية مروعة صادمة تجري في الداخل بين المطرب والطبيب الشرعي صلاح الطبيقي.

كان يتحدث عن كيفية تشريحه للجثث. ويمكنك سماعهما وهما يضحكان.

كان يقول: "عادةً ما أستمع إلى الموسيقى وأنا أقطع الجثث. وأحياناً أحتسي قهوة وأدخن السجائر".

تكشف التسجيلات أنَّ الطبيقي كان يعرف الدور المطلوب منه، فقد قال: "هذه هي المرة الأولى في حياتي التي سأضطر إلى تقطيع جثةٍ على الأرض. فحتَّى الجزارون يحتاجون إلى تعليق الحيوانات لتقطيعها". 

وكان هناك مكتبٌ مجهز للجريمة في الطابق العلوي في القنصلية، حيث كانت الأرضية مغطاة بأغطية بلاستيكية. وقد مُنِح جميع الموظفين الأتراك إجازة في ذلك اليوم.

كانوا يتحدثون عن موعد وصول خاشقجي، ويقولون: هل وصلت الأضحية؟. 

وتكشف التسجيلات أن هناك لجنة استقبال قابلته عند دخوله، وأخبرته بوجود أمرٍ من منظمة الشرطة الدولية (إنتربول) بالقبض عليه، وأنه يجب أن يعود إلى المملكة العربية السعودية.

وتُظهِر التسجيلات صوته وهو يرفض إرسال رسالةٍ إلى ابنه يؤكِّد فيها لأسرته أنَّه بخير.

ثم بدأوا يُخرسونه بالقوة.

هناك لحظة يمكنك فيها سماع خاشقجي وهو يتحول من شخصٍ واثق إلى شخصٍ يشعر بالخوف ثم القلق ثم الرعب المتزايد، وهنا تعرف أنَّ هناك شيئاً مميتاً على وشك الحدوث.

هناك شيءٌ مرعب بالتأكيد تسبب في تغيير نبرة الصوت. ويُمكن الشعور بوحشيته عبر الاستماع إلى التسجيلات.

سمعتُ خاشقجي يسأل مرتين عمَّا إذا كان يتعرَّض للاختطاف، قائلاً: "كيف يمكن أن يحدث ذلك في سفارة؟". 

أعتقد أنَّ الطبيب الشرعي تلقَّى الأوامر في تلك اللحظة من قائد الفريق.

يُمكن سماع صوت أحد الأشخاص وهو يقول للطبيب: "قطِّع جثته"، ويبدو أنَّه صوت المطرب.

ثم صاح أحدهم قائلاً: انتهى الأمر، فيما صاح شخصٌ آخر: انزع ذلك عنه، وضَع ذلك على رأسه. ولفَّه بغطاء. 

ولا يمكنني افتراض أي شيء آخر إلَّا أنهم كانوا قد قطعوا رأسه في تلك اللحظة.

وماذا عن منشار العظم المستخدم لتقطيع الجثة، التفصيل الأكثر إزعاجاً الذي ذكرته التقارير في وقت ارتكاب جريمة القتل؟

لم أسمع في التسجيل ما يشير إلى استخدام مثل هذه الأداة الجراحية. لكنني سمعتُ صوت طنين منخفض، يعتقد ضباط المخابرات التركية أنه كان صوت المنشار.

لا بد من اتخاذ إجراء حيال ما كشفته تسجيلات قتل خاشقجي.

ثمة شيء شرير ورهيب حدث في تلك القنصلية. والمجتمع الدولي يتحمل مسؤولية التمسك بإجراء تحقيق قضائي رفيع المستوى.

هيلينا آن كينيدي محامية بريطانية بارزة وخبيرة في قانون حقوق الإنسان عضو فريق أنييس كالامارالمقرِّرة الأممية المعنية بقضايا القتل خارج نطاق القضاء

هيلينا آن كينيدي محامية بريطانية بارزة وخبيرة في قانون حقوق الإنسان

هيلينا آن كينيدي محامية بريطانية بارزة وخبيرة في قانون حقوق الإنسان

أراكِ لاحقاً يا حبيبتي

خديجة: كنت أتخيل كيف سيكون حفل زفافنا وأخطط لإقامة حفل صغير

أعلن جمال خطبتنا قبل مقتله بوقتٍ قصير. 
وكنا نأمل أن نبني حياتنا معاً في هذه المدينة، لكنَّ جمال كان يحتاج إلى الأوراق الرسمية التي تثبت طلاقه كي يتزوج مرةً أخرى. 

وفي 28 سبتمبر/أيلول 2018، ذهبت معه إلى مكتب السجل المدني التركي، لكنَّ موظفي المكتب أخبرونا بضرورة الحصول على الأوراق من القنصلية السعودية.
كان هذا هو الملاذ الأخير لنا. 
كان عليه أن يذهب ويحصل على هذه الوثائق من القنصلية لكي نتزوج رسمياً لأنه لم يكن يستطيع العودة إلى بلده.
وفي يوم زيارته الأولى إلى القنصلية، اضطررت إلى انتظاره بالخارج.

خرج من المبنى آنذاك وهو يبتسم، وأخبرني بأنَّ المسؤولين فوجئوا برؤيته وقدَّموا له الشاي والقهوة.

قال إنَّه ليس هناك ما يخشاه، وكان يفتقد بلاده جداً، لذا جعله استنشاق هواء وطنه المألوف هناك يشعر بالارتياح. 

ثم كانت الزيارة الثانية يوم 2 أكتوبر.

تُظهِر إحدى كاميرات المراقبة خاشقجي وهو يدخل مبنى القنصلية في تمام الساعة 13:15 ظهراً.

أتذكر أننا كنا نسير هناك وأيدينا متشابكة، وحين وصلنا أمام القنصلية، أعطاني جمال هواتفه وقال لي: أراك لاحقاً يا حبيبتي، انتظريني هنا.

إذ كان خاشقجي يعرف أنَّ هواتفه ستؤخَذ عند مدخل القنصلية، ولم يكن يريد أن يطَّلع السعوديون على معلوماته الخاصة.

كنت أنتظر خارج القنصلية. كنت أتخيل مستقبلي، مثل كيف سيكون حفل زفافنا. كنا نخطط لإقامة حفل صغير.

انتظرت وانتظرت وانتظرت هناك، حتى بعد الساعة 15:30. 

ثم، حين أدركت أن القنصلية أغلقت أبوابها، اتجهت نحوها راكضة. 

سألت لمَ لم يخرج جمال؟

ورد عليّ أحد الحراس بإنه لا يعرف عم أتحدث.

في الساعة 16:41، شعرت باليأس واتصلت بصديق قديم لخاشقجي، كان قد أعطاني رقمه للاتصال به في حال تعرضه لمشكلة.

وهذا الصديق هو الدكتور ياسين أقطاي، وهو عضو في الحزب الحاكم التركي ولديه علاقات على أعلى المستويات.
بعد أربعة أيام، أبلغت السلطات التركية وسائل الإعلام أن خاشقجي قُتل في القنصلية السعودية.

جمال لم يستحق أياً من هذا، لقد استحق ما هو أفضل بكثير. الطريقة التي قتلوه بها قتلت كل أملي في الحياة.

خديجة جنكيز الباحثة الأكاديمية التركية
وخطيبة جمال خاشقجي

اختصر.. اخلع معطفك!

خاشقجي: كيف يمكن أن يحدث هذا في سفارة؟ لن أكتب أي شيء 

.. إنها تفاصيل جديدة تقشعر لها الأبدان.

هكذا قدمت رويترز تقريرا للأمم المتحدة نُشر في يونيو/ حزيران الماضي، لمقررة الأمم المتحدة الخاصة بالإعدام خارج نطاق القضاء أنييس كالامار. 

وكشف التقرير أنه قبل لحظات من مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وتجزئة جسده في أكتوبر تشرين الأول كان اثنان من القتلة المشتبه بهم ينتظران في قنصلية المملكة في اسطنبول‭‭‭‭‭‭ ‬‬‬‬‬‬وسط حالة من القلق بشأن المهمة الوشيكة التي بانتظارهما.

ماهر المطرب وهو ضابط بالمخابرات السعودية وكان يعمل مع مستشار كبير لولي عهد السعودية، تساءل قائلا هل ”من الممكن وضع‭‭‭‭‭‭ ‬‬‬‬‬‬الجذع في حقيبة؟“.
ورد صلاح الطبيقي وهو طبيب شرعي بوزارة الداخلية متهم بتقطيع الجثة والتخلص منها قائلا ”لا. إنه ثقيل جدا“. 
وعبر الطبيقي عن أمله في أن تكون مهمته ”سهلة“.

وواصل الطبيقي قائلا : ”سيتم بتر الأطراف. هذه ليست مشكلة. الجثة ثقيلة. هذه أول مرة أقوم بالتقطيع على الأرض. إذا أخذنا أكياسا بلاستيكية وقطعناها إلى أجزاء سينتهي الأمر. سنقوم بلف كل جزء منها“.

وفي نهاية الحوار مع الطبيقي سأل المطرب إن كان‭‭‭‭‭‭ ”‬‬‬‬‬‬خروف العيد“ قد وصل. ولم يشر الحوار إلى خاشقجي بالاسم ولكن بعد ذلك بدقيقتين دخل المبنى.

وبعد دخول خاشقجي المبنى تم اصطحابه إلى مكتب القنصل العام في الطابق الثاني حيث التقى مع المطرب الذي كان يعرفه عندما كانا يعملان سويا في السفارة السعودية في لندن قبل سنوات.

وطلب المطرب من خاشقجي أن يبعث لابنه رسالة نصية على الموبايل.

ورد خاشقجي قائلا ”ما الذي أقوله له؟ أراك قريبا؟ لا أستطيع أن أقول إني مخطوف“.

وجاء الرد قائلا ”اختصر.. اخلع معطفك“.

وقال خاشقجي ”كيف يمكن أن يحدث هذا في سفارة؟.. لن أكتب أي شيء“.

وطالب التقرير الأممي بالتحقيق مع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان ومسؤولين سعوديين آخرين فيما يتعلق بمسؤوليتهم عن قتل خاشقجي. ويعتمد التقرير على تسجيلات وأعمال بحث جنائي قام بها محققون أتراك ومعلومات من محاكمات للمشتبه بهم في السعودية.

خلص التقرير إلى أن مقتل خاشقجي كان متعمدا ومدبرا. 

وتعتقد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) وبعض الدول الغربية بأن ولي العهد أمر بقتل خاشقجي وهو ما ينفيه المسؤولون السعوديون.

التخدير الإجباري بثلاث حقنات متوالية

نشرت صحيفة Sabah التركية عن مصدر سعودي تطوع بتقديم معلومات لسفارة تركيا في  إيرلندا، أن سيف سعد القحطاني أحد عناصر فريق الإعدام وصل إلى تركيا في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر، وكانت مهمته تخدير جمال.

وبعد دخول خاشقجي إلى القنصلية، قام بتتبعه إلى الغرفة التي انتقل إليها،  وحقنه بثلاث مواد مخدرة:

100 ملليغرام من مخدر الكيتامين Ketamine

هو دواء يستخدم للتخدير الطب البيطري وفي العمليات الجراحية للأطفال وفي الجراحات الميدانية. ويستخدم الكيتامين، أحيانا، لبدء عملية التخدير قبل التخدير الشامل.

5 ملليغرام من مادة الميدازولام Midazolam

مادة تمتلك تأثيراً مهدئاً ومنوماً.

200 ملليغرام من مادة البروبوفول Propofole

مادة تستخدم في التخدير العام للمرضى قبل و أثناء العمليات الجراحية أو في بعض الإجراءات الطبية المؤلمة أو المؤذية.

بن سلمان أمر بالقتل؟

بعد التسجيلات: المخابرات الأمريكية متأكدة بدرجة "من متوسطة إلى مرتفعة"

هناك تسجيلات لأربعة مكالماتٍ هاتفية على الأقل جرت في 28 سبتمبر/أيلول الماضي بين القنصلية والمسؤولين في الرياض. وتشمل هذه المكالمات محادثاتٍ بين القنصل العام ورئيس الأمن في وزارة الشؤون الخارجية السعودية، يُخبره فيها بأنَّ هناك مهمةً سرية للغاية جرى التخطيط لها، ووصفها بأنَّها "واجبٌ وطني"، بحسب الموقع البريطاني.

بعد ظهر يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، سافر ثلاثة من ضباط المخابرات السعودية إلى إسطنبول، من بينهم اثنان كان من المعروف أنَّهما يعملان في مكتب محمد بن سلمان، أعتقد أنهم كانوا في مهمة استطلاع.

ربما كانوا يُقيِّمون مبنى القنصلية، ويحددون ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله". 

في الساعات الأولى من يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، هبطت طائرة خاصة في مطار إسطنبول، وكان على متنها 9 سعوديين، بينهم طبيبٌ شرعي يُدعى صلاح الطبيقي.

وبعد التحقق من هويِّاتهم وخلفياتهم، تعتقد كالامار أنَّهم كانوا أعضاء فرقة الاغتيال السعودية.

ونزل السعوديون التسعة في فندق موفنبيك الكبير، الذي يقع على بعد بضع دقائق سيراً على الأقدام من القنصلية.

وتُظهِر كاميرات المراقبة فرقة الاغتيال وهي تدخل القنصلية السعودية قبل الساعة 10:00 بقليل.

وفي الساعة 15:53، تُظهر كاميرات المراقبة عضوين من فرقة الاغتيال يغادران القنصلية في اتجاه قلب إسطنبول القديمة.

كان أحدهما يرتدي ملابس خاشقجي، لكنه كان ينتعل حذاءً آخر. أما الثاني، الذي أخفت القلنسوة وجهه، فكان يحمل حقيبة بلاستيكية بيضاء.

واتجها نحو الجامع الأزرق الشهير في إسطنبول. وحين ظهرا مجدداً، تغير مظهر الرجل الذي كان يرتدي ملابس خاشقجي.

وأوقفا سيارة أجرة لتقلهما إلى الفندق، وألقيا بالحقيبة البلاستيكية -التي يُعتقد أنها كانت تحوي ملابس خاشقجي- في صندوق قمامة قريب، قبل أن يتجها إلى أحد الأنفاق ويعودا إلى فندق موفنبيك.

وبحلول الساعة 18:30، كان أعضاء فرقة الاغتيال على متن طائرة خاصة متجهة إلى الرياض، بعد أقل من 24 ساعة من وصولهم.

وعلى الرغم من ضغط الأتراك المتزايد على السعوديين الذي استمر لأسابيع، رفضوا الاعتراف بجريمة القتل، قائلين في بادئ الأمر إنه كان ثمة "شجار بالأيدي" في القنصلية، ثم زعموا لاحقاً أنها "عملية مارقة".

واتبعت السلطات التركية استراتيجية تتمثل في تسريب بعض ما عرفوه للصحافة المحلية والدولية. وبعدها دعوا ممثلين من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وعدداً قليلاً من وكالات الاستخبارات المنتقاة، التي من بينها المخابرات البريطانية، للاستماع إلى التسجيلات التي تثبت أن خاشقجي قُتل على أيدي عملاء حكوميين سعوديين.

وبحسب ما أوردته تقارير، خلصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى استنتاج مفاده أنها متأكدة بدرجة "من متوسطة إلى مرتفعة" من أن محمد بن سلمان أمر بالقتل. 

واطّلع أعضاء الكونغرس على هذا الاستنتاج، ولم يساورهم أدنى شك في صحته.