مئوية لبنان:
من سويسرا الشرق
إلى الأزمة


بعد قرن من تأسيسه يغرق لبنان في الأزمة الاقتصادية والفساد والنزاعات الطائفية ويعجز عن تأسيس الجمهورية الثالثة

حدث ذلك عصر اليوم الأول من أيلول/ سبتمبر 1920.

وإلى "اللبنانيين العظماء" كان يتحدث الجنرال هنري غورو من شرفة الطابق الأعلى لقصر الصنوبر.

كان الرجل، وهو المفوّض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان، يزف لأهل لبنان الكبير خبر تأسيس دولتهم.

"أعرف أنّكم فخورون بانتصاركم، وواعون بواجباتكم، تتطلّعون إلى المستقبل بثقة، وتعرفون من جانبكم، أّنه في الأمس كما اليوم، تستطيعون الاتكال على مساعدة فرنسا".  

هكذا وُلد "لبنان الكبير" في أحضان فرنسا، الأم الراعية والمستعمر الحنون.

بعد نحو مئة عام وتحديداً في 6 أغسطس/آب 2020، وخلال زيارته الطارئة إلى بيروت بعد انفجار المرفأ، خاطب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشعب اللبناني من قصر السفارة الفرنسية، وهو نفسه قصر الصنوبر.

قال ماكرون: لن نترككم أبداً. لبنان ليس وحيداً.

خاطبت فرنسا لبنان من قصر الصنوبر في حدثين تاريخيين متناقضين، يفصلهما قرن كامل من الزمان. 

الأول كان "انتصاراً"، كمّا وصفّه غورو، أمّا الثاني فمأساة، هي الأكبر في تاريخ الجمهورية اللبنانية من حيث ظروفها الزمنية والإنسانية والاقتصادية. 

في المرة الأولى قال الجنرال غورو إنّ "لبنان الكبير جُعل لفائدة الجميع، وليس ضدّ أحد".

وفي المرة الثانية، أثناء وجود ماكرون في بيروت، قال وزير الخارجية الفرنسي إنّ هذا اللبنان نفسه مهدّد بالزوال. 

هل لبنان الكبير، بعكس ما توقعّ غورو، لم يكن فائدة للجميع؟

وكيف فقد لبنان لمسته السحرية التي ضمنت له قبل عقود ريادة ثقافية وفنية، ووضعته في قلب توازنات الشرق الأوسط وسياساته؟

هل وجود لبنان لم يعد مبرّراً، على الأقل في "شكله" الحالي؟

لم يعرف لبنان منذ الاستقلال سوى فترات قصيرة لم تتعرّض فيها السيادة اللبنانية وأعمال الدولة للعرقلة.

أحيانا بفعل الأيدي الخارجية، وأحياناً أكثر بفعل التجاذب الطائفي، وصراع المناصب والدولار. 

من جبل لبنان، إمارة التعايش الماروني - الدرزي، إلى لبنان الكبير، جمهورية التعايش المسيحي - الإسلامي خلال التاريخ المعاصر، مرّ الكيان اللبناني بمخاض عسير ولا يزال. 

ما هي أسباب استمرارية المشكلة اللبنانية؟ 

وهل خسر لبنان عضلاته الناعمة التي أنعشت بيروت قبل سنوات بالاستثمارات والحركات الفنية والثقافية؟

هذا التقرير يستعرض ميلاد وشباب لبنان منذ تأسيسه قبل قرن من الزمان، ثم دوّامة التراجع التي بدأت باندلاع الحرب الأهلية في السبعينيات، ولم تتوقف بعد توقف الرصاص.

خلال البحث في ترسيم الحدود بين رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو وبين وفد لبناني برئاسة البطريرك الياس الحويك، فإن خطأ فرنسياً وضع دمشق ضمن لبنان، كما روى العميد ريمون اده عن والده عضو الوفد إميل اده، فطلب الوفد اللبناني التصحيح.

كما رفض البطريرك الماروني ضم وادي النصارى في الشمال، لأن فيه " كثيراً من الروم الأرثوذكس".

لا يزال السوريون حتى اليوم يصفون لبنان بأنه "غلطة تاريخية"، ويرون أنه حجب البحر عن الشام.

وهو أصلاً مغامرة حرية في شرق سلطوي. 

نظام طائفي ودولة مدنية ليس في الدستور نص على دينها.

لبنان "وطن نهائي لجميع أبنائه" حسب نصوص اتفاقية الطائف، لكن هناك من يطالبون بأخذ لبنان إلى الوحدة العربية أو الوحدة السورية أو الأمة الإسلامية، بوجهيها الأصولي السني والأصولي الشيعي.

وقليلاً ما حكم اللبنانيون بلادهم، ولو في الواجهة، كما في شهادة الصحفي اللبناني رفيق خوري.

فرنسا حكمت من 1920 إلى 1943. 

الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كان يفاخر بأنه "حكم لبنان" بين 1975 و1982. 

سوريا حكمت لبنان منذ بداية الحرب حتى عام 2005. 

وأكثر من قوة إقليمية ودولية أبرزها إيران "شريكة" في الحكم اليوم بشكل غير مباشر.

لكن أستاذ القانون الدولي، المحامي أنطوان سعد يؤكد أن وجود لبنان ليس خطأً. "قد يكون أُنشئ على أسسٍ غير صلبة، إذ إن المجموعات الروحيةَ المكوِّنةَ للبلد تعمل ولا تزال، للاحتماء بالخارج، وهذا شأن الأقليات وخوفها على مدى العصور، إذ لا ينطبق ذلك على لبنان فقط". 


الموارنة يحكمون

كانت السلطنة العثمانية في 1840 قد وافقت على أن يكون الحاكم دائماً على جبل لبنان وأنطيلبنان مارونياً من العائلة الشهابية، كون سكان جبل لبنان الأكثر عدداً هم الموارنة. 

لكن الوضع الديموغرافي تغيّر في لبنان الكبير، ولم يعد كما كان زمن المتصرفية ذا طابع مسيحي. فعدد السنة والشيعة قد زاد كثيراً وأصبحت نسبتهم 45٪ مقابل 55٪ للمسيحيين.


إحصائية: عدد سكان لبنان عام 1921

استناداً إلى نتائج هذا الإحصاء تمّ توزيع مقاعد المجلس التمثيلي الأول الذي انتخب في 24 مايو/أيار 1922 على أساس نسبة عدد كل طائفة من الطوائف الموجودة في دولة لبنان الكبير.


الجمهورية اللبنانية وتكريس الطائفية السياسية والإدارية

أعلنت الجمهورية اللبنانية في 23 مايو/أيار 1926.

أُنشئ منصب رئيس الجمهورية للمرة الأولى أثناء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1926. وعلى الرغم من أنه لا يذكر في الدستور ديانة من يتولى الرئاسة، فإنه اتفق في الميثاق الوطني الموقع بعام 1943 على أن يكون من يتولى المنصب من الطائفة المسيحية المارونية. 

فاز الشيخ بشارة الخوري في 21 سبتمبر/أيلول 1943 وألقى خطبة تضمّنت مطلب الاستقلال. ولتحقيق هذا المطلب كان لا بدّ له من التفاهم مع زعيم مسلم فكان رياض الصلح الذي كلّفه تشكيل الحكومة، فتفاهما على ميثاقٍ وطني شفوي غير مكتوب من أجل تحقيق الإستقلال:

● لبنان بلد مستقل ذو وجه عربي يعيش فيه أبناؤه بحرية ومساواة.

● توزع الوظائف في لبنان بشكل عادل بين الطوائف.

● يتخلى المسيحيون عن طلب الحماية الأجنبية، بخاصة من فرنسا.

● يتخلى المسلمون عن طلب الوحدة مع الدول العربية بخاصة مع سوريا.

فرض الميثاق الوطني التفاهم بين مكوّنات المجتمع اللبناني في السلطة، فأصبح نظام الحكم توافقياً - ميثاقياً.

في لبنان ليس هنالك من غالب ومغلوب. 

سياسة توزيع الوظائف بين الطوائف بحسب وزنها الديموغرافي أصبحت مسلّمة بديهية منذ الاستقلال، لكنها باتت مصدر خلاف داخلي رغم اتخاذ معظم القرارات بالتوافق.

فؤاد شهاب يطلق طاقات هذا البلد الصغير

فؤاد شهاب يطلق طاقات هذا البلد الصغيرتولى فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية اللبنانية في الفترة من 1958 إلى عام 1964. وهو قائد سابق للجيش ورئيس حكومة عسكرية وخرّيج المدرسة الحربية بحمص.

لم يتبع فؤاد شهاب أياً من الأيديولوجيات السياسية السائدة في ذلك الوقت كما أنه لم يؤسس أي حزب سياسي. واتّبع المبادئ الإنسانية والأخلاقية العامة.

تميزت الشهابية ببناء مؤسسات اقتصادية وثقافية وتربوية واجتماعية عصرية، ساهمت في نشر الثقافة والتعليم على نطاق واسع. وانطلقت حركة اقتصادية ومالية وثقافية واسعة، عززت دور لبنان كرابط بين الشرق والغرب.

وقتها حققت النخبة اللبنانية مكاسب خيالية بسبب المرونة القصوى للأنظمة المالية والضرائبية في لبنان، التي جعلته قِبلة المستثمرين العرب والأجانب، طوال عقدي الخمسينيات والستينيات.

في تلك السنوات الذهبية التي لن تتكرر أبداً، ظهرت مهرجانات الموسيقى الدولية في لبنان: مهرجانات مثل الأرز بعلبك وصور وجبيل وبيت الدين وغيرها.

وظهرت أيضاً معارض الكتب.

مع اتساع حجم الطبقة الوسطى وتحديث آلات الطباعة، أصبح لبنان مطبعة العرب، ومكاناً مريحاً للعطلات، ومسرحاً سنوياً لأهم الأعمال الفنية.

لكن إصلاحات فؤاد شهاب بسيطرة الجيش على البلاد بدلاً من وضعه في خدمة دولة القانون والمؤسسات، كما ترصد الباحثة ليلى رعد، في كتابها "تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي 1958 - 1975".

ثم تشابكت الأزمات المحلية مع الحروب والصراعات الإقليمية، ووجد لبنان نفسه يدفع فاتورة باهظة للصراع العربي الإسرائيلي طوال سنوات الربع الأخير من القرن العشرين.

وجاء اتفاق القاهرة 1969 ليعطي المقاومة الفلسطينية حرية الحركة في بعض مناطق الجنوب اللبناني.

وجاءت مجازر سبتمبر/أيلول الأسود لتدفع بالجسم الأساسي للمقاومة الفلسطينية إلى معظم مناطق لبنان، وخاصة العاصمة بيروت.

وانتشر السلاح بين جميع اللبنانيين.

وبدأت اشتباكات اللبنانية - اللبنانية، ثم اللبنانية - الفلسطينية تزداد حدة، حتى انفجر لبنان عام 1975.


اهتزاز الميثاق: الهجرة والنزوح

عشية اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975 كان لبنان بيتاً بمنازل كثيرة، حسب تعبير المؤرخ كمال الصليبي. 

لكن هذه المنازل أصبحت في حالة صراع على المصالح والمساحات السياسية والاقتصادية، حتى انفجر الاحتقان الطائفي في صورة حرب أهلية استمرت 15 عاماً.

ليس "الغريب" الوجود الفلسطيني وضغوط الخارج فقط. 

هناك أسباب داخلية لهذه الحرب، أسباب لبنانية بحتة، لكنَّ هناك أيضاً الوافدين الجدد.

توافد فلسطينيون وسوريون إلى لبنان، وهاجر الكثيرون من الوطن الأخضر في اتجاه فرص الحياة الأفضل في المهجر.

الهجرة المعاكسة خلال السبعينيات والثمانينيات أدّت إلى خللٍ ديموغرافي.

وصحا لبنان من كابوس الحرب على اتفاق الطائف، وبدأ يحلم بدولة لا تتحكم فيها الطائفية.


جاء اتفاق الطائف ضد الطائفية.. ومعها في نفس الوقت

إنه الاتفاق الذي حلّ بدل الميثاق الوطني لسنة 1943 وفي الوقت ذاته كرّسه.

يطالب اتفاق الطائف بإلغاء طائفية مجلس النواب، ما يعني إمكانية فوز أغلبية النواب من لون طائفي معيّن وليس أن يكونوا مناصفة. 

من ناحية أخرى ينصّ الاتفاق على إنشاء مجلس الشيوخ على أساس طائفي.

المادة 95 من اتفاق الطائف، 1989، تنصّ على إنشاء هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية والإدارية في البلاد، ومن جهة أخرى تدعو إلى اعتماد التوازن الطائفي في تأليف الوزارة والوظائف العامة.

لم يحدّد الاتفاق مذهب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب ولا رئيس الحكومة، لكن العرف والتقليد استمرا بعد الطائف.

لكن بقي هذا الاتفاق المخرج الوحيد من حالة الحرب الأهلية لتحاشي الأسوأ.

من دراسة "مواجهة إرث العنف السياسي في لبنان"

من دراسة "مواجهة إرث العنف السياسي في لبنان"

منذ الخمسينيات يلعب لبنان دوراً ثقافياً متميزاً على مستوى العالم العربي. أصبحت بيروت مدينة عالمية وجامعية، وملاذ المثقفين العرب المضطهدين منذ الحرب العالمية الثانية.

كان يقال: القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. 

لبنان كان ينشر حوالي 7500 كتاباً سنوياً.

وفي دراسة أنجزت في نهاية السبعينيات أحصيت في لبنان 450 داراً للنشر.

ولبنان هو حتى الآن أكبر مصدّر للمطبوعات في العالم العربي. ومن جانب آخر، إنه المجال الوحيد الذي نجد فيه فائضاً في الميزان التجاري، على العكس من جميع الدول العربية الأخرى. وقد شكلت المطبوعات 5% من إجمالي الصادرات في عام 2003، وهو رقم كبير ويوضح الدور الثقافي الخاص لمدينة بيروت وللّبنانيين في العالم العربي.

كانت حركة ثقافية أثارت دهشة العرب، وحسدهم.

اتسعت حركة النشر والتوزيع.

وصدرت المجلات الفكرية والأدبية.

وتطور المسرح مع ازدهار الأغنية اللبنانية على أيدي الأخوين رحباني وفيروز، وروجيه عساف ونضال الأشقر، وغيرهم.

انتعشت  الحركة التشكيلية. 

وأصبحت جامعات بيروت تجتذب دور الجامعات مزيداً من الوافدين العرب والأجانب. 

وسمع العرب عن مقهى "لا باليت" الذي تشكّلت فيه حركة فنية ضمت تشكيليين ونقّاداً وأدباء ومسرحيين، منهم فاضل سعيد عقل ونزيه خاطر ومادونا غازي وغيرهم.

يكفي الإشارة إلى مجلة "شعر" التي أسست لحوارات الحداثة الشعرية وقصيدة النثر الغربية. ومجلة "الآداب" التي استقطبت على صفحاتها أسماء عدد من كبار الشعراء والكتاب العرب.

وعلى أرض بيروت ومقاهيها دارت النقاشات بحيوية عن القضية الفلسطينية والناصرية والحركات الطلابية في فرنسا وأوروبا، وحركات التحرر في قارات العالم القديم والجديد.

هكذا احتل لبنان خلال العقود الثلاثة السابقة لاندلاع الحرب موقعاً متميزاً في قلب الثقافة العربية.

ثم هناك ما تعنيه هذه "الثورة" الثقافية من توظيف الرساميل الداخلية والعربية والأجنبية في مجال الثقافة، وتزايد عدد صالات السينما والمسرح، وإحياء المهرجانات والمؤتمرات، وأثر كل ذلك في قطاعي السياحة والخدمات.

لبنان في الخمسينيات

لبنان في الخمسينيات

النموذج اللبناني الناجح.. هل انتهى في اتفاقية "الطائف"؟

في كتابه "لبنان، تاريخ مسكوت عنه"، يسميها رياض نجيب الريس "الأعجوبة" التي أظهرت الأعور اللبناني ملكاً بين العميان العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

وهي الأعجوبة التي انقلبت في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى انهيار كلي للنموذج اللبناني الممثل بالتعددية الطائفية، والديمقراطية العشائرية، والبرلمانية القائمة على الزعامات الطائفية التقليدية. 

عادت الأعجوبة اللبنانية لتنزوي في نطاقين ضيقين:

الأول: الحرية السياسية في حدود معينة يرسمها القانون اللبناني مراعاة للأنظمة العربية.

الحرية الاقتصادية بمعنى أن يستثمر اللبناني والعربي أمواله في المصارف اللبنانية بعيداً عن "اشتراكية" بلدان عربية أخرى.

عندما منح لبنان "الحريتين" لسكانه وضيوفه العرب، أصبح "سويسرا الشرق".

وصارت بيروت "باريس الصغرى".

لكن رأس المال العربي بدأ في الهروب من الأراضي اللبنانية في السبعينيات.

ثم انهارت الأعجوبة الاقتصادية في أتون الحرب الأهلية، 1975- 1990. 

كما انهارت الأعجوبة السياسية في اتفاق الطائف، الذي أجهز على بقايا الحياة السياسية في لبنان.

مع اتفاق الطائف، كما يكتب رياض نجيب الريس، بدا لو أن الستار قد أُسدل على الأعجوبة الأكبر، لبنان.


وهل فقد لبنان "الوظيفة" الإقليمية التي كان يجيدها؟

في كتابه "السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة"، وصف الصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل لبنان بأنه "دولة وظيفية".

يشرح ذلك بأن "هنالك نوعاً من الدول يستمد تأثيره من وظيفةٍ كلفته بها المعادلات الدولية، والإقليمية، ومن هذه الدول لبنان. كان تأثير لبنان بل وبقاؤه يرتبط بتراضي أطراف مختلفين في المجال الدولي، وفي المجال الإقليمي مع ضرورة وظيفته في وسط المنطقة العربية، وهكذا كان. وحين اختل تراضي الأطراف انفجر الوضع في لبنان".

وطالما كان لبنان أسير لعبة التوازنات والشد والجذب، بين أطراف إقليمية ودولية، دون الاستناد إلى حليف رئيسي، أو منظومة سياسية واقتصادية تدعمه في أوقات الشدة.

مثلاً، ترى الباحثة ليلى رعد في كتاب "تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي 1958 - 1975" أن النظام اللبناني لم يتمتع بالحصانة من "المخططات" الأمريكية، التي سمحت أو ساعدت على تفجير لبنان في عامي 1957 ثم عام 1975، ورحّبت باحتلال إسرائيل لنحو 1/10 من الأراضي اللبنانية، كما باركت احتلال العاصمة بيروت في اجتياح 1982.

استفادت "المخططات" الأمريكية من البنية الطائفية الهشة لتفجير النظام اللبناني من الداخل. 

كرر السياسيون الأمريكيون مقولة إن واشنطن مستعدة للدفاع عن لبنان شريطة ألا يسيطر جناح على آخر، أو طائفة على غيرها، أو أن يرتبط لبنان بسياسات معادية للولايات المتحدة أو إسرائيل. 


لبنان يتحدث 6 لغات أصلية على الأقل

يستعمل اللغة العربية فيه في صيغتها العامية السورية-اللبنانية، وبصيغتها الفصحى الأدبية. 

وتستعمل اللغتان السريانية واليونانية لدى الطائفتين الصغيرتين الكلدانية والآشورية. 

واستخدم اللغة التركية لفترة زمنية طويلة، إلا أن استخدامها اليومي لم يعُد موجوداً إلا في قرية واحدة في عكار.

والأرمنية هي لغة جزء كبير من أحفاد الهجرة الأناضولية. 

ويتحدث اللاجئون الأكراد اللغة الكردية. 

كل هذا بالإضافة إلى لغات أجنبية تحظى بأهمية، لا سيما الفرنسية والإنجليزية والإيطالية.

يعود بعض هذا التنوع اللغوي إلى إرث الغزوات الاستعمارية والتبشيرية، من فرنسا الكاثوليكية، إلى البعثات البروتستانتية البريطانية أو الأمريكية. 

وقد انتشرت الفرنسية بشكل واسع منذ فترة الانتداب، دون أن تطغى على اللغات الأخرى، لاسيما الإنجليزية. وحالياً، باتت الإنجليزية تنافس الفرنسية. 

جعل هذا التعدد من لبنان دولة جاذبة للشركات الأجنبية؛ كما أن اللبنانيين يستثمرون مهاراتهم اللغوية في هجرتهم في أوساط الاغتراب.

عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت، كتب حسن خليل في صحيفة الأخبار أن الضيف شبه المُقيم في لبنان في هذه الفترة، لم يترك للمنظومة السياسية الحاكمة أيّ "ستر مغطّى". لقد كشف عورتها بالكامل: تبعية مطلقة وانصياع أعمى، ولهاث وراء الرضا، وبطريقه كشف الثقب الأسود الموجود في بعض الشارع.

بين إعلان قيام دولة "لبنان الكبير" واللحظة التي تتحدّثون بها، مئة عام انقضت. وإذا تمعّنا في ما نحن عليه اليوم، فإنّنا سنجد مزارع المذاهب والطوائف ورعيانها قد نمت وكبرت مدعومة بخطاب مذهبي "يلعلع" مواقف وانقسامات وحتى رصاصاً؛ يجرف معه معزوفة "العيش المشترك" والتنوّع.

ويوجّة الكاتب سؤاله للرئيس ماكرون: هل ستصدق بأنّ أصحاب السلطة اليوم، المجتمعين معكم "بالجملة والمفرق"، سيعطون الشعب اللبناني دولة يمكن أن تطيح بامتيازاتهم، وتذهب بمصدر قوتهم؟ 

من يحكمون باسم الأرض والسماء، حاملين مفاتيح بوابات الخلاص من آثام الحياة بأيديهم، يمنحون صكوك الغفران لمن يشاؤون ومن غير حساب، كيف لهم أن يفعلوها؟

كيف لهم أن يباركوا انتقالاً سلساً، من دولة المزارع؟


بطاقة تعارف: الطائفية والمحاصصة

يعترف لبنان رسمياً بـ 18 مجموعة أو "طائفة" دينية، تشمل 12 طائفة مسيحية و4 إسلامية، إضافة إلى الدرزية والديانة اليهودية. 

تتقاسم هذه الطوائف حكم البلاد بمزيج من تقاليد وقوانين تعود إلى حقبة الحكم الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى. 

غير أن 6 منها فقط تمتلك حضوراً سياسياً، وهي: من المسيحيين: الموارنة، والأرثوذكس، والكاثوليك، ومن المسلمين: السنّة، والشيعة، إضافة إلى الدروز.

هناك من يتمسك بنظام المحاصصة، باعتبار أن إسقاطه يهدد حالة السلم الأهلي النسبي الذي تعيشه لبنان، لأن تقاسم الطوائف للسلطة هو صمام الأمان الوحيد الذي جرّبوه في بلد بهذه التركيبة الطائفية المعقدة.

يقول المنتقدون إن النظام القائم يرتكز على أسس من المحسوبية ومحاباة الأقارب، ويستخدم فيه السياسيون الأموالَ العامة لمصلحتهم الخاصة، ويضخّمون القطاع العام بضمِّ أتباعهم إليه لاسترضاء دوائرهم الانتخابية. 

وانتقد البنك الدولي، في عام 2016، انعدام الفاعلية الاقتصادية للبلاد، بسبب استناد التوظيف إلى الطائفة التي يهيمن أتباعها على مؤسسة بعينها، وليس الأهلية ولا الكفاءة. 

وتؤدي المحاصصة في غالب الأحيان إلى حالات من الجمود والشلل السياسي لدى ظهور أي نزاع، وإلى مدد فراغ طويلة في السلطة، كما يحدث في منصبي رئيس الدولة ورئيس الحكومة.

هناك أكثر من طرف طائفي/ سياسي يرفض التخلص من المحاصصة.

أهم هذه الأطراف حزب الله، وحركة أمل، وتيار المستقبل، والتيار الوطني الحر، والطائفة المارونية. وبادرت هذه الأطراف بانتقاد الحراك بصورة مباشرة أو ضمنية، باعتبار "مطلب إسقاط المنظومة السياسية بأكملها يخدم غايات سياسية لقوى محلية أو أجنبية".

تتمسك معظم هذه الأطراف بدفء الوجود في المشهد السياسي بقوة الحصة الطائفية.

الطائفة المسيحية من أكثر الفئات اللبنانية حرصاً على المحاصصة، وتحديداً المارونية السياسية، لأن ذلك سيفقدها امتيازات كبيرة مع زيادة الخلل الديموغرافي لصالح شركائها في الوطن من المسلمين. 

ومن هنا تتردد الدولة اللبنانية في إجراء أي إحصاء رسمي حديث.

والسبب هو الخوف من معرفة حجم التناقص في عدد المسيحيين بسبب الهجرة الدائمة، والحد من المواليد الجدد لدى الطائفة التي تستحوذ على نصف الوظائف في جميع مؤسسات الدولة، في حين ينمو عدد المسلمين بشكل يكاد يتضاعف كل بضعة عقود.

لبنان لا يموت.. لأنه لم يولد أصلاً

هو ليس بلداً، كما يطمح اللبنانيون. 

هو مزرعة يتولى إقطاعيون إدارة بقع جغرافية فيه، وتنتخبهم شعوبهم. 

كما في النظام المقاطعجي، يعمل هؤلاء لتسديد ديون استدانها ولاة الأمر السياسيون، أو قامروا بها، أو نقلوها إلى خزائنهم. 

وفي المقابل، لا يحصلون إلا على ما يبقيهم أحياء من أكل ومشرب مدعوم من المصرف المركزي. 

قوة لبنان في ضعفه؟ 

ينسحب المبدأ على أحوال اللبنانيين وخدماتهم، على أمنهم الشخصي، على معيشتهم وشروط البقاء أحياء. 

ضعفاء، ونعيش على مائدة الدول المانحة التي أغدقت علينا مساعداتها الطبية والغذائية، وفرق البحث عن ناجين وأشلاء.. 

ومن المثير للسخرية جلد الدولة، أو انتقادها. فهي أصغر من أن تُنتقد، لأن النقد سيكون اعترافاً بها كدولة. 

هي كيان، ليست أكثر من ذلك، له ظروفه، ولم يحكمه من يحبه، بل حكمه من يوالي الخارج، ليبقيه على حاجته. 

لبنان لم يمُت، لأنه لم يتم إنشاؤه أساساً كدولة، بل كمحافظة تابعة، تنقل ولاءها من فرنسا إلى مصر ثم الولايات المتحدة ثم سوريا والخليج وإيران، وتعود الآن إلى فرنسا... 

إنها رحلة التحول لولاة ينقلون تبعيتهم من دولة إلى دولة، حين يُجلون بالعصي على الأبواب العالية. 

أما اللبنانيون، فليسوا أكثر من رعايا ينتظرون الترحال في بلاد الله الواسعة. 

رياض نجيب الريس | من كتاب "التاريخ المسكوت عنه"

رياض نجيب الريس | من كتاب "التاريخ المسكوت عنه"


أخيرا..
توازن المجتمع بديلاً عن التوازن الطائفي

تقوم الحياة السياسية في لبنان على ما يمكن تسميته "التكاذب التاريخي" بين نخب الطوائف وزعمائها، برأي رياض نجيب الريس.

هذا التكاذب هو المسؤول عن "لعبة" أصبحت بين الثوابت المؤسسة للعنف المسلح والحروب الأهلية الباردة والمستمرة.

في البدء كانت الطائفية.

ثم الفساد الإداري والمالي، وسماسرة العهود الاستقلالية المتعاقبة التي تضم حاشية العائلة والأقربين. 

استمر حكم الزعامات ذات الجذور العائلية القديمة في قيادة النظام السياسي اللبناني قبل الاستقلال لعقود طويلة بعده. 

وتضخم دور الطائفية كثيراً لتتحول إلى مذهبية ضيقة تعمل على تدمير الوحدة الوطنية في لبنان.

قبيل اندلاع الحرب اللبنانية وعشية وفاته في عام 1973، سُئل الرئيس الأسبق فؤاد شهاب ما إذا كان ينبغي أن يظلّ مستقبل لبنان قائماً على توازن الطوائف. وعلى الرغم من أهمية هذا التوازن بالنسبة لفؤاد شهاب فقد رد بكل الدقة على السؤال.

إنّ المشكلة الأساسية في لبنان اليوم وغداً هي مشكلة مجتمعية. 

ينبغي أن نعمل في لبنان على إيجاد توازن مجتمعي لا وجود له اليوم. 

أعتقد أن المأساة ما زالت راهنة اليوم أكثر من ذي قبل، إذ إنني لم أستطع إلا إرساء بعض الأسس اللازمة للانطلاق بمشروع لا بدّ أن يكون طويل النفس.

انتهت إجابة الرئيس الراحل، لكن أحدا لم يسأل نفسه عن شروط "التوازن المجتمعي" المثالي لبلد بظروف لبنان.

"تعلمنا، نحن اللبنانيين من التجارب، أن لا تاريخ حقيقياً لنا، طالما أن هذا التاريخ يشبه الحاضر، ويتماهى معه المستقبل". 

هكذا يكتب فواز طرابلسي في كتابه "“تاريخ لبنان من الإمارة إلى اتفاق الطائف"، مضيفاً: لا يوجد تاريخ حينما يكرر التاريخ نفسه بلا كلل ولا رحمة.