سيناء تتوجع في صمت

قصة العنف والإرهاب في شمال سيناء خلال 15 عاماً وسط غموض وتعتيم إعلامي

خبر عاجل مختصر على الشاشات في غرف الأخبار: انفجار أنبوبة غاز في فندق هيلتون طابا بشمال سيناء.

كان الوقت يقترب من منتصف ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2004 بالتوقيت المحلي، عندما تم تصحيح الخبر: ليست أنبوبة غاز، ما حدث كان تفجيراً انتحارياً استهدف الفندق.

انطلقت على الفور قوافل الصحفيين الأجانب المقيمين في  القاهرة صوب الطريق السريع إلى طابا، ومع شروق اليوم التالي كان السيارات تتكدس أمام حاجز أمني على بعد عدة كيلومترات من فندق طابا، حيث كان الدخان الخفيف ما زال يتصاعد من المبنى الأبيض في المدى البعيد.

قبيل الظهر سمحت السلطات للصحفيين بالدخول لمنطقة التفجير بجوار الفندق، وكانت رائحة الحريق مازالت قوية، تختلط بمزيج الدم والدمار والموت الإنساني.

لم يكن تفجيراً واحداً ليلتها.

شملت سلسلة من التفجيرات المتزامنة، تنفيذ هجوم بسيارة ملغومة استهدف فندق "هيلتون طابا" على بعد 200 متر فقط من بوابة العبور بين إسرائيل ومصر، أوقع أكثر من 30 قتيلاً وعشرات المصابين من الإسرائيليين والمصريين وجنسيات أخرى.

في ذات التوقيت وبذات الطريقة تم استهداف منتجعين سياحيين، بمدينة نويبع على بعد ستين كيلومتراً في اتجاه الجنوب بسيارتين مفخختين، ما أدى إلى مقتل إسرائيليين اثنين ومصري. 

كانت تفجيرات 2004 هي باكورة الأعمال الإرهابية في شمال سيناء منذ عودتها للسيادة المصرية، وجاءت بتوقيع جماعة "التوحيد والجهاد".

تعددت الفصائل والأسماء بعد ذلك، حتى انتهت إلى تنظيم واحد يتبنى كل ما يحدث على تراب سيناء من إرهاب: تنظيم ولاية سيناء التابع لـ"داعش".

حرب المسلحين المنشقين على الدولة المصرية وعلى أهالي سيناء، استدعت حرباً من الدولة على الإرهاب من عدة فصول، لكن الفصل الأخير يبدو غامضاً، وبعيداً.

هكذا بدأت الحرب: رايات سوداء على أسلحة مهربة من ليبيا

كانت التوحيد والجهاد هي أول تنظيم جهادي يعلن عن نفسه في سيناء، في ليلة طابا ودهب الدامية في 2004.

جنّدت المجموعة معظم أعضائها من الشيخ زويد، في شمال سيناء، والقرى المحيطة بها، التي تعج بالعاطلين. أخذت الحركة المحلية اسمها من الجماعة المسلحة القوية التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، وأصبحت فيما بعد "تنظيم القاعدة" في العراق.

وبينما كانت أجهزة الأمن المصرية توالي ملاحقاتها وراء المطلوبين على خلفية اتهامات بالتورط في تنفيذ تفجيرات طابا، وقعت سلسلة التفجيرات المتزامنة الثانية في سيناء.

هذه المرة وقعت التفجيرات في قلب مدينة شرم الشيخ.

في 23 يوليو/تموز 2005، انفجرت 3 قنابل في مدينة شرم الشيخ بجنوب سيناء، حيث تملك عائلة الرئيس الأسبق حسني مبارك 5 قصور، ما أسفر عن مقتل 88 شخصاً على الأقل. ثم قتل المتشددون 30 شخصاً على الأقل بعد عدة شهور، في مدينة دهب السياحية في جنوب سيناء.

ردت السلطات بسرعة وبعنف. بحلول نهاية 2006، زعمت أنها قتلت جميع المتورطين بالتفجيرات، وكذلك قادة التوحيد والجهاد، واعتقلت العديد من أعضاء المجموعة الآخرين. من وجهة نظر السلطات، بدا أن الرد العنيف أتى ثماره: لعدة سنوات، لم تقع هجمات أخرى.

لكن الجمر كان تحت الرماد.

بعد ثورة يناير 2011 كان انهيار الدولة البوليسية يعني شهوراً من غياب القانون في شمال سيناء. قدمت الانتفاضة الليبية في فبراير/شباط 2011، طريق تهريب جديداً عبر الحدود الغربية الشاسعة التي يسهل اختراقها في مصر. 

وغرق شمال سيناء بالأسلحة.

كان وصول الأسلحة الثقيلة الكثيرة من ليبيا، مع عودة أبناء القبائل الذين سجنوا لفترة طويلة وذوي الأيديولوجيات المتشددة، يمثل بداية عهد جديد من الحرب في شمال سيناء. 

جاءت الإشارة الأولى في العريش في يوليو/تموز 2011، حين شنّت مجموعة مسلحين يرفعون أعلاماً سوداء هجوماً نهارياً جريئاً على مركز للشرطة.

وفي 24 يوليو/تموز 2012، أعلنت جماعة مسلحة جديدة عن وجودها، لكنها ستصبح الحكاية الأطول والأشهر في حكايات الإرهاب بشمال سيناء: "أنصار بيت المقدس" التي أصبحت لاحقاً "ولاية سيناء".

من رفح إلى مسجد الروضة: وجود داعش يستدعي "القوة الغاشمة" للدولة

شهدت فترة حكم المجلس العسكري بعد تنحي مبارك هجمات متكررة مجهولة على خط أنابيب الغاز الذي تصدره مصر لاسرائيل والأردن و لبنان. ومنذ اندلاع ثورة يناير 2011 حتى مطلع 2014 تعرض الخط للتفجير 19 مرة في أقل من عامين، مما أدى إلى وقف التصدير لإسرائيل وتوقفه للأردن بشكل متقطع. كما  وقعت عدة تفجيرات بعد ذلك.

وأحيانا ما كان بعض التنظيمات المسلحة يتبنى التفجيرات، لكن الناشط السيناوي مسعد أبو فجر، اتهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونجله محمود ضابط المخابرات بـ"رعاية الإرهاب في شبه جزيرة سيناء للوصول إلى حكم مصر"، وذلك عن طريق ضابط مخابرات كان يقوم بهندسة وتنفيذ كافة عمليات الفوضى بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.

وقال أبو فجر -الذي كان عضوا في لجنة الخمسين التي وضعت دستور مصر الحالي- إن هذا الضابط الذي ينتسب للمخابرات الحربية هو المدبر لعملية الهجوم على معسكر الأمن المركزي في منطقة الأحراش بسيناء عام 2017، وذلك عبر تكليف اثنين من شباب سيناء، وكذلك هجوم رفح في رمضان 2012 إبان حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وتفجيرات أنبوب الغاز الطبيعي.

هجوم رفح في رمضان 2012 جاء بعد أكثر من أسبوع على إعلان تنظيم "أنصار بيت المقدس" عن ظهوره.

في 5 أغسطس/آب 2012، اقتحم مسلحون نقطة تفتيش تابعة للجيش المصري في رفح قبيل الإفطار في رمضان. قتلوا 16 جندياً، ثم سرقوا شاحنة ومدرعة واتجهوا بسرعة نحو الحدود مع إسرائيل. تعطّلت الشاحنة، وفجر السائق نفسه بقنبلة انتحارية داخلها. غير أن المدرعة تخطت الحواجز الحدودية لإسرائيل، حتى دمرتها طائرة حربية ودبابة إسرائيليتان، ما أدى إلى مقتل 7 مسلحين.

رداً على الهجوم، الذي كان أحد أكثر الهجمات دموية على القوات المسلحة المصرية منذ حرب 1973 مع إسرائيل، استبعد الرئيس محمد مرسي وزير الدفاع حسين طنطاوي، ورئيس هيئة الأركان سامي عنان، ورقّى مدير "المخابرات الحربية والاستطلاع" عبدالفتاح السيسي إلى منصب وزير الدفاع. 

ورداً على الهجوم، نشرت القوات المسلحة مزيداً من القوات في شمال سيناء، مدعومة بالدبابات والعربات المدرعة والمدفعية.

استمرت عمليات تنظيم أنصار بيت المقدس حتى أكتوبر/تشرين الأول 2014، عندما نفذ أكبر عملياته حتى تلك المرحلة: هجوم منسق في وضح النهار على موقعين أمنيين، سقط فيه 31 جندياً على الأقل وأصيب 41 آخرين على الأقل.

في ليلة الهجوم، أعلن السيسي، الذي انتُخب رئيساً في يونيو/حزيران، حالة الطوارئ لمدة 3 أشهر في شمال سيناء. 

بعد 5 أيام، أصدر رئيس الوزراء إبراهيم محلب مرسوماً يأمر بـ"عزل" و"إخلاء" 79 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء على طول حدود غزة، بما فيه رفح بأكملها.

على مدار الأعوام الأربعة التالية، هدم الجيش ما يزيد عن 6,850 مبنى في رفح، بما فيه آلاف المنازل السكنية، لإجلاء العائلات بشكل دائم، دون سابق إنذار أو دعم كافٍ فيما بعد.

في نهاية 2014 كان تنظيم بيت المقدس قد أعلن مبايعة أبو بكر البغدادي قائد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش، وأصبح التنظيم يحمل اسم تنظيم ولاية سيناء

وجاءت أكبر عمليات "تنظيم ولاية سيناء" وأطولها زمناً، في مطلع يوليو/تموز 2015، تحت رايات داعش.

 نفّذ التنظيم هجمات متزامنة نهاراً على أكثر من 15 منشأة للجيش والشرطة في شمال سيناء، ما أسفر عن مقتل عشرات الجنود. بعد 12 ساعة من القتال، تمكنت الهجمات التي شنتها مقاتلات F-16 المصرية من طرد مسلحي المجموعة من الشيخ زويد التي احتلها المسلحون لعدة ساعات.

وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015، أعلنت جماعة ولاية سيناء عن تفجير طائرة ركاب كانت متجهة من شرم الشيخ إلى سان بطرسبرغ في روسيا، ما أدى إلى مقتل 224 شخصاً كانوا على متنها. وكان العملية الإرهابية بمثابة ضربة قاضية للسياحة في جنوب سيناء حتى الآن.

أما أكبر مذابح الإرهابيين ضد أهالي سيناء فكانت في قرية الروضة، القريبة من مدينة بير العبد. ورغم أن مقاتليهم كانوا يرفعون أعلام داعش السوداء، إلا أن "ولاية سيناء" لم تعلن مسؤوليتها عن  الهجوم.

حدث ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، عندما اقتحم المسلحون مسجد الروضة أثناء صلاة الجمعة المزدحمة، وقتلوا 311 شخصاً، من بينهم 27 طفلاً، بوابل من الرصاص.

كيف تمت مذبحة مسجد الروضة

بعد هجوم مسجد الروضة، أمر السيسي الجيش بتأمين شبه جزيرة سيناء خلال 3 أشهر، وأمر قادته علناً باستخدام "كل القوة الغاشمة" للقيام بذلك. بعد بضعة أسابيع، بدأ الجيش عملية "سيناء 2018"، والتي تضمنت موجة من الاعتقالات والقتل.

حتى منتصف عام 2018، كان الجيش قد هدم رفح بالكامل تقريباً وطرد جميع سكانها البالغ عددهم 70 ألفاً.

استمرت عمليات الهدم هذه وتوسعت لتشمل أجزاء أخرى من شمال سيناء. وأعلن الرئيس السيسي عن خطة للهدم في المنطقة العازلة التي يبلغ طولها 5 كيلومترات حول المطار في العريش، عاصمة شمال سيناء، والتي من المحتمل أن تطرد آلاف السكان. 

بحلول أواخر 2018، بدأت الحكومة في تطبيق سياسات وصفها نشطاء المجتمع المدني بأنها تهدف إلى "إنكار ملكية" أراضيهم وطرد مزيد من سكان المدن في سيناء. تتطلب بعض هذه القوانين من سكان سيناء "إثبات" أصولهم المصرية من أجل الحفاظ على أراضيهم.

بين إنكار ملكيتنا لأرضنا وإنكار مصريتنا.. لن نترك سيناء يتضح أكثر فأكثر هدف تفريغ سيناء من مصريتها بتفريغها من...

تم النشر بواسطة ‏اللجنة الشعبية لشمال سيناء‏ في الجمعة، ٩ نوفمبر ٢٠١٨

القوة "الغاشمة" لا تميز بين المسلحين والمدنيين

اختفت أسماء كافة التنظيمات المسلحة في سيناء لصالح نمو تنظيم ولاية سيناء وتطور عملياته النوعية، وهو ما يرجح اندماج “مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس” و”السلفية الجهادية في سيناء” في تنظيم “أنصار بيت المقدس” الذي تغيرت دفته الفكرية وولاءاته المعلنة، من تنظيم “قاعدة الجهاد العالمي” إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وهو ما يعني توسيع عباءته لتضم تنوعاً أكبر من الجهاديين التكفيريين، وليس فقط السلفيين الجهاديين.

لم ينجح الجيش في هزيمة تنظيم ولاية سيناء بشكل حاسم، لكنه يسيطر على الحياة اليومية في المحافظة بقبضة خانقة، ويقيّد حرية الحركة، ويداهم المنازل، ويشن عمليات اعتقال جماعية، ويصادر الممتلكات دون ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة، حسب تقرير هيومن رايتس ووتش.

وقال كثير من سكان سيناء إنهم رحبوا في البداية بتوسع انتشار الجيش في سيناء في 2012، متوقعين معاملة أفضل من قوات الشرطة، لكن مواقفهم تغيرت سريعاً عام 2013 بسبب الخوف المستمر من الاعتقال من قبل قوات الجيش. قال عديد من السكان إنهم يتعرضون لخطر دائم بوصف السلطات إياهم بأنهم "إرهابيون".

تسيطر السلطات بإحكام على الحركة داخل شمال سيناء وبين المحافظة والبر المصري، ما يؤدي إلى نقص منتظم في الغذاء والماء والإمدادات الطبية للبلدات العالقة بين الجيش والمسلحين. توقف السلطات بانتظام جميع شبكات الإنترنت والشبكات الخلوية عبر مناطق واسعة من شمال سيناء لعدة أيام كل مرة. وتدافع السلطات المصرية عن مثل هذه الإجراءات بأنها ضرورية لإحباط هجمات المتشددين.

رغم إنكار الحكومة للانتهاكات، أقرت بعض البيانات الرسمية في حالات نادرة بوجود مشاكل وانتهاكات لحقوق سكان سيناء.

على سبيل المثال، كتب عضو في "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" على حسابه في فيسبوك عام 2018 أن "الكثير من المُضارين" لم يتلقوا أي تعويض رغم هدم منازلهم أو مزارعهم، أو إلقاء القبض عليهم أو "تم حبسهم لمدد طويلة ثم ثبت براءتهم"، أو أصيبوا أو قُتل أفراد من عائلاتهم. وطالب كل مؤسسات الدولة "العمل على تخفيف مأساة هؤلاء المضارين كنوع من جبر الضرر حتى لا نترك جرحاً لا يندمل وشرخاً يتسع مع الأيام فيصعب رتقه".

كنت في الجلسةرقم ٥٩ للمجلس القومي لحقوق الإنسان اشرح باستفاضة مخلوطة بالغضب عن عدم تعويض الكثير من المضارين في شمال...

تم النشر بواسطة ‏‎Drsalah Sallam‎‏ في الاثنين، ٩ يوليو ٢٠١٨

تضييق إعلامي ومطاردة لناشطي المعارضة السلمية والمجتمع المدني

مع استمرار النزاع، كان تهميش المنطقة الممتد لعقود يقترن بحظر شبه مطلق للتقارير المستقلة من سيناء. بدلاً من ذلك، كثيراً ما يصف الخطاب الإعلامي المؤيد للحكومة سكان سيناء بأنهم "خونة" أو جذر المشكلة، الذين في أحسن الأحوال "لا يقدمون المساعدة الكافية للجيش" للقضاء على الجماعات المسلحة. تتوجه بعض هذه المقالات الإعلامية إلى الجيش بالقول "لنحرقها" و"افرشها نابالم" و"فلندمرها عن آخرها"، "فلا يبقى على أرضها كائن حي"، كما كتب الصحفي المقرب من السلطة سليمان جودة في المصري اليوم.

وبالتدريج أوقفت السلطات معظم حسابات تويتر وفيسبوك التي كانت تنقل الأحداث في شمال سيناء استناداً إلى معايشة ميدانية لما يجري، مثل صفحات:

سيناء نيوز
سيناء 24 NEWS 
بوابة سيناء
قناة سيناء الآن
أخبار سيناء
.. وغيرها.

كما أدت حالة الطوارئ وحظر التجول التي استمرت لسنوات في شمال سيناء إلى تقليص مساحة المعارضة السلمية والمجتمع المدني، وعزز ذلك فرض حظر فعلي على التجمعات المستقلة. تقود هذه الأنشطة بشكل رئيسي "اللجنة الشعبية لشمال سيناء" وهي مجموعة مستقلة تضم سكان سيناء ووجهائها. 

مع ذلك، تمكنت اللجنة من عقد عدد قليل من الاجتماعات على مدى السنوات القليلة الماضية، وطالبت بأن تسمح الحكومة بمثل هذه الاجتماعات، وأصدرت عدة بيانات تنتقد فيها الاعتقالات التعسفية التي تمارسها السلطات وأوامر الإخلاء القسري، ونقص الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه. اتهم بيان صدر عام 2017 سياسات الحكومة لمكافحة الإرهاب بـ"استهداف سكان سيناء" وليس "الإرهاب"، وأن الهدف الرئيسي للحملة التعسفية التي يقودها الجيش هو إجبار سكان سيناء على مغادرة أراضيهم.

لن نترك سيناء.. وسنحميها.. دون تقصير أو تهاون أو تآمر "لن نترك العريش" .. "لن نترك سيناء" ولن تنطلي علينا الدعوات...

تم النشر بواسطة ‏اللجنة الشعبية لشمال سيناء‏ في الخميس، ١٩ أكتوبر ٢٠١٧

في 8 يوليو/تموز 2017، لخّص اللواء محمود منصور، وهو ضابط سابق بالمخابرات الحربية، عقلية الحكومة المتبعة في الصراع عندما قال في برنامج تلفزيوني: كفاية بقى طيبة، وكفاية حكاية مدنيين وكفاية شعارات.. وحقوق إنسان.. اللي خايف على عمره يتفضل يسيب سينا.

اللواء محمود منصور ضابط المخابرات الحربية السابق: اللي خايف على عمره يتفضل يسيب سينا

ضباط الجيش في صفوف المسلحين

أشارت تقارير إعلامية إلى أن عشرات ضباط الجيش والشرطة، بعضهم من الرتب العليا أو قوات النخبة، انضموا إلى الجماعات المسلحة، بما فيها جماعة ولاية سيناء. 

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2017 قاد عماد الدين عبدالحميد، ضابط القوات الخاصة السابق الذي انتهج فكر المتشددين، كميناً في الصحراء الغربية مستهدفاً الشرطة المصرية. وأعلنت جماعة أنصار الإسلام المسؤولية عن الهجوم،  في أول ظهور إعلامي لها.

لكن ثلاثة مصادر أمنية مصرية ذكرت أن مقتله لم يثنِ مزيداً من ضباط الجيش والشرطة عن الانضمام لأنصار الإسلام.

ويقول مسؤولون في المخابرات إن الشبكة السرية التي تتبعها جماعة أنصار الإسلام تمثل تحدياً أمنياً أصعب مما يشكله متشددو سيناء، إذ إنها تتألف من ضباط سابقين في الجيش والشرطة يستخدمون تدريبهم على مكافحة الإرهاب وعمليات الاستطلاع والمراقبة في مهاجمة أجهزة الأمن التي خدموا في صفوفها يوماً ما.

لم تسمع أسرة عماد الدين عبدالحميد عنه شيئاً حتى قتل في ضربات شنتها طائرات حربية مصرية بعد أسابيع من كمين الصحراء الغربية.

واسترجع علاء آخر كلمات شقيقه له في عام 2013. "قال: كيف يمكنني الخدمة في جيش يحاكمني (لالتزامي الديني)، أو أعيش في بلد لا يتبع شرع الله؟".

وفي مايو 2019 تسلمت السلطات المصرية من القوات الموالية للجنرال الليبي خليفة حفتر ضابطا آخر مفصولا من الجيش المصري هو هشام عشماوي، كان شريكا لعماد في الهجوم على كمين للشرطة والجيش في واحة الفرافرة في منطقة بصحراء مصر الغربية، الذي أسفر عن قتل نحو 30 جنديا مصريا عام 2014.

الضابط المفصول من الجيش المصري هشام عشماوي، وهو أحد أهم المطلوبين لدى مصر

الضابط المفصول من الجيش المصري هشام عشماوي، وهو أحد أهم المطلوبين لدى مصر

سيناء ثارت ضد مبارك قبل «التحرير» بسنوات.. وأمنها مرهون بإسقاط العقوبات الظالمة

تحت هذا العنوان المثير، نشرت صحيفة روز اليوسف اليومية يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2011 حوارا مطولا مع إبراهيم العرجاني، الذي وصفته بأنه "ناشط" سيناوي. 

جاء بالتقرير أن العلاقة بين الشرطة والبدو بدأت تسوء عام 2004، عقب تفجيرات طابا وشرم الشيخ.

وقتها، "شنت الشرطة حملة اعتقالات ومداهمات لمنازل البدو بحثاً عن خلية إرهابية مجهولة اتهمت في تفجيرات طابا الحدودية ورغم جهود البدو في مساندة الشرطة لملاحقة المطلوبين ، فإن المبالغة في المداهمات والاعتقالات لأبناء القبائل لتتجاوز بضعة آلاف أوغرت الصدور مع تعرض عدد من الأبرياء للتعذيب وغيره من صنوف الانتهاكات باحتجاز الشيوخ والنساء لإجبار الشباب علي تسليم أنفسهم بحسب البدو. وفي إبريل 2007 دخل المئات من البدو في اعتصام 5 أيام بالقرب من الحدود مع إسرائيل بعد مقتل بدوي وإصابة آخر. قال البدو الشرطة هاجمت الاثنين عمدا، وقالت الشرطة إنهما كانا يستقلان سيارة بدون لوحات وفرا رافضين التفتيش فأطلقت عليهم الشرطة النيران. 

انتهى الاعتصام بعد مفاوضات تدخلت فيها جهات سيادية والإفراج عن عدد من المعتقلين عشوائياً ، ثم تكرر الاعتصام في يوليو من ذات العام،  حتى في مارس 2008 حين تم العثور على جثث 3 شباب من قبيلة الترابيين في مقلب زبالة متهمين الشرطة بقتلهم". 

هكذا يمهد العرجاني للحدث الأكبر في تاريخ الشرطة وقبائل شمال سيناء: قام البدو الغاضبون باحتجاز 42 من قوة الشرطة بقيادة الناشط إبراهيم العرجاني، شقيق أحمد العرجاني أحد القتلى الثلاثة.

مقطع يبدو  فيه جنود الداخلية المختطفين يعترفون على أحد الضباط بأنه القاتل

تم اعتقال العرجاني وشريكه في التدبير سالم لافي لمدة عامين. وفي شهادته للصحيفة تحدث العرجاني عن التعذيب البشع الذي كان يتعرض له في سجن برج العرب. "كل يوم يطلعوني الساعة 6 صباحاً من الزنزانة ويغموا عيني ويطلقون علي 6 كلاب مدربة بلا أظافر وموضوع علي فمها قمامة وتظل الكلاب تحتك بقدمي وترهبوني وأنا مغمض العينين لا أري شيئًا والتعذيب نفسي والكلاب مدربة لا تحدث خدوش أو شيء يثبت التعذيب إضافة إلي ربع زجاجة مياه فقط يوميا ورغيف عيش ناشف مع قطعة جبنة ولمدة 6 شهور في سجن انفرادي. وبعض الوقت مع الجنائيين الصادر بحقهم أحكام إعدام، ولا يوجد حمام بل جردل. وفي يوم أحضروا ثلاثة سجناء محكوم عليهم جنائيا ولبسوهم قمصان نوم حريمي ودعوا كل المعتقلين للفرجة عليهم وقالوا لي الدور عليك غدا. وحاولوا فعل ذلك معي فتعبت ولم أشعر بنفسي إلا في المستشفى واكتشفت أني أصبت بجلطة ولا أستطيع الحركة بسبب شلل نصفي".

إبراهيم العرجاني

إبراهيم العرجاني

ينتهز العرجاني مناسبة الحوار ليذكّر بمطالب أهل سيناء، "نطالب المجلس العسكري بحقوقنا ولن تكون هناك تنمية في سيناء بدون تحقيق الأمن في سيناء والأمن لن يتحقق بدون رفع الظلم عن الصادر بحقهم أحكاما غيابية والحصول علي حقوق كل من ماتوا من البدو علي يد الحكومة وسالم لافي أصدر بيانا طالب فيه بإسقاط العقوبات وأكد أنهم رغم ملاحقتهم مصريون ومستعدون لبذل دمائهم دفاعاً عن مصر وتعمير سيناء فنحن مواطنون شرفاء وسندافع عن كرامتنا".

إبراهيم العرجاني اليوم من كبار رجال قبيلة الترابين، وأسس في 2017 اتحاد قبائل سيناء "لمواجهة الإرهاب"، ومع ذلك دعا العرجاني قبائل سيناء للتوحد مجددا، "حان الوقت للوقوف صفا واحدا امام هذا التنظيم الفاشي"، وأنذر "كل من يساعد داعش بالقول أو بالفعل أو بالرصد بأن عليه تسليم نفسه فورا، فأنتم معروفون لدينا".

إبراهيم العرجاني، الملقب بأسد سيناء ونهر الخير وغيرهما، هو أيضا أبرز المنصات الدعائية لقبيلة الترابين في صراعها مع التنظيم المسلح، وله صورة شهيرة مع الرئيس السيسي، غير محددة التاريخ، يستغلها أنصاره في الدعاية.

الرئيس عبد الفتاح السيسي وإبراهيم العرجاني على إحدى صفحات أنصاره

الرئيس عبد الفتاح السيسي وإبراهيم العرجاني على إحدى صفحات أنصاره

العرجاني هو الآن رئيس مجلس إدارة شركة مصر سيناء للتنمية الصناعية والاستثمار، التي تساهم فيها قبائل سيناء، وتشارك الجيش المصري في مشروعاته الصناعية الضخمة بسيناء.

على سبيل المثال فإن المجمع الضخم لاستخراج وتصنيع خام الرخام والجرانيت بمنطقة وسط سيناء مملوك للشركة الوطنية المصرية للرخام والجرانيت، وهي إحدى شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، وتم تأسيسها بالمشاركة مع شركة مصر سيناء، كما يقول العرجاني.

إبراهيم العرجاني يتحدث عن شراكة القبائل مع القوات المسلحة في إنتاج الرخام

إبراهيم العرجاني يتحدث عن شراكة القبائل مع القوات المسلحة في إنتاج الرخام

كانت مطالب سكان شمال سيناء قبل 2011 تتركز في:

التوقف عن معاملة المواطنين بقسوة في الأسواق أمام المواطنين دون أي ذنب يرتكبونه

الكف عن إطلاق النار العشوائي علي البدو وتلفيق التهم

أن تتم معاقبة المخطيء وحده دون التعدي علي ذويه من السيدات وكبار السن أو أخذهم كرهائن

إعادة النظر في الأحكام العسكرية الصادرة ضد بعض أبناء سيناء من البدو

إلغاء الأحكام الغيابية

تخفيف الإجراءات الأمنية في الأكمنة الأمنية والمرورية وعلي كوبري القنطرة والمعديات على قناة السويس

إنهاء التهميش الاقتصادي لمناطق شمال سيناء

مساواة أبناء سيناء بكافة المصريين في الحقوق والالتزامات..

معظم هذه المطالب لم تتحقق بعد، لكن مياها كثيرة جرت في كل الأنهار  

إنفوجراف: المعلومات الأساسية عن سيناء والأوضاع الراهنة

إنفوجراف: المعلومات الأساسية عن سيناء والأوضاع الراهنة

هكذا تحولت الجماعات المسلحة إلى تنظيمات إرهابية

القبائل الكبرى التي تقطن المنطقة الحدودية من سيناء (مثل: السواركة، والرميلات، والترابين، والتياها، والعزازمة) موزعة بين مصر وفلسطين التاريخية والأردن، ولها أصول وامتدادات داخل بلاد الحجاز (المملكة العربية السعودية). ولم تعرف هذه المنطقة الحدود السياسية بمعناها الدولي إلا بدخول وعد بلفور حيز التنفيذ وبلوغ ذروته باندلاع حرب 1948.

البيئة السيناوية تعتز باقتناء السلاح والمهارة في استخدامه كجزء من الثقافة البدوية العربية، ومع نمو السلفية الجهادية الموالية لتنظيم القاعدة، رفعت شعار: أولوية العدو القريب (إسرائيل) عن العدو البعيد (الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان). ووجدت هذه الجماعات تعاطفاً شعبياً نسبياً مع نشاطها المسلح في الفترة من يونيو/حزيران 2010 إلى أغسطس/آب 2013، حيث اقتصرت عملياتها على استهداف خط تصدير الغاز إلى إسرائيل دون إراقة الدماء.

وازدادت حالة الرضا لدى الأوساط الشعبية السيناوية عندما نقل الجهاديون نشاطهم في 2012 إلى الداخل الإسرائيلي في إيلات وصحراء النقب، وظهرت ذروة التأييد الشعبي في جنازة الجهاديين الأربعة الذين قتلوا بقذائف إسرائيلية ثالث أيام عيد الفطر (أغسطس 2013) قبيل استهدافهم الأراضي الفلسطينية المحتلة بصواريخ أرض-أرض.

لكن حدثت القطيعة عام 2013.

تراجع التأييد الشعبي بشكل جذري مع انخراط الجماعات المسلحة في قتال الجيش المصري، الذي اتهموه بالخيانة والعمالة، ثم  حكموا عليه بالردة والكفر. 

فجأة انتقلوا بعملياتهم خارج شمال سيناء: تفجير مديرية أمن جنوب سيناء، مبنى المخابرات العسكرية في الإسماعيلية، ثم تفجير مديريتي أمن الدقهلية والقاهرة.

وهكذا، تحولت الجماعات الدينية المسلحة في سيناء إلى تنظيمات تمرد مسلح ضد قوات الدولة النظامية.

الخطوة التالية كانت انتقالهم إلى جماعات إرهابية لا تكترث بوجود المدنيين في محيط معاركهم مع القوات النظامية.

لم يستهدفوا المدنيين بشكل موسع، إلا أنهم هددوا باستهداف «بعض الإعلاميين» بتهمة التحريض على قتل المعتصمين في رابعة والنهضة، ثم محاولة اغتيال وزير الداخلية، فضلاً عن استهداف السائحين في جنوب سيناء.

كل هذا حسم التصنيف القانوني لنشاطهم في خانة الإرهاب.

إسرائيل تشارك في المعركة من الجو

وكثيراً ما ركّزت الإصدارات الإعلامية لتنظيم ولاية سيناء، وأجناد مصر أحياناً، على تصوير القصف الجوي الذي يطال المدنيين، لكن شهوداً بالمنطقة الحدودية يؤكدون أن القصف تم بواسطة طائرات بدون طيار "درون"، وهو ما يتطابق مع الرواية الرسمية للأجهزة الأمنية المصرية، التي تزعم استخدام الدرون ضد "التكفيريين"، لكن المحليين و "دواعش سيناء" يتفقون في اتهامهم الجانب الإسرائيلي بمسؤوليته عن هذا القصف المتكرر، المنتهك لسيادة الجيش المصري على أراضي سيناء وسمائها.

وفي 2015، وبموافقة مصر، نفذت إسرائيل غارات جوية ضد مسلحين داخل شمال سيناء. وعلى مدار العامين التاليين، كما ذكرت صحيفة New York Times، قامت إسرائيل بأكثر من 100 غارة من هذا النوع. وقال مسؤولون أمريكيون للصحيفة إن الضربات "لعبت دوراً حاسماً في تمكين القوات المسلحة المصرية من السيطرة على المسلحين. وبث البرنامج الإخباري الأمريكي 60 دقيقة مقابلة مع الرئيس السيسي في يناير/كانون الثاني 2019 أكّد فيها تعاون بلاده مع إسرائيل في شبه جزيرة سيناء.

مأساة أهل سيناء

المنطقة العازلة بداية التهجير القسري

في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2014، شرعت مصر في خلق منطقة عازلة على الخط الفاصل بين شطري مدينة رفح لعزل قطاع غزة عن نقاط الاتصال بسيناء عن طريق الأنفاق.

الخطة تطلبت التهجير القسري لأكثر من 1150 أسرة وتدمير 802 منزل، طبقاً للإحصاءات الرسمية. 

بالإضافة إلى خرق الدستور والخسائر الاجتماعية والاقتصادية، تبدو في الأفق لعبة سياسية مدبّرة بعناية لتحويل أهداف تلك الخطوة لتكون أهدافاً قومية مصرية في مواجهة خطر محلي، لتبرير قسوة تدخل الدولة ضد مواطنيها. 

جريمة لا تسقط بالتقادم

يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم.
مادة 63 من
الدستور المصري

المنطقة العازلة يجري تنفيذها بطول 14 كيلومتراً، هي حدود مصر البرية مع القطاع، وبعمق 500 متر كمرحلة أولى، وهي المسافة الفاصلة بين الشريط الحدودي وبين الطريق الأسفلتي الرئيسي داخل مدينة رفح المصرية.

وتتضمن عملية إنشاء المنطقة العازلة طرد سكانها ونزع ملكياتهم لأراضيهم الموروثة عبر القرون، تلك التي تم تجريفها من الزراعات عالية الجودة قبل سنة، وتم هدم منازل السكان المهجّرين قسرياً منها وتسويتها بالأرض للشروع في إقامة فواصل فعّالة بين غزة وسيناء لمجابهة التهريب عبر الأنفاق.

لماذا يلجأون للتهريب؟

بحلول أواخر عام 2000، أدرك كثير من المراقبين والمسؤولين الحكوميين في مصر أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سيناء يحتاج إلى اهتمام.

قال أحد أعضاء مجلس النواب من عشائر سيناء إن نقص الوظائف أجبر الناس على ممارسة أنشطة غير قانونية، مثل التهريب. حتى إن عضواً محلياً في "الحزب الوطني الديمقراطي" الذي كان يرأسه مبارك قال إن الحكومة المركزية في مصر لن تكون قادرة أبداً على تطوير شمال سيناء بشكل صحيح ما دامت السلطات تعاملها على أنها "منطقة أمنية"، وتعيّن لواءات سابقين في الجيش ووزارة الداخلية لإدارة شؤونها، وتحرم سكانها من مختلف الحقوق والفرص المتاحة في بقية مصر، كالمستوى التعليمي أو ضمان ملكية الأرض بلا تدخل عسكري تعسفي.

هنا دولة الإرهاب: يهاجمون ويقتلون ويقيمون المحاكم الشرعية

في شهادة أحد أبناء شمال سيناء، يحكي عودة، وهو اسم مستعار بناء على طلبه، عن تجربة السكان مع مقاتلي تنظيم ولاية سيناء.

في إحدى المرات، بينما كان عُودة مع أسرته في سيارة تقطع - ما كان يوماً – أراضي سيناء الزراعية الغناء، أوقفهم مسلحو ولاية سيناء عند نقطة تفتيش مؤقتة تديرها جماعتهم، وأجبروهم على مشاهدة عملية إعدام على مقربة من نقطة تفتيش للجيش المصري (حوالي 100 متر). كان المقاتلون قد احتجزوا رجلاً في أواخر العشرينيات من عمره، متهماً بتعاونه مع قوات الأمن المصرية، وكان مسافراً مع والدته.

سحب المسلحون الضحية من سيارته، ورموه أرضا، وتلوا الصلوات بصوت عالٍ لكي يتمكن الناس في المركبات الأخرى من سماعها ومشاهدتها. ثم قتلوا الرجل. 

قفزت والدته من السيارة، وهي تصرخ بشكل هستيري، تغرف بيديها الرمل وترميه.

"عملوا جريمتهم في الطريق عشان الناس تشوف، ظهرت الواقعة بعدين في فيديو"، كما قال عُودة. 

يؤكد عُودة أن الجماعة تهاجم المدنيين عمداَ. فهي تستهدف بشكل رئيسي أولئك المعروفين بتعاونهم مع القوات الحكومية، والمتعاطفين مع الجيش، والمسيحيين، والمسلمين الذين يعارضون فهمهم للإسلام، والكثيرين غيرهم.

بعد فترة وجيزة، قرر عُودة مغادرة سيناء والبحث عن حياة جديدة خارج مصر.

في أواخر 2016، قطع المسلحون رأس طلال، 18 عاماً، وهو سائق تاكسي من بلدة الشيخ زويد، بعد 6 أيام من اختطافه من منزله، بحسب ما قالته والدته "فايزة" لـ هيومن رايتس ووتش. قتلوه لأنهم اشتبهوا في أنه يقدم معلومات إلى الجيش عن الجماعة. قالت فايزة إن طلال هو أصغر أبنائها، وكان قد تخرج في مدرسة صناعية. كانت تسعى إلى إبقائه مشغولاً حتى لا يتورط في "أمور سيئة"، ولذلك اشترت له سيارة التاكسي.

روت فايزة كيف اختُطف ابنها من المنزل، وكيف ألقي رأسه المقطوع أمام باب المنزل بعد 6 أيام.

وقال المجلس القومي لحقوق الإنسان المدعوم من الحكومة إن 650 مدنياً قتلوا على يد مسلحي ولاية سيناء في السنوات الأخيرة، دون احتساب حادثة 2017 التي راح ضحيتها أكثر من 300 من المصلين في المساجد. لكن معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط  معتمداً على مراجعات إعلامية، يقول إن مسلحي الجماعة قتلوا 908 مدنيين على الأقل بين 2014 ويونيو/حزيران 2018. كما أظهرت نفس الدراسة أن المسلحين قتلوا 89 مدنياً على الأقل بعد أن اتهموهم بالتجسس للجيش أو العمل كمخبرين

كما عاقب المسلحون وقتلوا سكاناً محليين من سيناء اعتبروهم غير ملتزمين بالآراء الدينية المتطرفة للجماعة، مثل الجماعات الصوفية.

قتلت ولاية سيناء أيضاً مسيحيين، ما تسبب في هجرة جماعية للمسيحيين من شمال سيناء.

كما استهدفت العمال المدنيين في الشركات التي تديرها الحكومة في سيناء، مثل معمل الإسمنت وبنك وميناء العريش، بدعوى أنها تابعة للقوات المسلحة.

ولاية سيناء لا تمارس سلطة كاملة على منطقة معينة أو بلدات بعينها، ولكنها تمارس نفوذاً كبيراً في بعض مناطق سيناء حيث يبدو الجيش غير قادر على هزيمتها، أو حماية المدنيين منها.

بحسب روايات السكان وتقارير إعلامية، تنشئ الجماعة نقاط تفتيش بانتظام، وتعتقل من يشتبهون في مساندته للجيش. 

كما أنشأت الجماعة شرطة آداب إسلامية (الحسبة)، تفرض تأويلها المتطرف للإسلام، بما يشمل وضع قيود صارمة على لباس المرأة وحظر التدخين.

أنشأت أيضاً محاكم شرعية خاصة بها، تعمل وفق معتقداتها الدينية المتطرفة، و "هيئة رد المظالم" التي تتسلم التظلمات المتعلقة بالإساءات التي يرتكبها عناصرها.

بطل يرتدي جلباباً.. يحمل علم مصر ويدافع عن بلده

مستقبل سيناء في ما يبدو ملبد بالغيوم؛ بالنظر إلى الانتهاكات الوحشية التي تمارس ضد أهلها بما يفوق خبراتهم وذكريات شيوخهم مع انتهاكات جيش الاحتلال، وبما يدفع بعض الجهول إلى الترحم على أيام قمع مبارك لكونه أهون مما يتجرعونه الآن. وفي كل الأحوال يخسر الجيش الوطني الذي طالما ارتبط الوجدان الجمعي لأهل سيناء به بكل ما هو مشرف وإيجابي.

وفي ظل إقصاء أبناء سيناء من الجيش والشرطة، فإن العمليات تحمل في طياتها سمة التمييز/ الانتقام الجغرافي. لقد رسخت العمليات الموسعة وما اشتملت عليه من عقاب جماعي، التمييز بين أهل سيناء وأهل وادي النيل. واستدعت مقارنة "المصريين"

-أي أهل وادي النيل- بمن سبقهم في المرور بسيناء من خارجها.

لا يزال انحياز أغلب سكان سيناء للدولة المصرية، وليس الحكومة القائمة أو غيرها من الحكومات، وهو ما يظهر في أقوال الكبار ولعب الصغار. ولا يزال العلم المصري يحمل رمزية، لأنه "بديل علم الصهاينة"؛ فيرسمه الأطفال في لوحات تعبيرية بسيطة، يرفرف فوق سيارة دفع رباعي، تحمل مدفعاً ثقيلاً، يشتبك به ملثم يرتدي جلباباً (بطل الرسم) مع قوات الجيش. وحين يستفسر المعلم من التلميذ صاحب الرسم، يجيبه بأنه يدافع عن أرضه،  حاملاً علم بلده.

جرح غائر في نفوس أهل سيناء لا يبوحون به إلا بعد طول مثابرة ومعايشة، أو تكشفه رسوم الأطفال، فيتلمس الباحث مدى الهوة اللازم سدها على مدار سنوات طويلة مقبلة، من المصالحة، والعدالة الانتقالية، والتنمية بالمشاركة.

إسماعيل الإسكندراني
الباحث المتخصص في الشأن السيناوي

إسماعيل الإسكندراني أثناء محاكمته

إسماعيل الإسكندراني أثناء محاكمته