نبش الذهب

مَن منا لم يحلم أو تدعو له أمه في ساعة رضا بأن يمسك التراب فيصبح ذهباً!
لكن الأمر دائماً ظل متجمّداً عند عتبة الأحلام غير القابلة للتحقق.
هناك مَن تعامل مع الحلم بجدية أكبر حتى ولو كان ضد القانون، ليتحول التراب بين يديه بالفعل
إلى ذهب حقيقي يُباع في أسواق الصاغة، وهذا ما حدث في حلايب جنوب مصر.
تبدأ هذه القصة من على أحد المقاهي في القاهرة:

وصلنا إلى المكان المنشود ليخرج لنا شاب في الثلاثينيات من عمره، أسمر البشرة، أخذ من صديقي الكيس وهو يتلفت حوله، ولم يلبث أن اختفى في لمح البصر بعدما لمح رجل مرور يتجه نحو السيارة، بينما اندفع صديقي بسيارته هارباً.
وقتها أدركت أن ما يحدث أمر غير مشروع..

اتفقت مع قريب لي يتاجر في الجمال لأصحبه في رحلته إلى سوق الجمال في حلايب، حيث يرشدنا أحد التجار الذين يعرفهم إلى الطريق الذي سنسلكه.

تدّعي كل من مصر والسودان ملكيتها لمنطقة حلايب وشلاتين. وفقاً للتقسيم السياسي للحدود التي رسمها الاحتلال البريطاني عبر اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا حول السودان عام 1899، فإن المنطقة تعد جزءاً من مصر لأنها تقع شمال خط عرض 22 الذي يجعل ترسيم كل الأراضي الواقعة شمال هذا الخط جزءاً من مصر وكل ما هو جنوبه جزءاً من السودان.

ثم صدر قرار إداري لوزير الداخلية المصري عام 1902 بنقل تبعية المنطقة إلى السودان إدارياً لأن أغلب سكانها امتداد لسكان شمال شرق السودان، ما خلط كل الأوراق.

ادعت الخرطوم على إثر القرار أحقيتها في المنطقة، بينما تتمسك مصر بحدودها السياسية وتعد القرار إدارياً فقط، لتحتفظ هي بالإدارة الفعلية للمنطقة. ويسكن هذه المنطقة قبائل مصرية وبعضها سوداني.

قبل 2011 كان السودانيون ينقبون عن الذهب في جبالها، ويعملون في بيعه وتهريبه.

بينما اكتفت القبائل المصرية بالعمل في السياحة وتجارة الجمال بين البلدين بحكم موقعهم المميز القريب من البحر الأحمر وحدود السودان.

بعد 2011 توقفت السياحة وانتشرت البطالة بين أبناء القبائل المصرية، فتوجهوا للتنقيب عن الذهب. وبدأوا بامتهان التنبيش العشوائي ليكون مصدر رزقهم الأساسي. إلى أن صدر قرار رئاسي عام 2014 بإنشاء شركة شلاتين للتعدين عام 2014 للإشراف على عملية التنقيب، وما تلتها من إجراءات تقنين عمل الباحثين عن الذهب من القبائل واستخراج تصاريح عمل لأجهزة التنقيب.

وعلى الطريق كان لي هذا الحوار مع السائق :

أغلب السائقين من قبيلتي العبابدة أو البشارية لأنهم أدرى بدروب المنطقة الوعرة، وبالرغم من أن هذا السائق شخصياً من العبابدة ومعروف للأجهزة الأمنية، فإنه إذا قُبض عليه وفي سيارته جهاز كشف عن المعادن ستتم مصادرته وعمل محضر "ضبط في منطقة محظورة"، وجزاؤه الحبس لمدة عام ودفع غرامة مالية كبيرة.

حسب القرار الرئاسي 2014 يتعين على كل من يرغب في التنقيب عن الذهب في منطقة حلايب وشلاتين استصدار تصريح مقابل مبلغ شهري من شركة شلاتين للتعدين، ليكون وضعه قانونياً ويحق له امتلاك الذهب الذي أخرجه من الجبال. في البداية استجاب بعض النباشين لكنهم اكتشفوا فيما بعد أن الحكومة تخدعهم بمثل تلك التصاريح.

تفرض الشركة على النباشين من القبائل تسليم الكمية المستخرجة، ويحصل المنقب على 20% من النسبة التي استخرجها، بالإضافة إلى ضريبة شهرية يدفعها النباش سواء استخرج ذهباً أم لا.

ويشير السائق إلى أن الكثيرين يتجنبون العمل مع الشركة الحكومية، بل إن هناك مَن يتعاون معها ظاهرياً للحصول على تصريح التنقيب، وفي ذات الوقت لا يعلن عن الكميات الحقيقية التي يستخرجها، وأحياناً يزعم أن تنقيبه لم يسفر عن نتيجة إيجابية على عكس الحقيقة، مستغلاً عدم وجود ضمانة حقيقية بأن ما يتم تسليمه هو النسبة المتفق عليها، فلا توجد رقابة عليه وعلى ما يستخرجه.

ويشير إلى أن هناك شركات تعدين خاصة تضحك على الحكومة، وتحصل على تصاريح رسمية بالتنقيب عن نوع محدد من المعادن، بينما يكون ذلك ستاراً يقبع خلف التنقيب عن الذهب، ويلفت إلى أن هناك أيضاً أفراداً من الجهات الأمنية ينقبون لحسابهم الخاص بمساعدة منقبين محترفين من القبائل.

مع بزوغ ضوء النهار استقللنا سيارة ربع نقل كبيرة ماركة تويوتا، أطلقوا عليها "الرشاحة"، أخبرنا قصّاص الأثر بأن السائق الذي يُدعى أبوأحمد هو النجم أو "الليدر"؛ لأنه إن لم يكن هناك خبير بالطريق تاه الجميع إلى أن يتلقفهم آخرون بالصدفة، أو تعثر عليهم دورية أمنية ويكون مصيرهم الحبس ودفع غرامة لما يحملونه معهم من أجهزة للحفر والتنقيب غير مرخصة.

اطمأن قائد المجموعة على الدعم اللوجستي، وهو عبارة عن جهاز الكشف عن الذهب، وأوعية الوقود الخاصة بالسيارة لحاجتها للملء أكثر من مرة طوال فترة التنقيب، وكذلك الطعام والشراب اللازمان للمجموعة طوال الفترة التي قد تصل إلى 10 أيام.

الطريف في الأمر أنه قبل الانطلاق قامت المجموعة بأداء ركعتين ليستودعوا الله أرواحهم وأسرهم، راجين أن تجود عليهم الصحراء بما يقابل مشقتهم، وأن يكونوا من العائدين الظافرين، وليسوا من المفقودين التائهين، ويحفظهم من الحيوانات الكاسرة والعقارب والثعابين.

سلك أبوأحمد دروباً جبلية وعرة كي يتجنب الكمائن التي كان يلمحها من بعيد، فيغير اتجاهه إلى أن قطع مسافة لم تقل عن 175 كيلومتراً في 7 ساعات، وهو وقت أكبر من المتوقع بساعتين.

توقفت السيارة في العراء في قلب الصحراء البعيدة، حيث كانت مجموعة أخرى مكونة من 6 أفراد تنتظرهم، ليتحرك الجميع في خفة ورشاقة لإقامة خيام بدائية مبطنة بطبقة بلاستيكية، قالوا إنها ستحميهم من البرد القارس، حيث تنخفض درجات الحرارة ليلاً إلى أقل من 5 درجات مئوية.

أولى الحقائق التي أدركناها بمجرد وصولنا إلى المكان أن النباشين أنواع وطبقات، فمن يملك جهازاً يستطيع الاستشعار على عمق أمتار لا يستوي مع من يملك جهازاً يصل إلى عمق سنتيمترات، فلكل منهما منطقة واستخدام، والنتيجة تكون دائماً لصالح الجهاز الأحدث، وهناك أشخاص في المنطقة يملكون أكثر من جهاز ويقومون بتأجيرها.

يؤكد أبوياسر، وهو أحد المنقبين، [له بشرة صلدة داكنة، وملامح طبعت فيها الصحراء تضاريسها*وصف رسم]، على ضرورة تأريخ بداية التنقيب عن الذهب،

موضحاً أن الفضل يرجع لبعض السودانيين الذين جاءوا للمنطقة منذ ما يقارب 10 سنوات، ومعهم ما اعتبروه وقتها "عصا سحرية" لها قاعدة وشاشة صغيرة، قالوا إنه جهاز للكشف عن الذهب، وقام أحدهم بتمريرها على الرمال فصفّر الجهاز وأعطت شاشته رقماً كدلالة على وجود ذهب برقعة ما.

ووقتها لم يهتم مشايخ القبائل وأبناؤهم؛ لأنهم كانوا يولّون وجوههم تجاه مصدر رزق آخر كالسياحة وتجارة الإبل والبعض يعمل في التهريب.

وقام شيوخ وأبناء قبيلتي العبابدة والبشارية بشراء أجهزة أكثر تطوراً، وبعضهم حرص على اقتناء المعدات الثقيلة كاللوادر والجرارات الزراعية والحفارات لتوسعة عملية التنقيب، وكان هناك اتفاق ضمني على تقسيم الجبال والصحاري فيما بينهم، ولا يدخل الصحراء غيرهم، أو من يصرّحون له مقابل مبلغ من المال أو الذهب.

أصبحت أجهزة التنقيب تباع علناً على مواقع الإنترنت، ويستطيع أي شخص الحصول عليها بكل سهولة بمجرد دفع ثمنها. وبالبحث على جوجل عن "أجهزة التنقيب عن الذهب" ظهرت لنا بالفعل عدة مواقع لشركات مصرية تبيع هذه الأجهزة بشكل صريح. وتوضح هذه الشركات في دعايتها أن هذه الأجهزة للكشف عن الذهب الموجود في جبال مصر وصحاريها. وتقدم مواقع معلومات تفصيلية عن مختلف أنواع الأجهزة، طبقاً لطبيعتها وإمكاناتها وعمق البحث، وغيرها من الخصائص.

وقال مصدر مسؤول بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لـ«عربي بوست» إن أجهزة الكشف عن المعادن لها ذبذبات وموجات، لذلك يلزم لاستيرادها الحصول على تصريح من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، ويسمح لبعض الهيئات وشركات التعدين وشركات المقاولات والخبراء باستيرادها، بعد تصديق الأمن العام ودفع الرسوم الجمركية، وما دون ذلك يجب ضبطه ومصادرته من وزارة الداخلية.

يستعمل المنقب الذي رافقناه جهازاً قال إنه ماركة "جى بى إكس" وتصل إمكانياته البحثية إلى عمق 4 أمتار في باطن الأرض، ويتفاوت سعره بين 2800 و6000 دولار، وشراؤه غالباً ما يكون للمجموعات وليس للأفراد، حيث يشتركون معاً لتوفير المبلغ أملاً في جمع ربح أضعاف ما أنفقوه على الجهاز.

ويشير إلى أن الجهاز خفيف الوزن مقارنة بغيره، ما يسهل استخدامه ولا "يخدّل" الساعد، ويعمل على بطارية خارجية 8 فولت لمدة 12 ساعة متواصلة، ويتكون من مقبض (ذراع) طويل، عبارة عن قطعتين قابلتين للفك والتركيب، تتصل إحداهما بقرص معدني يسهل تحريكه بواسطة الذراع على الأرض الرملية والصخرية.

وهناك أجهزة لا يقتنيها إلا أثرياء القبائل نظراً لارتفاع ثمنها، ويتم استيرادها من الخارج عن طريق بعض العاملين في قطاع البترول والخبراء الأجانب، خاصة من دبي والكويت والصين. والبعض يؤجره نظير مقابل، إما مادي أو نسبة ما يستخرج من الذهب.

عند هذه النقطة، بدا أن المنقب حانق، وعندما سألناه عن السبب قال إن الأجهزة أغلبها "غير مقنن"، أي ليس معهم تصريح بها، على العكس ممن يعملون مع شركة الشلاتين الحكومية أو بعض الجيولوجيين الذين لديهم تصريح بها لممارسة عملهم في التعدين.

وهو ما يجعلهم فريسة لـ"بلطجية الجبال"، وهم يضطرون للاستجابة لشروطهم وإتاواتهم خوفاً من الإبلاغ عنهم.

بينما في حالة التقنين يمكنهم بيع ما يستخرجونه بطريقة أفضل، بدلاً من بيعه لبعض تجار الصاغة الذين يشترونه منهم بثمن بخس، أو تهريبه إلى السودان كما يحدث حالياً.

يتم تقسيم العمل إلى "ورديات"، مدة كل وردية 3 ساعات، وتضم شخصين أحدهما يحمل الجهاز، والآخر يحمل "كوريك" للحفر، على أن يتبادلا المهام كل ساعة ونصف الساعة.

قام حامل جهاز كشف الذهب بضبطه ثم ارتداه في ذراعه اليمنى بمساعدة المرافق له، والتزم الصمت ليتأكد أن الجهاز والسماعات الموصلة به في أذنيه يعملان بكفاءة.

ثم عاد ليشرح لنا أن الجهاز الذي يمتلكونه حديث نسبياً، ولا يصدر رنيناً عند اكتشاف معدن الحديد.

وبالرغم أن صفير الذهب والنحاس مقاربان جداً لبعضهما، إلا أنه يستطيع التفرقة بينهما.

وإذا اختلط عليه الأمر يحفر بعمق نصف متر تقريباً في باطن الأرض، ولكن لا تجود الأحجار دائماً بجزيئات الذهب.

يسكت المنقب ليستمع جيداً للسماعات على أذنيه. وبدورنا نلتزم الصمت.

وبعد ثوانٍ يعلن أن هناك مؤشراً أطلقه الجهاز للدلالة على وجود جزيئات ذهب بتلك الرقعة، ثم يهتف المرافق له منادياً النباشين ليرفعوا معهم الرمال.

وليحفروا بواسطة فأس صغيرة لمتابعة الكشف. وبعد دقائق من الحفر والتنقيب يعثرون على أحجار شكلها مختلف.

قالوا إن الذهب ملتصق بها واستطاعوا بخبرتهم المتراكمة أن يخمنوا أن الناتج سيقارب غرامين من الذهب الخام.

فرحة النباشين أثارت استغرابنا، فالجهد المبذول لا يوازي الغرامات القليلة المكتشفة، لكن صاحب جهاز التنقيب يبتسم، فنتيجة النبش كانت مُرضية له ولمن يرافقونه.

فأحياناً يعود النباشون بعد طول معاناة دون غرام واحد بسبب رداءة الأجهزة وعدم قدرتها على استشعار الذهب الموجود بأعماق الأرض.

لكن هناك عراقيل بدأت في الظهور لهم، يحكيها لنا أحد المشايخ:

وفي إحدى هذه المعارك وبعد مقتل العشرات تم عقد جلسة عرفية كبيرة ضمت مشايخ قبائل المنطقة وهم "العبابدة والبشارية والمعازة"، وحددت الأودية الجبلية التي تخص كل قبيلة، ويُسمح لها بالتنقيب فيها.

ويتحدث الرجل عن المخاطر التي تواجههم، فهناك حشرات سامة تخرج من بين الحجارة، ومن الممكن أن تلدغهم وهم نيام، وبعض زملائه لاقوا الموت عطشاً بانتظار مؤن تأخرت في الوصول.

وآخرون تاهوا في الصحاري، أو دفنوا تحت أنقاض المناجم.

أضف إلى كل ذلك الملاحقات الأمنية التي تطارد شباب القبائل وتترصدهم.

ولا تقف المخاطر عند حزمة الإجراءات والمطاردات الأمنية، فهناك من يموت تحت ركام الأودية المتقلبة، إذ لقي 4 شباب مصرعهم إثر انهيار صخرة جبلية عليهم بأحد الأودية خلف منجم السكري عندما كانوا ينقبون عن خام الذهب بطريقة غير شرعية.

وتتركز أغلب مواقع التنقيب في المغارات التي خلفها الإنجليز، كالبرامية والفواخير وأم الروس وعتود وحنجيلة.

وأضاف: "هناك أماكن وضعتها الحكومة تحت المراقبة مثل جبل الأنبط بشلاتين؛ لأنه يحتوي على كميات هائلة من المعدن النفيس".

في اليوم الثاني صار المكان حميمياً أكثر، والناس فيه أكثر رحابة عن يوم وصولنا، بعد أن باتت الوجوه مألوفة لبعضها البعض. هذا أغرانا بالذهاب مع السائق في جولة بعيداً عن المجموعة، بحثاً عن مزيد من المعرفة.

يقول غريب العبادي، وهو رجل خمسيني نظراته حادة كالصقور التي اعتادوا اصطيادها، وبنيته قوية رغم صغر جسمه: "الجبال دي بيتنا، وفي قبائل بتسكُن الجبل ليها اليد العليا على بعض مناطق التنقيب، وضيف الاتفاق والتعهدات الضمنية اللي بينا.. بأن الأحقية للمنقبين بموقع ما تكون لمن سبق الوصول ليها، وبتتركز أغلب مواقع التنقيب بالمغارات اللي خلفها الإنجليز كالبرامية والفواخير وأم الروس وعتود وحنجيلة".

وأضاف: "هناك أماكن وضعتها الحكومة تحت المراقبة مثل جبل الأنبط بشلاتين؛ لأنه يحتوي كميات هائلة من المعدن النفيس".

حيث يتم استخراج عروق ذَهَب يتعدى وزنها 5 كيلوغرامات، والغرام الخام يعادل 6 غرامات من الذهب المشغول (نظراً لإضافة مواد أخرى تخلط مع الخام وتزيد وزن الذهب بعد صياغته).

ويشرح أن بعض النباشين ينقبون بأيديهم مستخدمين الأجنة والشاكوش.

وآخرون يفضلون تتبع عرق الذهب باستخدام أنبوبة غاز لها خرطوم وما يشبه المسدس، وبالضغط على مقبضه يخرج لهباً يوجهونه للصخور، فإن لانت فهذا دليل على احتوائها على جزيئات الذهب.

والبعض ينبش في الوديان الجبلية، حيث الرمال التى جرفتها السيول والأمطار ونتجت عن نحت الصخور تكون محمّلة أحياناً بجزيئات الذهب.

فسعيد الحظ يجد "البطاطساية" وتتعدى 6 غرامات ذهبية، أما ذات الحجم الوسط فيطلقون عليها "جنزبيلة"، وهي مثل الحصى المستخدم في رمي الجمرات بالحج، وهناك "التسالي"، وهي أقل حجماً، أما "الناموسة" فهي أقل من الغرام.

مع غروب الشمس توقف المنقبون عن العمل بسبب حلول الظلام، وتناولوا العشاء في جلسة سمر ليلية ممزوجة بأغانٍ أطلقها الصبي الصغير تجاوزت 3 ساعات، بينما آخرون يلعبون الكوتشينة ويحتسون مشروباً يسمى "الجَبَنة" وهو مثل القهوة.

ومع أول خيوط للفجر هبّ فريق من النباشين لاستكشاف عروق الذهب بالجبال.

يطلق المنقبون هذا الاسم على عروق الذهب التي تشبه خلية النحل، ويتراوح وزنها بين 2 و14 كيلوغراماً، وهي أقرب لسبائك كاملة، وتعد أكبر حجم لعروق الذهب التي يمكن أن يجدها أي منقب، ولا يكون البحث عنها بالأجهزة، ولكن عن طريق تتبع العروق في الجبال والمغارات التي ترشدهم إليها خريطة في حوزتهم.

ثم يقومون بتكسير الصخور المحملة بنسب من الذهب وينقلونها إلى الكسارات (الطواحين).

ذهب السائق بِنَا أنا وتاجر الجمال وقصاص الأثر إلى منطقة بدائية، يطلقون عليها "نقطة الطواحين"، بالقرب من السوق الدولية بمدينة شلاتين.

دخلنا إلى المكان لنجد عشرات الطواحين يتناثر بينها مئات من الأجولة بها أطنان الصخور والرمال التي أجريت عليها اختبارات جهاز الكشف عن الذهب، ويقف عليها طوابير من العمال ينتظرون دورهم بالطحن.

يشرح فارس البشاري (مشرف على عملية استخلاص الذهب) أن هناك طواحين غير مصرح بها، ولا تباع أو تشترى، وإنما يتم تصنيعها خصيصاً بشكل يدوي، لذلك الغرض في ورش الخراطة، وتتكلف 15 ألف جنيه، وتعمل بسرية تامة داخل المنازل، ويقبل عليها مَن يعملون بالتنقيب دون ترخيص.

يشير البشاري إلى أن نقطة الطواحين كان يقبل عليها المنقبون لاستخراج ما بأجولتهم من ذهب، مقابل مبلغ من المال يقدر بـ3000 جنيه (ما يعادل 188 دولاراً)، ويمكن طحن 22 طناً خلال 24 ساعة.

هؤلاء كان لديهم تصريح من قبيلتي العبابدة أو البشارية، ويعملون بالاتفاق معهما، أما الآن فقد أصبحت الطواحين مراقبة من الحكومة، ويأتي إليها من معه تصاريح من شركة الشلاتين أو الشركات التي تعمل تحت إشرافها.

وهناك طواحين يتم استيرادها بغرض طحن القمح والشعير، وتبلغ تكلفتها بين مليون ومليون ونصف المليون جنيه (ما يعادل 62600 إلى 94200 دولار)، لكنها تستخدم في غير الغرض المخصص لاستيرادها كطحن الصخور، ما يؤدي إلى تلفها قبل مرور عام على تشغيلها، فهي لا تتوقف عن العمل طوال اليوم.

والطاحونة عبارة عن كتلتين ثقيلتين ذواتي رحايا رأسية حديدية مثبتة بواسطة عمود من الصلب، وموصلة بمولد كهربائي كبير، ويتم تحريكها بالتبادل في حوض كبير خرساني متصل به مصدران للمياه، أحدهما لإدخال المياه النظيفة والآخر لطرد المياه المحملة بالأتربة والشوائب.

رصد «عربي بوست» أن مَن يقوم بعملية الطحن مجموعة من الأفراد يبدو من بشرتهم أنهم يحملون جنسيات مختلفة، لكن أكثرهم سودانيون، وبجوارهم كثير من الشكائر البلاستيكية ممتلئة بكسر الصخور القادمة من الجبل.

البداية تكون بتكسير الحجارة ليتم نقلها إلى داخل الطواحين المليئة بالماء لتنعيمها، وعندما تصل لحجم حبات الرمل يتم مرور الخليط عبر أسطوانة كبيرة مستديرة القطر، لتنزل رواسب طحن الصخور في حوض صغير من الحديد، ويسكب عليها كمية قليلة من المياه وقطرات من الزئبق.

يقوم رجل أربعيني ينادونه بـ"أبوسمعان" بهزّ الخليط، ثم يسكبه في حوض آخر، ويكرر ذلك عدة مرات لتجميع مادة الزئبق مع الذهب، وتخليصها من الرديم، والشيكارة (طن واحد) تنتج من 15 إلى 30 غراماً من الذهب فقط.

عندما أشار الرجل إلى أهمية الرديم الخارج من عملية الطحن واحتوائه على نسب كبيرة من الذهب، تذكرت على الفور الكيس البلاستيكي الذي كان بيد صديقي في القاهرة، وكان سبباً لتلك الرحلة في صحاري مصر.

وهذا الكلام، على لسان أحد العمال السودانيين:

توجه الشرطة المصرية تهمة استخراج معادن طبيعية من المناجم والمحاجر دون ترخيص من الجهات المختصة، والتي جاءت عقوبتها بالقانون رقم 198 لسنة 2014 بالسجن لمدة لا تقل عن العام، وغرامة لا تقل عن ربع مليون جنيه.

ويؤكد المصدر أن أغلب عمليات التنقيب العشوائي عن الذهب تكون غير مُقننة، فيما يكون البعض الآخر بإشراف من شركة الشلاتين للتعدين، صاحبة الامتياز للتنقيب عن الذهب في الصحراء الشرقية، وأنشأتها الدولة للتصدي لهذه الظاهرة، من خلال تصاريح تمنحها الشركة لشركات أو أفراد يعملون بمناطق تشوينات معينة تحددها هيئة الثروة المعدنية، شريطة أن يسلم 80% من إنتاجه للشركة.

استشاط المنقبون وشيوخ القبائل غضباً من تلك الإجراءات والتضييق عليهم، معتبرين ذلك حرماناً من خير بلدهم، وتعدياً من الحكومة على حقوقهم التاريخية، منتقدين فتح أراضيهم لشركات التنقيب، بينما يتم ملاحقة أبناء وشباب البشارية والعبابدة أثناء النبش عن الذهب في محاولة منهم للتغلب على ظروفهم الاقتصادية الصعبة.

الجدل الدائر جعلنا نذهب إلى عوض محمد هدل، أحد أكبر مشايخ قبيلة البشارية والعبابدة، لنستوضح منه رؤيته كرجل حكيم يقف في صف الدولة، لكنه فاجأنا بقوله:

"شركة حلايب وشلاتين حطت شروط مجحفة لعمل النباشين، خلّت لنفسها نسبة كبيرة من المستخرج بعد شهور من العمل في الجبل، ونسبة شهرية ثابتة بتوصل لـ20 غرام من الذهب، ده بخلاف تكلفة تصاريح الجهاز والعاملين نفسهم. بيخلوا لنا مناطق نَضَب منها الذهب والأماكن الواعدة للغرب".

الأسوأ من ذلك -حسب الشيخ هدل- أن الشركة تقوم بتحديد مناطق بعينها للتنقيب، وهي مناطق نضب منها الذهب بعد التنقيب فيها لسنوات دون وجود قانون، وفي المقابل تم حظر العمل في مناطق ما زالت تضج بحجارة الذهب، مشيراً إلى أن تلك القيود دفعت الكثيرين للعودة إلى العمل دون التصاريح التي تصدر عن الشركة والأمن.

وهذه كانت شكوى أحد مشايخ القبائل مما تفعله الحكومة بهم:

الجدل الدائر حول من له الأحقية في التنقيب عن الذهب وإصرار النباشين على مواصلة عملهم أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه المنطقة الحدودية الوعرة تخرج من تحت سيطرة الحكومة المصرية.

فرغم الدوريات الأمنية المنتشرة والملاحقات المستمرة، تمكن منقبون من التكسير بالجبال، بعيداً عن نظر الأمن، والحصول على 6 أطنان من أحجار الكوارتز، ومنذ أيام تمكن ضباط مباحث قسم شرطة مرسى علم بمحافظة البحر الأحمر من ضبط سيارتهم التي تحتوي على خام الذهب، وذلك خلال كمين أمني بطريق مرسى علم - إدفو، جنوب البحر الأحمر.

كما تم ضبط اثنين من المنقبين عن الذهب بطرق غير شرعية، أحدهما مسجل خطر سرقات، والآخر من دولة مجاورة (السودان)، ولم يخرج تصريح إلى الآن عن كيف حصلوا عليها؟ وكيف كسّروا بالجبال في غفلة من الأمن المنتشر هناك؟ ومن ساعدهم للحصول على تلك الأطنان؟

والنتيجة في كل الأحوال هي مضاعفة الخسائر المادية التي تتكبدها الدولة متمثلة في ضرائب بملايين الجنيهات تضيع عليها سنوياً، بسبب عمليات دخول الذهب المستخرج بطريقة غير شرعية إلى ورش ومحال الصاغة وبيعه بدمغة مزورة، واستخدامه في زيادة عدد غرامات المشغولات القديمة "السكراب".

وفقاً لتقرير صادر عن مصلحة الدمغة والموازين، فإن حجم المضبوطات من الذهب ارتفع خلال عام 2018، مُقارنة بالأعوام السابقة، حيث تم ضبط ومصادرة 60 كيلوغراماً، معظمها من دون دمغة.

يقول اللواء مهندس عبدالله منتصر، رئيس مصلحة الدمغة والموازين، إن نحو 60 إلى 70% من سوق الذهب خارج السيطرة. ويؤكد أنه جراء عمليات التعامل على الذهب بالسوق من دون دمغة أو دمغة مزورة، تخسر الدولة في كل كيلو رسوم دمغة بقيمة 4000 جنيه وضريبة قيمة مُضافة بحوالي 3385 جنيهاً.

ويوضح أن الذهب الناتج عن التنقيب العشوائي يباع عادة إلى تجار وصاغة اعتادوا شراء الذهب المسروق، وبمجرد أن يحولوه إلى سبائك لا يستطيع أحد أن يفرق بينه وبين الذهب المرخص.