ماكرون.. هل يصلح لزعامة أوروبا؟

الرئيس الفرنسي يحاول الاستفادة من "الفراغ" بعد رحيل ميركل
ويطرح فكرته الجريئة بالاستقلال عن أمريكا عسكرياً وسياسياً.. لكن
هناك الكثير من العقبات تحاصر حلم فرنسا بقيادة منفردة لأوروبا

أخيراً غادرت المستشارة أنجيلا ميركل منصبها بعد 16 عاماً باعتبارها الشخصية المهيمنة في السياسة الأوروبية.

إنها اللحظة التي ينتظرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتقدم ببطء نحو عرش القارة.

ماكرون، الذي يثير الارتباك لدى شركائه الأوروبيين وواشنطن بأسلوبه المتهور أحياناً.

ماكرون الذي طرح أفكاراً من أجل أوروبا أكثر استقلالاً وتكاملاً، وأكثر قدرة على التصرف في قضايا الدفاع والمصالح الخاصة.

ماكرون الذي يخلط أوراقه المحلية بطموحاته القارية، وهو يحلم بانتصار سيكون الأصعب، في رئاسيات فرنسا نهاية 2022.

ويحاول المسؤولون الفرنسيون، بالفعل، تمهيد الطريق أمام رئيسهم للصعود الأوروبي.

ويتطلعون إلى بداية 2022 عندما تتولى فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.

لكن على الرغم من الفراغ الذي تتركه ميركل، فمن غير المرجح أن يولد عهد ماكرون.

وبدلاً من ذلك، يقول المحللون إن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو فترة طويلة من عدم اليقين والضعف المحتمل، إن لم يكن بالضرورة انحرافاً. 

خلْف هذا التشاؤم هناك عدة أسباب، ربما كان أقلها تأثيراً أنه لن تكون هناك شخصية واحدة -ماكرون أو المستشار الألماني الجديد- قادرة على امتلاك التأثير الكاسح للسيدة ميركل. 

لكنْ هناك أسباب أكثر أهمية.

في هذا التقرير نستعرض الأداء الاستثنائي للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على رأس الاتحاد الأوروبي، والمنافسة بين برلين وباريس على الزعامة، ثم خطة ماكرون الأوروبية، واحتمالات النجاح والفشل في طموحه لقيادة الاتحاد الأوروبي.

عصر السيدة ميركل

سياسات ألمانيا أنقذت أوروبا من التفكك بعد خروج بريطانيا وأدهشت الجميع بالتعامل الجريء في قضية اللاجئين

الآن تغادر، بعد 16 عاماً ونحو 100 قمة للاتحاد الأوروبي، حضرتها بصفتها أقوى زعيم في أوروبا.

بالنسبة لألمانيا كانت عصراً كاملاً متميزاً منذ الحرب الثانية.

وبالنسبة للاتحاد الأوروبي ستكون نهاية حقبة. 

شهدت المستشارة الألمانية العديد من القادة يأتون ويذهبون، بما في ذلك 4 رؤساء فرنسيين و5 رؤساء وزراء بريطانيين و8 رؤساء وزراء إيطاليين.

هيمنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشخصيتها القوية ومهاراتها السياسية على القرار الألماني خلال أصعب المراحل، وتمكنت من الحفاظ على البلاد، قوة اقتصادية أولى في أوروبا، واضطلعت بدور رئيسي في قرارات الاتحاد الأوروبي، خصوصاً إبان الأزمة المالية التي عصفت بالغرب عام 2008.

هي صاحبة الفضل في الحفاظ على الاتحاد الأوروبي معاً خلال أكثر من عقد من الأزمات المستمرة، منطقة اليورو والهجرة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وترامب ثم فيروس كورونا.

إلا أن النقاد يأسفون على ما يرون أنه افتقارها إلى الرؤية. بالنسبة للبعض، كان نهجها هو القيادة عن طريق البصر.

كانت تتنقل في كل أزمة مثل السائق على طريق ضبابي، تتخذ القرارات على نحو فوريّ وفقاً لما تراه الآن.

وتتقدم للأمام، غير متأكدة من المكان الذي تتجه إليه، ولكنها تحتفظ دائماً بالسيارة على الطريق.

هكذا قادت عملية الإنقاذ المالي لليونان في الأعوام التي تلت، على رغم التوتر الذي ساد العلاقات بين برلين وأثينا. 

وكانت ميركل في صلب عملية التفاوض مع بريطانيا خلال عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، ما ساعد على معالجة الآثار التي خلّفتها عملية "بريكست" على تماسك الاتحاد واستمراره كمشروع راسخ وركيزة للاستقرار منذ عام 1957. 


الهجرة: إذا لم نُظهر لهم الود فليس هذا بلدي

الذين انتقدوا موقف ميركل من المهاجرين كانوا يخشون كل هذه الجرأة. 

والاتحاد الأوروبي لا يزال حتى الآن يحاول التكيف مع قرارات ميركل الوطنية بشأن الهجرة. 

أثناء زيارتها لأحد مخيمات اللاجئين في أواخر أغسطس/آب 2015، قالت ميركل إن ألمانيا يمكنها إدارة أعداد كبيرة من الأشخاص الفارين من الحرب والاضطهاد.

بعد فترة وجيزة، فتحت حدود ألمانيا لعشرات الآلاف من السوريين وغيرهم من اللاجئين الذين شقوا طريقهم عبر البلقان. وبضربة واحدة، قامت بتمزيق اتفاقية دبلن الخاصة بالاتحاد الأوروبي والتي تتطلب من طالبي اللجوء طلب اللجوء في أول دولة في الاتحاد الأوروبي تصل إليها، كما كتبت the guardian.

في حين أن اندماج اللاجئين في ألمانيا يمثل قصة نجاح لا توصف، فقد تُتهم ميركل بتشجيع مئات الآلاف على القيام بالرحلة الخطيرة عبر البحر الأبيض المتوسط. 

قالت في وقت لاحق: "إذا لم نظهر وجهاً ودوداً، فهذا ليس بلدي". ويقول حلفاء سياسيون إن المستشارة كانت قلقة أيضاً من تدفق اللاجئين الذي يزعزع استقرار الدول الهشة سياسياً في غرب البلقان.


كسبت موقعة اللاجئين بعد المخاطرة بمستقبلها

كان قرار ميركل بعدم إغلاق حدود ألمانيا في وجه اللاجئين من أكثر الأحداث إثارة للجدل في عام 2015.

كان التصرف الوحيد المسؤول في ذلك الوقت، لأنه خفّف ضغطاً كبيراً عن الجيران الأوروبيين الأصغر ودول البلقان.

والأسوأ من ذلك كله هو أن الأزمة غذّت صعود الحركات اليمينية المتعصبة للأعراق والقوميات بطول أوروبا وعرضها. 

وساد التمرد داخل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وكانت ميركل أقرب لفقدان وظيفتها من أيّ وقتٍ مضى، إذ أُعيد انتخابها عام 2017 بأسوأ نسبة تصويت لحزبها في حقبة ما بعد الحرب (33% من الأصوات الشعبية)، كما اضطرت للتفاوض على تشكيل حكومة لمدة خمسة أشهر في سابقةٍ هي الأولى من نوعها.

ولكن واقعياً بعيداً عن الضجة الشعوبية بشأن استقبال اللاجئين السوريين، فإن ألمانيا استفادت من هذه الهجرة، وبدأت تستوعبها، وقد أشادت اتحادات أصحاب الأعمال الألمانية بالتقدم الذي تَحقق في تدريب وتوظيف اللاجئين.

إذ أتقن أكثر من 10 آلاف لاجئ وصلوا إلى ألمانيا منذ 2015 اللغة بما يكفي للالتحاق بجامعة ألمانية، ويعمل أكثر من نصف اللاجئين الذين وصلوا إلى ألمانيا ويدفعون الضرائب. ومن بين الأطفال والمراهقين اللاجئين، يقول ما يزيد على 80% إنهم لديهم شعور قوي بالانتماء لمدارسهم الألمانية، وبأنهم مثل أقرانهم. 

تلاشى شبح الإرهاب في السنوات الأخيرة، رغم تحذيرات كثيرة بأنه سيضرب أوروبا مع تزايد أعداد المهاجرين.

وبعد سلسلة من سبع هجمات بدافع إرهابي في ألمانيا في عام 2016، بلغت ذروتها باقتحام شاحنة سوق عيد الميلاد في برلين، لم تشهد ألمانيا أية هجمات أخرى على مدار السنوات الثلاث الماضية.

النجاح الأكبر للمستشارة المتقاعدة هو انفرادها بقيادة الاتحاد الأوروبي، رغم أنه "إرث" مشترك بين بلادها وفرنسا، كما تشرح السطور التالية

فرنسا تتمرد على "الأخ الأكبر"

باريس تخطط لقيادة أوروبا منذ الحرب الثانية وترى أن الوقت قد حان للتقدم نحوها

بعد ميلاد الاتحاد الأوروبي في صورته الأخيرة، وجدت ألمانيا نفسها في مقعد القيادة.

دول الاتحاد الأوروبي الـ27 تمتلك 16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، نداً اقتصادياً لكل من الولايات المتحدة والصين، وتتفوق كثيراً على روسيا. 

وتعتبر ألمانيا أكبر ممول لميزانية الاتحاد الأوروبي بنسبة 25.82% من إجمالي الميزانية، تليها فرنسا بنسبة 21.01%، ثم إيطاليا بنسبة 14.05%.

هكذا تقبّل الأوروبيون، وبعضهم على مضض، فكرة الأخ الأكبر الألماني أو القيادة الألمانية للاتحاد الأوروبي، خاصةً أنها مُموِّلته الأولى.

ولكن الواقع في الاتحاد الأوروبي أن هناك قيادة مشتركة ألمانية فرنسية، وهذه القيادة تتم مجاملتها في عديد من الموضوعات، ولكن بما أن فرنسا مشكلاتها المالية والسياسية أكبر، فإن مقدار المجاملة لفرنسا يبدو أوضح.

تستغل فرنسا مكانتها في تاريخ أوروبا الحديث وموقعها بقلب جغرافية أوروبا ودورها في تأسيس الاتحاد الأوروبي، لتزعم لنفسها دوراً أكبر من حجمها بأوروبا، وهو ما أفضى في النهاية إلى تقزيم إيطاليا المثقلة بتفتُّتها السياسي ومشاكلها المادية وعجوزاتها المالية المتفاقمة، وضعف الدولة المركزية في البلد الذي استعاد وحدته قبل قرن ونصف القرن فقط.

جرى العرف على أن ألمانيا تتسامح؛ بل تشجع ضمنياً مجاملات الاتحاد الأوروبي لفرنسا في إطار اقتسام للزعامة الأوروبية، فيما يشبه الصفقة الضمنية بين البلدين.

تسلّم فرنسا بالتفوق المادي الألماني.

وتسلم برلين بالدور التاريخي والسياسي الفرنسي.

لو تفردت ألمانيا بالزعامة دون باريس، فإن ماضيها النازي يعرقلها.

وفرنسا لا تستطيع أن تنفرد بالزعامة؛ لنقص قدراتها المالية.

لكن أي مستشار ألماني يحمل نفوذ بلاده إلى مكتبه. 

ألمانيا هي القوة البارزة في الاتحاد الأوروبي: أغنى اقتصاد، وأكبر دفتر شيكات. 

يقول جيم كلوس Jim Cloos، الذي تخلى مؤخراً عن منصبه كمسؤول كبير في مجلس الاتحاد الأوروبي إنه "من الواضح أن أي مستشار ألماني سيلعب دوراً رئيسياً في الاتحاد الأوروبي".

لكن الفرد يحدث فرقاً. 

وعندما تحولت المجموعة السياسية في الاتحاد الأوروبي، مع تقليص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من مجموعة الدول الأعضاء المحافظة مالياً، دعمت ميركل خطة غير مسبوقة للاقتراض المشترك من الاتحاد الأوروبي، والتي نتج عنها صندوق تعافي كوفيد بقيمة 750 مليار يورو في يوليو/تموز 2020.

شروق وغروب المحور الفرنسي الألماني 

وبدأت مساعي فرنسا لزعامة أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة.

ظهر المحور الألماني الفرنسي من أجل تعزيز دور الاتحاد الأوروبي إقليمياً ودولياً.

وفي 22 يناير/كانون الثاني 1963 وقعت ألمانيا وفرنسا معاهدة الإليزيه للتعاون والتنسيق. 

ثم عاد المحور الألماني الفرنسي ليبرز على الساحة بالتزامن مع إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2017.

وحظيت فكرة زعامة فرنسا للاتحاد الأوروبي بقبول عام عند الألمان، إذ تتفوق فرنسا عسكرياً وتمتلك سلاحاً نووياً بالإضافة إلى أنها عضو دائم في مجلس الأمن.

وفي بداية 2019 وقعت ألمانيا وفرنسا معاهدة أخن التعاون والتكامل، والتي تنص على تنسيق أوثق في السياسة الأوروبية على جميع الأصعدة.

لكن المحور الفرنسي الألماني يواجه الآن العديد من التحديات، منها تضارب المواقف في أكثر من ملف، بالإضافة إلى ارتفاع شعبية الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في شعبيتها في العديد من الدول الأوروبية.

وهناك عقبات على الأرض تمنع القطبين من العودة للتعاون في حكم الاتحاد الأوروبي، وتوجيه دفة القارة اقتصادياً وسياسياً.

هناك حالة أوروبية مطلقة من انعدام الثقة.

الفرنسيون والألمان يتبادلون عدم الثقة. 

والإيطاليون لا يثقون بأي منهما.

وباقي بلاد الاتحاد تنظر بكثير من الريبة نحو العاصمتين الكبيرتين، وهذا دون التفكير في "دفة مشتركة" بين البلدين لقيادة أوروبا.

فهل يعتقد ماكرون أنه الظرف المناسب لفرنسا كي تنفرد بزعامة المنظمة العريقة؟ هذا ما تحاول السطور التالية الإجابة عنه.

رؤية ماكرون الأوروبية

جيش موحد وميزانية مشتركة للدفاع ومواجهة واضحة مع الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة

"أوروبا ديمقراطية، وموحدة، وذات سيادة".

هذه رؤية ماكرون التي حددها في خطاب بالغ الأهمية بجامعة السوربون في باريس، إذ لا تُعتبر المطالبة باتحاد أوروبي أكثر وحدة وديمقراطية تطوراً جديداً، لكن تأكيد قائد دولة كبيرة بشغف أن التكامل الأوروبي يعزز السيادة الوطنية بدل أن يضعفها خطوة غير مألوفة.

ماكرون يعتبر أن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً من التزاماتها تجاه الأمن الأوروبي في وقت تزداد فيه تلك البيئة الاستراتيجية صعوبة.

ويرى أن على الأوروبيين تحمّل مسؤولية أكبر في صون أمنهم، ولا مفر من تعاونهم معاً بما أنه ما من بلد يستطيع التأقلم وحده.

من أجل ذلك طرح ماكرون أيضاً ثلاثة اقتراحات أخرى لافتة للنظر: 

  • إنشاء قوة تدخل مشتركة.
  • ووضع ميزانية دفاع مشتركة.
  • والتوصل إلى عقيدة عمل مشتركة.


الجيش الأوروبي لمحاربة روسيا والصين.. وأمريكا

في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلن الرئيس الفرنسي أن النظام السياسي العالمي يعاني "أزمة غير مسبوقة"، داعياً إلى تحالفات من نوع جديد وإلى التعاون لتسوية مشكلات العالم.

وجاء تحذير ماكرون بعد أيام على صدور مقابلة أجرتها معه مجلة "ذي إيكونوميست"، رأى فيها أن الحلف الأطلسي في حالة "موت دماغي" وأن أوروبا أمام "خطر كبير بأن تختفي عن الخارطة الجيوسياسية مستقبلاً أو أقله ألا نعود أسياد مصيرنا"، وأثارت تصريحاته صدمة في العواصم الأوروبية.

هكذا طرحت فرنسا دعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد لحماية أوروبا من التهديدات الصينية والروسية والأمريكية. 

وبالرغم من مساعي الاتحاد الأوروبي لتطوير قوته العسكرية وامتلاكه مقومات عسكرية قوية، لكن التحديات حول إنشاء جيش أوروبي كبيرة والخلافات أكثر.

هناك عدة أسباب تعوق بناء جيش أوروبي أبرزها:

  1. الافتقار إلى عقيدة عسكرية موحدة.
  2. الافتقار لقوة عسكرية للتدخل السريع وقيادة مشتركة.
  3. دول البلطيق وأخرى في شرق أوروبا، لا ترغب في التخلي عن المظلة الأطلسية، الناتو.

لكن تطوير عقيدة عسكرية مشتركة فاعلة قد يكون أكثر صعوبة من إنشاء قوة مشتركة أو وضع ميزانية مشتركة. 

العقيدة العسكرية الفاعلة هي التي تساعد القوات المسلحة على التخطيط، والتدرّب، والعمل معاً. هي التي توجّه الجيوش للتأقلم بنجاح مع الحالات الطارئة في المستقبل، وهذه ليست بالمهمة السهلة.

تطوير عقيدة وطنية يعني العمل على أكثر من مجال، وليس مجرد التفكير العسكري.

ويبدو دمج وجهات النظر المتباعدة التي تتبناها حكومات الاتحاد الأوروبي تحدياً أكبر، نظراً إلى ثقافاتها الاستراتيجية المتباينة.

ماكرون أقر بمدى صعوبة التوصل لمثل هذه العقيدة العسكرية الأوروبية، وأكّد أنه لا يملك خطوطاً حمراء بل "آفاقا" فحسب.

أما أكبر الخلافات بشأن "التوحيد العسكري" لأوروبا، فتكمن في التفصيلة الأولى للمشروع الضخم، وهي تطوير الصناعات العسكرية، المشروع الذي لم يكتمل بسبب "عنجهية" فرنسا.

الجيش الأوروبي الموحّد يقتل حلف الناتو

ومن الواضح أن المسؤولين البريطانيين قد رفضوا فكرة الجيش الأوروبي على اعتبار أنه "سيقوّض وينافس الناتو". 

إنشاء جيش قادر على القتال ضد "عدو" كبير مزود بالتقنيات المتطورة، مثل روسيا، سيحتاج إلى فرق وألوية كاملة مزودة بكافة التجهيزات التي يحتاجها جيش معاصر.

يحتاج إلى الغطاء الجوي ووسائل النقل الجوية والإلكترونيات ومنظومات استطلاعية. وفي الوقت الراهن تقدم الولايات المتحدة معظم هذه القدرات والتجهيزات.

القضايا الدفاعية تهز حلف الناتو وتدفع الأوروبيين إلى التزوّد بقدرات للتحرك من أجل الدفاع عن مصالحهم بشكل مستقل.

لكن الخلافات الداخلية تقوض مصداقيتهم. 

الجيش الأوروبي الموحد ستكون له العديد من “الحلقات الضعيفة”، أكبرها السياسية. 

فالأوروبيون لا يشكلون جبهة واحدة لا في الاتحاد الأوروبي ولا في حلف الأطلسي.

والخلاف الأكبر يدور هنا: بين فرنسا وألمانيا.

أوروبا تنقسم على مشروع المقاتلة الحربية بسبب فرنسا 

في المشروع الأوروبي المقترح لإنتاج طائرة جيل سادس، كانت باريس ترفض مشاركة التكنولوجيا الخاصة به مع شركائها الأوروبيين مثل ألمانيا، وهو الأمر الذي أغضب الأخيرة التي غالباً ستدفع الجزء الأكبر من الأموال.

باريس تريد احتكار القيادة حتى لو لم تكن مؤهلة.

وظهر ذلك واضحاً في تاريخ الطائرتين رافال الفرنسية ويوروفايتر الأوروبية التي شارك في تصنيعها كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.

في البداية كان مشروع الطائرتين واحداً بهدف إنتاج طائرة أوروبية مشتركة، ولكن باريس أصرت على مواصفات معينة مختلفة عن بقية الدول.

وعلى أن تقود هي المشروع.

والأهم أنها أصرت على أن يكون المحرك فرنسياً، وليس بريطانيّاً، رغم أن بريطانيا أكثر تقدماً في مجال صناعة المحركات منها.

ومع رفض الدول الأوروبية للشروط الفرنسية، خرجت باريس من المشروع لتؤسس مشروعها الخاص "رافال".

والمفارقة أن نقطة ضعف الرافال هي المحرك الذي كانت باريس مُصرة على دمجه في الطائرة الأوروبية المشتركة المقترحة التي أصبحت فيما بعد مقاتلة يورو فايتر تايفون Eurofighter Typhoon.

وفي حين يعمل الاتحاد الأوروبي بالفعل في مشروعات مشتركة، ويخصص ثمانية مليارات يورو اعتباراً من 2021 لصندوق لتطوير الأسلحة، فإنه يحتاج إلى عشر سنوات على الأقل ليكون له أي استقلال عسكري عن واشنطن.

أي في عام 2031 إذا سارت كل الأمور بالصورة التي يخططون لها.


والغواصات كشفت هذا التحالف الغربي "الهش" 

بينما كان القادة الأوروبيون يستوعبون قرار الرئيس جو بايدن بالانسحاب من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول، اندلعت أزمة جديدة عبر الأطلسي: هذه المرة حول AUKUS، الصفقة الأمنية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا.

والنتيجة المباشرة للصفقة كانت تراجع أستراليا عن شراء غواصات فرنسية تعمل بالطاقة النووية. 

وذهبت باريس الغاضبة إلى حد استدعاء سفيرها من واشنطن احتجاجاً- للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الحليفين منذ ما يقرب من 250 عاماً. 

واستخدمت الدبلوماسية الفرنسية نوع الخطاب المخصص عادة لأعداء فرنسا الأجانب، وليس لأصدقائها. 

الغضب الفرنسي من التهميش غير الرسمي من قبل الحلفاء المفترضين أمر مفهوم. 

ومع ذلك، ليس من الواضح ما تأمل باريس في تحقيقه من خلال تصعيد الخلاف الدبلوماسي مع واشنطن.

التفسير الأقرب كان المصلحة الفرنسية في تسويق صفقة أسلحة بهذا الحجم، لكن هناك أيضاً طموح ماكرون الانتخابي في الاستحقاق الرئاسي 2022.

لكن أخطر ما كشفته أزمة الغواصات، كان هذا التحالف الهش بين ضفتي الأطلسي.

حتى في الوقت الذي سعى فيه بيان بايدن وماكرون المشترك إلى إصلاح الخلاف بعد عدة أيام، من الواضح أن واشنطن لا ترى أن فرنسا، أو الاتحاد الأوروبي ككل، مركزية لاستراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ.

وكان على فرنسا والاتحاد الأوروبي توحيد جهودهما أخيراً، والتخلي عن الارتباط العاطفي بـ "التحالف عبر الأطلسي" ووضع بعض "اللمسات الواقعية" على مفهوم الحكم الذاتي الاستراتيجي.

كما يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يختار معاركه بحكمة، لا سيما إذا كانت مع حلفاء تاريخيين بحجم الولايات المتحدة.


درس ماكرون من أزمة الغواصات

"الولايات المتحدة الأمريكية صديق تاريخي كبير وحليف قيم، لكن لا بد لنا من الإقرار بأنه منذ أكثر عشر سنوات، تركز الولايات المتحدة جهودها بالمقام الأول على نفسها، ولها مصالح استراتيجية تعيد توجيهها إلى الصين والمحيط الهادئ".

هكذا تحدث ماكرون بنغمات صادقة وحزينة عن "طعنة" الأصدقاء، بعد أزمة الغواصات، وعن ضرورة استخلاص الدروس والعبر من الأزمة.

ما هي الدروس والعبر التي يتحدث عنها ماكرون؟

إنها ضرورة أن يتخلى الأوروبيون عن "التخلي عن السذاجة واستخلاص العبر" من الخيارات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة التي تتركز على خصومتها مع الصين.

كما صرح بأن أزمة الغواصات لن تتسبب في تغيير استراتيجية باريس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ولكي يعطي ماكرون بنفسه نموذجاً في استخلاص الدروس، كان يتحدث خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء اليوناني، لإعلان شراء اليونان ثلاث فرقاطات من فرنسا، في إطار "شراكة استراتيجية" أكثر عمقاً بين البلدين للدفاع عن مصالحهما المشتركة في البحر المتوسط.

وفي عبارة رشيقة وقصرية وصف ماكرون الصفقة مع اليونان بأنها "خطوة أولى جريئة نحو استقلالية استراتيجية أوروبية".

إنها الروح البراغماتية التي يجب على الأوروبيين أن يتحلوا بها لتأمين الدفاع الذاتي عن مصالحهم في رأي ماكرون.

أضاف في ثقة: أعتقد أن هذا من حقنا، وهو حق مشروع.

ماكرون في امتحان الزعامة

الجهود التي بذلها للصعود نحو قيادة أوروبا.. والأسباب التي تجعل من طموحه هدفاً صعب التحقيق

لدى ماكرون أسباب مغرية بالصعود نحو عرش الاتحاد الأوروبي.

غادرت المستشارة القوية أنغيلا ميركل منصبها في برلين.

ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مشغول في لعبة النهاية المتعلقة بخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي.

وحالة الاضطراب تحكم علاقات واشنطن بأوروبا منذ عهد الرئيس دونالد ترامب، وكانت أزمة الغواصات مع أستراليا ذروة غير متوقعة لهذا الاضطراب.

منذ 2019 يواصل ماكرون دون تعب تقديم أوراق اعتماده زعيماً لأوروبا.

محاولات التوسط لإجراء محادثات بين روسيا وأوكرانيا.

وبين إيران والولايات المتحدة.

ثم برز الرئيس الفرنسي كأشد سياسي أوروبي تشدداً في التعامل مع الصين، ليرضي نزعات التنافس الأوروبية القلقة تجاه الصعود الصيني.

لكن الكثير من العواصم الأوروبية في البلطيق ووسط وشرق أوروبا تشعر بقلق إزاء خطط باريس الرامية إلى تحقيق تقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.


طريق ماكرون إلى عرش الاتحاد

بدأ ماكرون بالتودد إلى بوتين وإبلاغ سكان غرب البلقان أن عليهم الانتظار لسنوات قبل تمكنهم من الانضمام الى أوروبا، كما شجب "الإرهاب الإسلامي" وطالب بإجراء مشدد ضد الهجرة.

ولكن السؤال هو هل أن هذه سياسة خارجية أم داخلية؟ 

إن أكثر ما يخشاه ماكرون هو أن تنقسم فرنسا في عهده كما حدث قبل 40 سنة في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان.

ويريد ماكرون قبل أي شيء آخر عدم حصول زعيمة اليمين الفرنسية المتطرفة مارين لوبان على فرصة للتقدم، ولذلك فهو يتودد إلى بوتين بأمل مساعدته في تحقيق هذا الهدف، مع أن هذه سياسة داخلية تطرح تحت غطاء سياسة خارجية.

في غضون ذلك، يساعد ماكرون في ضمان تشكيل لجنة أوروبية مؤيدة لفرنسا وتعيين الفرنسية كريستين لاغارد في منصب رئيسة البنك المركزي الأوروبي والتي ستساعده في تحقيق أجندته الأوروبية.

ويعتقد ماكرون أن عليه المبادرة بتسلم زمام القارة العجوز نظراً لعدم وجود شخص آخر للقيام بذلك.

ولديه نظرته الخاصة.

هو مقتنع بأن الوقت يداهم أوروبا على المسرح الدولي وأن عملية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي بطيئة للغاية، ونتيجة لذلك فهو يريد غربلة النظام والاضطلاع بدور قيادي، وقد تنجح هذه الخطوة في بعض الأحيان، وقد لا تنجح في أوقات أخرى ولأكثر من سبب.

ماكرون بكل تأكيد شخصية مثيرة للاهتمام في أوروبا، وتظهر طريقة استخدامه للشعبوية ضد الشعبويين موهبته اللافتة. 

وهو يتحدث بصورة مباشرة إلى الناس كما رأينا في احتجاجات أصحاب السترات الصفراء.

لكن "مميزاته" تلك هي التي تمثل نقاط الضعف في مشروعه لوضع بلاده في المقدمة، كما تشرح السطور التالية.


"رئيس الأغنياء" الذي يطرح أفكاره السريعة على عجل

يصفه منتقدوه بأنه "كثير الكلام".

وهو يحب التحدث على طريقة الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو حول مشاكل حقيقية أيضاً مثل: التمزق في الاتحاد الأوروبي وانكماش اقتصاد القارة العجوز والمشاكل مع روسيا والصين.

ولكن طرح الأفكار بسرعة لا يصنع زعيماً.

نادراً ما عرف رئيس فرنسي، منذ انطلاق "الجمهورية الخامسة"، كماً من المشكلات في الداخل والخارج كالتي ويواجهها ماكرون.

هو الذي وصل إلى الرئاسة حاملاً مشاريع إصلاحية أرادها أن تقلب أوضاع فرنسا رأساً على عقب، وتحضرها لمواجهة العقد الجديد. 

هو الذي يتحلى بالدينامية الشخصية.

ويتمتع بأكثرية مريحة في مجلس النواب.

لكنه لم يستطِع تلافي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، كالمظاهرات والإضرابات الاحتجاجية على إصلاح قانون العمل وقانون التقاعد والسترات الصفراء وقطاع النقل.

والتصقت به صفة "رئيس الأغنياء" بعدما كان أول قرار اقتصادي- مالي اتخذه إثر وصوله إلى قصر الإليزيه هو إلغاء الضريبة على الثروة. 


لهذه الأسباب تعجز فرنسا عن الانفراد بالقيادة

بالنسبة لدول شرق أوروبا والدول الإسكندنافية وربما ألمانيا، فإن روسيا هي الخطر الرئيسي.

 ينما باريس تسعى إلى التقارب مع روسيا، وترفض انضمام تركيا للاتحاد، وهو موقف لا يشاركها فيه سوى اليونان، وبعض النخب في ألمانيا وهولندا.

وتريد باريس أن يتبنى الاتحاد الأوروبي مواقفها في البحر المتوسط والشرق الأوسط.

مواقف معادية لتركيا ومتسقة مع الثلاثي العربي المعادي للربيع العربي الإمارات والسعودية ومصر.

تتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان في هذه الدول.

تتجاهل النتائج المترتبة على حرب اليمن.

وتؤيد الجنرال الليبي الرافض للعملية السياسية خليفة حفتر.

وهي توجهات لا تشغل كثيراً باقي  الدول الأوروبية، بل أغلبها يخالف مبادئ أوروبا وحتى مصالحها، كما يبدو واضحاً في الموقف الإيطالي تحديداً من  الأزمة الليبية.

أما ألمانيا فرغم شعورها بثقل الخطر الروسي، فتفضل إرضاء بوتين عبر مشروعات الطاقة وليس الوقوف أمامه بحسم وهو أمر يغضب دول شرق أوروبا.

هناك مثلاً دولة كالسويد تعاني من الاختراقات الروسية لأجوائها وهي الدول التي تبدو مواقفها أقرب لأمريكا وتركيا فيما يتعلق بروسيا.

هكذا يبدو للوهلة الأولى أن فرنسا ماكرون لن تستطيع الجمع بين رؤيتها في السياسة الخارجية، وبين مصالح وهموم شركائها في الاتحاد الأوروبي.

وأن تشعّب المصالح وتضاربها أحياناً يحول دون انفراد فرنسا بزعامة أوروبا.


طوال سنوات حكمه لم يتوقف ماكرون عن تقديم المزيد من أوراق اعتماده زعيماً مستقبلياً لأوروبا.

في طريقه الطموح لقيادة أوروبا، حاول ماكرون أن يُعيد بقوة "الدور التقليدي للدبلوماسية الفرنسية التي تلتزم على مستوى العالم وتنطلق من مبدأ أن كل القضايا في العالم تهم فرنسا التي يجب عليها المشاركة في ذلك"، كما يقول شتيفان زايدندورف، نائب مدير المعهد الألماني الفرنسي.

لكن زايدندورف يقدم ملاحظة مهمة، هي أن فكرة قيادة أحادية للاتحاد الأوروبي أصبحت خطيرة وغير منطقية.

الزعامة الأحادية تعني "أن تتولى بلاد دور القيادة هذا في الاتحاد الأوروبي، وأن يسير الآخرون فقط عن غير طيب خاطر أو أن يتقاعسوا، وأن تُمارس في الأصل سياسة مصالح وطنية وليس سياسة أوروبية". 

يقول ماكرون إنه لا يرغب في تولي دور انفرادي، ويسعى بالاشتراك مع ألمانيا إلى تجديد أوروبا. وعلى هذا الأساس يكون من المجدي بالنسبة إلى فرنسا وألمانيا تولي هذا الدور معاً.

لكنه ما زال ينتظر جواباً على أفكاره الإصلاحية في السياسة الأوروبية.

ومعظمها يثير بعض القلق لدى الشركاء.

كما يثير الكثير من الجدل الأوروبي بشأن مستقبل التحالف بين بلدان القارة العجوز.