تصفية القطاع العام

خطة الحكومة المصرية لتصفية شركات تدرُّ أرباحاً مقابل ترك أخرى خاسرة.. 48 شركة خاسرة تابعة لقطاع الأعمال منها 30 شركة مستمرة في الخسائر منذ 10 سنوات

أسئلة كثيرة لا تزال مطروحة منذ الإعلان عن تصفية شركة الحديد والصلب المصرية في الحادي عشر من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بذريعة خسائرها وديونها المتراكمة التي تجاوزت 8 مليارات جنيه.

لم يقدم المسؤولون المعنيون إجابات عن مصير ممتلكات وأراضي تلك الشركة، وهل ما حدث من تصفية هو مجرد كلمة البداية لرحلة من تصفية بقية شركات قطاع الأعمال العام، خصوصاً المتخصصة في الصناعات الثقيلة والحيوية؟! ولمصلحة من تتخلى الحكومة المصرية عن تلك الشركات لتخلي الساحة أمام القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية للتحكم في الصناعات الحيوية، في وقت تتمسك فيه أغلب الدول الرأسمالية بإبقاء تلك الصناعات تحت سيطرتها المباشرة؟!

لكن يبدو أن هناك سياسة ممنهجة لبيع شركات قطاع الأعمال وأن "جراب" الوزير ما زال يحوي العديد من المفاجآت بالنسبة لعدد من الشركات سيتم الإعلان عن تصفيتها لاحقاً بعدما تهدأ عاصفة الحديد والصلب.

وأن تصفية بعض شركات القطاع ونقل بعضها الآخر للمناطق الصناعية خارج الكتلة السكانية أصبح هدفاً للوزارة، لعدة أسباب أهمها الاستفادة من أصول هذه الشركات ونقلها للصندوق السيادي، فالأراضى المقام عليها هذه المصانع أغلبها في مناطق متميزة وأصبحت تساوي مليارات الجنيهات، ما يعني أن بيعها وإنشاء مصانع أخرى خارج الكتلة السكانية سيساهم في تعمير المناطق الصناعية وفي نفس الوقت جلب إيرادات هائلة للدولة من بيع هذه الأراضي.

3 شركات تدخل المراحل الأخيرة للتصفية..

و 8 أخرى في الخطة

لا يمكن التكهن بالشركة التي قال الوزير إنها على جدول التصفية المقبلة، خاصة أن السوق الآن يضم شركتين فقط في مجال الحديد والصلب هما "الدلتا للصلب، والسويس للصلب"، الأولى تحقق تقدماً ملحوظاً فيما يتعلق بملف إعادة الهيكلة، أما الثانية فهي مملوكة لجهاز الخدمة الوطنية التابع للجيش والبعيد عن سيطرة وزارة قطاع الأعمال العام.

لكن المتابع لتصريحات الوزير يكتشف أن الأمر لن يتوقف على شركة واحدة كما صرح مؤخراً ويبدو أنه لا يريد زيادة حالة الاحتقان ضده لأنه لم ينفِ في تصريح سابق أن الحديد والصلب لن يكون آخر المصانع التي ستتم تصفيتها بل قال إن المستقبل سوف يشهد تصفيات جديدة والتي وصلت حتى الآن إلى 3 شركات فقط هي القومية للأسمنت والحديد والصلب، والمصرية للملاحة، من أصل 119 شركة، ربما تصل مستقبلاً إلى 4 أو 5 أو 6 حالات ليس هناك أمل في إنقاذها وسيكون الحل هو الإغلاق.

وأضاف الوزير ببساطة: "وضعنا هذه الأمور في القانون، لن نسمح لشركة خاسرة "تعيش عالة على الاقتصاد والمجتمع"، الشركات لا بد أن تقف على رجلها ومن لا يستطيع سيغلق، وأرى أنه لا بد من قطع "الحبل السري" بين الشركات والحكومة التي تضخ أموالاً طائلة في هذه الشركات.

علمت "عربي بوست" أن من أبرز الشركات المعرضة للتصفية خلال الفترة المقبلة شركات مصانع النحاس المصرية، والنصر للأجهزة الكهربائية – نيازا، والنقل والهندسة، ومطابع محرم الصناعية بجانب شركات خاسرة أخرى مثل النصر لصناعة المواسير الصلب ولوازمها، وشركة النصر للكيماويات الدوائية، والعامة للمشروعات الكهربائية – إيليجكت، وعمر أفندى.

يعلق خبير اقتصادي لـ"عربي بوست" على كلام الوزير، فيقول إن هناك 8 شركات قابضة هي المتبقية من 37 استحدثت في التسعينيات لتضم الشركات الحكومية المنتجة ضمن برنامج الخصخصة، بينما تقلص عدد الشركات التابعة لها إلى 119 شركة، بحسب موقع وزارة قطاع الأعمال، ووفق تصريحات لمسؤول في وزارة قطاع الأعمال العام سيشهد العام المالي 2020-2021، انخفاضاً في عدد الشركات من 119 إلى 90 شركة فقط نتيجة دمجها.

ويضيف أن قرارات التصفية ربما تأتي لفشل الوزارة في دمج بعض الشركات، ومنها على سبيل المثال دمج شركة النصر للسيارات مع الشركة الهندسية وهو أمر لم يأت بالنجاح المنشود، كما أن دمج شركة ميتالكو مع شركة الترسانة لم يصادفه النجاح بل تسبب الدمج في انهيار الشركتين معاً، وباتت الشركة الجديدة ميتالكو قاب قوسين أو أدنى من التصفية.

شركة خاسرة

شركة خاسرة

وبحسب الأرقام الرسمية فإن هناك نحو 48 شركة خاسرة العام المالي 2018-2019، منها نحو 30 شركة مستمرة في الخسائر خلال آخر 10 سنوات، مما يشير لعدم قدرتها على النهوض.

تتصدر شركة “مصر للغزل والنسيج” بالمحلة الكبرى، التي تأسست عام 1927 كإحدى شركات بنك مصر، الخسائر برأس مال قدره 300 ألف جنيه، وسجلت خسائر بلغت 2.6 مليار جنيه على مدار 4 سنوات بينما تقدر خسائرها المرحلية لشركاتها التابعة بـ40 مليار جنيه.

تعاني الشركة التي تضم قرابة 20 ألف عامل من نفس مشكلات الحديد والصلب المصرية، أهمها الآلات المتقادمة التي يعود بعضها إلى عام 1947 والإنتاجية الضعيفة، بجانب ضعف التسويق وعيوب التصنيع وعدم مواكبة الموضة.

كما تواجه "الدلتا للأسمدة" التابعة للقابضة للصناعات الكيماوية، خسائر قدرت بـ484 مليون جنيه، في ظل رغبة المحافظة لاستغلال أراضيها لبناء مشروع سكني.

وفي قطاع الصناعات المعدنية، تحولت شركة مصر للألومنيوم إلى خسائر بلغت 1.671 مليار جنيه بالعام المالي الأخير بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء.

كما ارتفعت خسائر الشركة العامة للورق "راكتا" إلى 569.5 مليون جنيه، بنسبة 380% من رأس المال المصدر. 

وبلغت خسائر شركة "شيني للخزف الصيني" خلال 9 أشهر 33 مليون جنيه من بداية يوليو/تموز حتى نهاية مارس/آذار الماضي.

وهناك مصانع شركة المصرية للمواسير والمنتجات الأسمنتية– "سيجوارت"، التي تكبدت وفقاً لآخر البيانات خسارة مجمعة 638 مليون جنيه، ومديونيات قروض بلغت 668 مليون جنيه.

تعديلات البرلمان مهَّدت لقرارات التصفية

ثمة مخاوف تنتاب عشرات الآلاف من العمال في شركات قطاع الأعمال العام، عقب إعلان تصفية "الحديد والصلب" وقبلها "المصرية للملاحة" في فبراير/شباط 2020 وقبلهما "القومية للأسمنت" في أكتوبر/تشرين الأول 2018.

يشير محمد حمدي -وهو نيابي مخضرم- إلى أن التعديلات التشريعية التي أقرها البرلمان على قانون قطاع الأعمال العام في دورته الماضية برئاسة علي عبدالعال كانت محل انتقاد نقابيين كثر، وثبت الآن سوء النوايا، لأنها مهدت الطريق لتصفية وبيع شركات قطاع الأعمال العام. 

كان من بين تلك التشريعات، تشكيل مجالس إدارات شركات قطاع الأعمال ونسب التمثيل داخلها، ومن لهم الحق في وضع اللوائح الداخلية لتلك الشركات، وتخفيض مشاركة العاملين في مجالس الإدارات إلى عضوين على الأكثر، ما أدى لحرمانهم من اتخاذ أي قرارات مؤثرة إضافة لمواد متعلقة بتصفية الشركات الخاسرة. 

كما منحت الجمعية العمومية أحقيّة عزل عضو أو أكثر من مجلس الإدارة دون سبب، والتي يجري استخدامها لتصفية الحسابات مع بعض المسؤولين المجتهدين بالشركات أو الرافضين للتصفية مثلما حدث مع مجلس إدارة الحديد والصلب الذي تم إعفاؤه في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتعيين مجلس يقبل بما يريده الوزير.

الأمر ذاته ينطبق على القانون 159 الخاص بالشركات المساهمة وما يتضمنه من خطورة نقل أسهم شركة تابعة إلى شركة أخرى تحت مبرر تنشيط أداء البورصة، حيث يحمّل بعض الشركات الناجحة أعباء فشل الأخرى.

لا يتوقف الأمر عند القوانين الموضوعة لتصفية القطاع العام وإنما تم استحداث قرار جديد في الوزارة بالفصل بين مجلسي الإدارة التنفيذي وغير التنفيذي (رئيس مجلس إدارة وعضو منتدب) وهو ما أدى إلى إضافة وظائف قيادية بالشركات برواتب جديدة حملت عبئاً أكبر على ميزانيتها بالرغم من خسارتها.

حصر 185 أصلاً غير مستغل تمهيداً لنقل ملكيتها لصندوق مصر السيادي

مصير أصول الشركات التي ستتم تصفيتها غامض كمصير العمال، إذ توصلنا إلى معلومات تفيد بنية نقل بعض أصول شركات قطاع الأعمال العام للصندوق السيادي، ودعم رأيه بموافقة مجلس النواب السابق على مشروع قانون مُقدم من الحكومة صيف العام الماضي بتعديل بعض أحكام القانون رقم 202 لسنة 1991 بشأن شركات قطاع الأعمال العام، حيث يُتيح التعديل الذي تقدم به المهندس أحمد سمير، رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية بالبرلمان، نقل بعض أصول شركات قطاع الأعمال لصندوق مصر السيادي.

وكان وزير قطاع الأعمال اتفق بالفعل مع الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط، على وضع بعض الأصول التابعة للوزارة في هذا الصندوق، من خلال صندوقين فرعيين، الأول للفنادق والثاني للتطوير العقاري للنشاط الإداري.

وتكشف مصادر عن اتجاه الوزارة إلى طرح أراضي الشركات وأصولها غير المستغلة، عقب هدوء الموجة الثانية من فيروس «كوفيد 19» وأن الوزارة انتهت من حصر الأصول غير المستغلة وعددها الإجمالي ١٨٥ أصلاً، تمثل شركات يمكن وصفها بأنها عصب القطاع، موضحاً أن ٩٥% من الأصول غير المستغلة عبارة عن أراض والباقي مبان ليست لها قيمة مضافة، على أن يتم استغلال العائد في تدبير التمويل اللازم لخطط الهيكلة والتطوير، بجانب سداد مديونيات الشركات للجهات الحكومية البالغة نحو 38 مليار جنيه.

ويشير المصدر إلى أن الوزير لا يدخر وسعاً للتصرف في أصول الشركات التي قال عنها إنها "خاسرة" وبحث الشراكة مع وزارة الإسكان حتى لا يضيع وقتاً خاصة الأراضي التابعة لشركات الغزل والنسيج، موضحاً أن كل البدائل متاحة سواء أن تشتري وزارة الإسكان الأراضي، أو تتم الشراكة في المشروعات مثل أرض المحمودية (يتضمن تنفيذ وحدات إسكان فندقي، وأنشطة تجارية ترفيهية، ووحدات إدارية، وعيادات طبية، ووحدات سكنية).

ويشير إلى أن هناك أصولاً بشركات «الحديد والصلب، والدلتا للأسمدة المعروفة بسماد طلخا، وكفر الدوار، ومصر للألومنيوم»، وستقوم الوزارة أولاً باستبدال الاستخدام الخاص بالأراضي من صناعي إلى سكني، وقد أنشأت بالفعل وحدة خاصة في الوزارة للعمل على هذا الملف، على أن يتم طرح بعض الأراضي في المزادات في أقرب وقت.

وتمتلك شركة الحديد والصلب أصولاً ضخمة غير مستغلة، منها أراضٍ ضخمة تصل إلى 790 فداناً بحوزة الشركة وضع يد بمنطقة التبين، وكذلك 654 فداناً وضع يد بالواحات البحرية، إضافة إلى 54 فداناً مشتراة من الشركة القومية للأسمنت منذ عام 1979، وقطعة أرض بمساحة 45 ألف متر مربع بأسوان من نتيجة تسوية نزاعها مع شركة الصناعات الكيماوية "كيما"، بالإضافة إلى كميات ضخمة من الخردة تصل إلى 600 ألف طن، بالإضافة إلى جبل التراب الذي يحتوي على خردة تقدر بـ700 ألف طن، قدّرها وزير قطاع الأعمال في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي بنحو 5 مليارات جنيه (310 ملايين دولار).

أما بالنسبة لشركة "سماد طلخا" فالرئاسة لديها مشروع خاص بها وهناك احتياج لأرض المصنع المغلق، لتحويله إلى مساكن بديلة للعشوائيات، التي تبعد عن المصنع 400 متر فقط وأوضح المصدر أن الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة ستسدد مقابل الأرض، وستقوم ببناء مساكن بديلة للعشوائيات، على أن يتم غلق المصنع ونقله، وصرف تعويضات للعمال.

وبالنسبة لشركة كفر الدوار قال المصدر إنه تم عرض 190 ألف فدان تابعة لمصنع كفر الدوار على الهيئة الهندسية ومن المرجح استخدامها كمجمعات سكنية.

تقييم غير واقعي لسعر أرض شركة الحديد والصلب

لا يبدو أن بيع تلك الأراضي سيكون بسعرها الحقيقي وهو ما كشف عنه النائب البرلماني مصطفى بكري، وهو منتخب عن ضاحية حلوان التي يقع فيها مقر شركة الحديد والصلب، حيث قال إن هناك أرضاً في التبين تابعة لوزارة قطاع الأعمال وتم تقييم المتر بـ594 جنيهاً للمتر في حين تم تثمين سعر المتر من قبل خبراء مثمنين بـ5 آلاف جنيه، وهذه مسألة تحتاج لتحقيق من المسؤولين في الدولة، لافتاً إلى أن هذا التسعير للأرض من قبل الوزارة يضيع على الدولة 12 مليار جنيه.

وقال بكري أيضاً إن الوزير يفجّر البلد، ويشرّد العمال في حلوان والتبين وطلخا والمحلة والسويس، وأضاف بكري في كلمته خلال الجلسة العامة لمجلس النواب بحضور وزير قطاع الأعمال هشام توفيق، أن الوزير لديه موقف من البداية من العمال ولم يقم بزيارة المصنع أو حضور الجمعية العمومية، معترضاً على تصريح سابق للوزير بأنها شركة قطاع عام لا تساوي 10 قروش (الجنيه 100 قرش).

وزير قطاع الأعمال: المطالبة بوقف التصفية عبادة للأصنام!

يشير تصاعد الأحداث إلى بلوغ نقطة صدام مرتقبة، حيث ترفض الدولة حتى الآن التراجع عن قرار التصفية، وفي نفس الوقت لا يبدو أن العمال سيتراجعون عن قرار الاعتصام رافعين شعار "على جثتنا نبيع شركتنا".

في غضون ذلك أقام المحامي المثير للجدل سمير صبري دعوى ضد الحكومة المصرية لوقف تنفيذ القرار، وانضم إلى العمال في مطالبهم الكثيرون من ممثلي الأحزاب والمنظمات النقابية والعمالية والشخصيات المعارضة للتوجهات الحكومية لتصفية مصنع الحديد والصلب وسماد طلخا وغزل كفر الدوار ومجمع الألومنيوم وغيرها من الصناعات، وقرروا إطلاق "الحملة الشعبية لحماية الحديد والصلب والصناعة الوطنية"، ودعوة كل المواطنين للعمل المشترك للتصدي لمخطط التصفية ببدائل علمية.

وتحرك عدد كبير من نواب البرلمان وقدموا طلب إحاطة لمساءلة وزير قطاع الأعمال، كخطوة مهمة وأداة من أدوات الضغط عليه والحكومة ككل للتراجع عن القرار والتفكير في حلول أخرى.

لكن يبدو أن كل هذه التحركات لم تغير من قناعة وزير قطاع الأعمال هشام توفيق الذي قال أثناء استجوابه في مجلس النواب: "إعادة الشركة للعمل في ظروفها الحالية لا يُقدم عليه إلا أرعن".

فالوزير توقع رد الفعل القوي تجاه القرار بسبب أن الشركة تاريخية ولديها صدى عند الناس، متسائلاً: "متى سنتخلى عن الأصنام؟ هم لا يريدون أن نتخلى عن الأصنام، ويقولون إن الشركات عرض وشرف، وهذا غير معقول!".

يقول محمد مرزوق، وهو محام متخصص في القضايا العمالية، لـ"عربي بوست" إن اللجوء للقضاء لن يوقف تصفية شركة الحديد والصلب، لأن من اتخذ القرار هو الجمعية العامة للشركة، وهو إجراء صحيح وفقاً لقانون قطاع الأعمال العام المعدل في صيف عام 2020، ولا يمكن وصفه بأنه قرار حكومي، شارحاً أن اللجنة الحكومية التي كانت تدرس ملف الحديد والصلب، ليست هي صاحبة القرار، ووقتها كان يمكن إبطاله في مجلس الدولة، مثلما حدث في الخصخصة.

يشير المحامي إلى أن المادة 38 من تعديلات قانون قطاع الأعمال العام، تحدد مدة 3 سنوات للشركات الخاسرة للتصفية وتنص المادة:

وبذلك رميت الكرة في شباك الجمعيات العامة للشركات والشركات القابضة؛ بحيث تقوم بضخ رأس مال للشركات الخاسرة أو دمجها أو تصفيتها إن كانت خطط التطوير غير مجدية.

ويقسم المحامي المطالبين بوقف القرار إلى فئتين الأولى: عمال ليس لديهم ثقة بالوعود الحكومية التي تسفر في النهاية عن تعويضات هزيلة بعد تشريدهم وفرض سياسة الأمر الواقع، وكانت تلك السياسة سبباً فيما شهده العام الماضي من احتجاجات عمالية بسبب تصفية شركات قطاع الأعمال العام.

أما الفئة الثانية فهم من يرون بيع شركة الحديد والصلب لا يختلف كثيراً عن قرار تخلي السيادة عن أراض مصرية، هؤلاء يدركون أهمية الصناعة الوطنية بعيداً عن تحكم الاستيراد أو رجال الأعمال، خاصة الصناعات الثقيلة التي تمثل عصب الحياة اليومية، وهو ما تحقق لهم في المشروعات التي تأسست في الفترة الناصرية، وتنوعت بين الحديد والصلب والغزل والنسيج والأسمنت.

عمال الحديد والصلب يدخلون اعتصاماً مفتوحاً

خيم على مدينة التبين بضاحية حلوان أقصى جنوب محافظة القاهرة حيث مقر شركة الحديد والصلب المصرية التي تعد من كبرى شركات الحديد في الوطن العربي، حزن ثقيل وبدا سكانها وكلهم تقريباً من عمال الشركة وأسرهم، كما لو كانوا في مأتم، فلا حديث هناك يعلو على القرار الكارثي- حسبما يصفونه- بتصفية المصنع وتشريد العمال الذين ساهموا مع من سبقوهم في تأسيس المصنع وبلوغ ذروته الإنتاجية، ثم عاصروا تراجعه نتيجة سوء الإدارة دون سعي جاد من الدولة للنهوض به.

لذلك قرر عدد كبير من العاملين بالمصنع الاعتصام بداخله غير مهتمين بالتبعات التي قد تصل إلى الاعتقال والحبس كما حصل لأسلافهم حين اعتصموا عام 1989 مطالبين بتحسين الأجور وظروف العمل.

وعلى الرغم من تصريح هشام توفيق وزير قطاع الأعمال العام أن قيمة التعويض الذي سيحصل عليه كل عامل ٢٢٥ ألف جنيه، فإن العمال رفضوا إنهاء اعتصامهم وما زالوا حتى كتابة التقرير معتصمين داخل المصنع، الذي حاصرته قوات الأمن من جميع الاتجاهات تحسباً لانضمام عمال آخرين للمعتصمين الذين تعدى عددهم كما قال أحد العمال 4000 يتوزعون بين عمال وفنيين ومهندسين.

اللافت في اعتصام عمال الحديد والصلب هو الجرأة البالغة التي تحلوا بها، والتي وصلت للمطالبة بإلغاء وزارة قطاع الأعمال وعودة الشركات إلى الوزارات المختصة بها مثلما كانت عليه في السابق، وإقالة الوزير الذي استند في قراره المفاجئ إلى رأي لجنة معظم أعضائها من بنوك الاستثمار الكبرى وهؤلاء لا يفقهون شيئاً عن القطاع العام ومشاكله.

رصد "عربي بوست" هتافات غاضبة يرددها العمال من وقت لآخر لتعزيز حماستهم ولفت الانتباه الإعلامي لاعتصامهم ومطالبهم، ومن بين تلك الهتافات: "يا سيسي قول لهشام إزاي جاي لك قلب تنام" و"باطل" و"العمال يريدون إقالة الوزير".

التصفية رغم كمية الإنتاج الضخمة

أحد العمال المعتصمين بالمصنع ويدعى عبدالمنعم على درجة فني رابع أوضح لـ"عربي بوست" أنه حاصل على شهادة "التلمذة الصناعية" وبعدها أمضى ثلاث سنوات في مدرسة التدريب التابعة لشركة الحديد والصلب ووقّع على إقرار بالعمل في الشركة وفي حالة إخلاله بذلك سيدفع غرامة بقيمة 2000 جنيه، وبالفعل تم تعيينه في 30 يونيو/حزيران 2011، ضمن دفعة العمال الأخيرة التي تم تعيينها في الشركة حيث تم إيقاف التعيينات من بعدها.

يتقاضى العامل كما يقول 3000 جنيه، بينما من سيخرجون إلى المعاش قريباً لا يزيد أجرهم على 4000 جنيه، وتصل رواتب المهندسين إلى 7 آلاف.

يصف العامل يوم اجتماع الجمعية العمومية غير العادية بـ"المشؤوم" بعدما اتخذت قراراً كارثياً سينتج عنه إنهاء مجتمع عمالي استمر 67 عاماً، موضحاً أنه في ذات اليوم كانت كمية الإنتاج ضخمة مقارنة بالشهور السابقة وكانت عبارة عن 15 صبة حديد بإجمالي 1200 طن، وكأن الآلات كانت تحنو علينا وتقول لنا "نحن معكم"، بعدما شعرت بما يتم تدبيره في غرفة الاجتماعات.

يلتقط عم سمير. م طرف الحديث قائلاً بتباهٍ لـ"عربي بوست": إنه من العمال الفنيين درجة أولى ومسؤول عن صيانة القطارات بالمصنع، وتم تعيينه عام 1977 متذكراً أن في ذلك الوقت كان العمل في مصانع القطاع العام "أمل" وخاصة مصنع الحديد والصلب بسبب المميزات التى كان يحصل عليها العامل من سكن مجاور لمكان عمله وراتب جيد وحوافز وبدلات ثابتة، إضافة إلى الأرباح السنوية.

عمل عم سمير بالعنبر الجديد الذي أنشئ خصوصاً لخدمة الفرنين الثاني والثالث، وحصلت عليهما مصر من روسيا، وكان إنتاجهما أضخم كثيراً -كما يقول- من أفران ألمانيا.

يتحسر العامل الفني عما آلت إليه أوضاع المصنع من تدهور مما تسبب في خفض العمالة من 26 ألف عامل إلى 10 آلاف فقط ثم وصل العدد إلى أقل من 7500 عامل، وهو ما أدى إلى إغلاق العنابر لعدم توفر الأيدي العاملة، فضلاً عن نقص المواد الخام.

يتذكر عم سمير عندما تم فتح نظام المعاش المبكر لعمال القطاع العام، مع فترة الخصخصة في منتصف تسعينات القرن الماضي، حيث رحل وقتها الصنايعية المهرة بعدما رفضت الإدارة الاستفادة منهم وتعيين جيل جديد يقومون على تدريبه وإعطائه خبراتهم و"كأنها ما صدقت تخلصت منهم!".

يضيف العامل الخمسيني بحرقة: "يبدو أن هناك خطة ممنهجة للقضاء على التكتلات العمالية وتجمعاتهم التي تزعج أي نظام، نظراً لعددهم الضخم وتكاتفهم على قلب رجل واحد".

فأغلب عمال الحديد والصلب يعيشون في التبين وهي المدينة التي بُنيت على مساحة قدرها 61 فدناً، وتم تصميم مساكنها على طراز روسي، وكانت الحالة الاجتماعية للعامل تتحكم في نوع الشقة التي يحصل عليها فالأعزب يحصل على شقة تتكون من غرفة وصالة، وبعد الزواج ينتقل إلى شقة أخرى من غرفتين وصالة، وعندما يكبر أبناؤه قليلاً ينتقل إلى شقة أخرى مكونة من 3 غرف وصالة، وبعد المعاش كان يتم تسليم الشقة إلى الشركة مع توفير بديل له.

يأتي هذا في وقت نشرت فيه الجريدة المصرية الرسمية يوم18 فبراير/ شباط 2021، قرار من وزير الإعمال بتأسيس شركة الحديد والصلب للمناجم والمحاجر برأس مال يبلغ ١٩٥ مليون جنيه كشركة مساهمة تمتلك فيها الشركة القابضة للصناعات المعدنية نسبة 82.5% من أسهم الشركة الجديدة.

وبحسب القرار فإن الغرض من الشركة هو استخراج الحديد والمعادن والاتجار فيها، بالإضافة إلى العمل في تركيز الخامات المستخرجة وعمل دراسات الجدوى للخامات المعدنية بمناطق البحث. والأبرز كان استغلال مناطق عمل الشركة استغلالاً تجارياً وزراعياً وسياحياً بهدف تحقيق الربح.

أرباح خيالية من مصنع أسطوانات الأوكسجين ونية مبيتة

تنبأ عم جمال (49 عاماً)، فني تشغيل أوناش، بذلك المصير الأسود كما يقول لـ"عربي بوست" منذ قرار تحرير سعر صرف العملة الأجنبية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، وكان دائماً ما يقول لأصدقائه إن ارتفاع أسعار الخدمات ومواد الطاقة ستقضي على هذا الصرح الكبير في ظل عدم وجود خطط جادة لتطويره.

لا ينكر العامل أن التشغيل كان يتأخر لكنه أرجع ذلك لتأخر الفحم وهو ما تسبب في خسائر فادحة، فضلاً عن أن المسؤولين كانوا يبيعون الطن بسعر أقل من التكلفة الحقيقية.

لا يدري الرجل ماذا سيفعل هو وعائلته بعد قرار التصفية! ويرفض التعويض الذي أعلن عنه الوزير وقيمته 225 ألف جنيه لأنه لن يتمكن من إيجاد عمل بديل وهو يقترب من الخمسين عاماً. وتساءل: "لماذا نتحمل فشل غيرنا وأخطاءهم؟ أنا شغال عندهم لي إنتاج أطلعه لكن التطوير دا مسؤوليتهم"، مستشهداً باتهامات وزير قطاع الأعمال المصري هشام توفيق للمسؤولين السابقين بالتسيب وتشغيل المصانع بطريقة غير مسؤولة.

يذكر أن وزارة قطاع الأعمال أعلنت أن قرار تصفية شركة الحديد والصلب جاء إثر "فشل محاولات كثيرة لوقف نزيف الخسائر التي بلغ مجموعها في 30 يونيو/حزيران الماضي حوالي 8.5 مليار جنيه وبلغ التعثر المالي مداه في عدم قدرتها على سداد رواتب العاملين.

ويشير عم جمال إلى أن الأمر مبيت، بدليل أنه يحدث في وقت كان يمكن للمسؤولين أن يحققوا أرباحاً خيالية لو أرادوا، حيث تزداد الحاجة بشدة لأسطوانات الأوكسجين لعلاج مرضى فيروس كورونا وحاجة المستشفيات إلى عشرات الآلاف من أنابيب الأوكسجين الذي ينتجه المصنع من خلال محطة أوكسجين بنيت عام 2010 بالتعاون مع الشركة القابضة المعدنية، وتساهم إلى الآن في توفير الأسطوانات حيث أعلنت وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد، في ديسمبر/كانون الأول 2020 التعاون مع مصانع الحديد والصلب، بهدف دعم احتياجات المستشفيات من أسطوانات وخزانات الأوكسجين الطبي بشكل دوري، فضلاً عن إمكانية تصدير تلك الأسطوانات إلى الدول العربية والإفريقية التي تحتاج إليها، وبالتالي كان يمكن تحقيق إيرادات هائلة بالعملة المصرية و"العملات الصعبة".

مصير مجهول ينتظر عمال المصنع

لم يطرح وزير الأعمال تصوراً محدداً لمصير 7500 من العاملين في شركة الحديد والصلب، وعندما سأله أحد الصحافيين عن إمكانية توزيع العمالة على المصانع الأخرى، قال: "لا يوجد لدينا شركات يمكنها تحمل العمالة حالياً، لأن لدينا فائض عمالة في معظم الشركات، ولا يمكن توزيعها على شركات أخرى".

هذا التصريح لم يكن جديداً على العمال كون نفس السيناريو حدث مع عدد كبير من عمال الدلتا للأسمدة بعد الانتقال إلى مقر المصنع الجديد حيث قال الوزير وقتها: "نستطيع نقل 500 عامل على الأكثر، وسيتم توفير مساكن لهم تسمى سكن عزاب، وليس عائلات كما كان من قبل، وبالنسبة لباقي العاملين الذين يبلغ عددهم نحو 2000 عامل، فسوف يحصلون على تعويضات، ما يوازي خمس أو ست سنوات من أجورهم الحالية، وهو الحل الوحيد المستطاع تقديمه".

وعندما سأل "عربي بوست" مصدراً مسؤولاً بوزارة قطاع الأعمال العام عن إمكانية تقديم معاش لهؤلاء العمال أجاب: "الوزارة ليس دورها تقديم معاش مبكر أو متأخر للعمال لأن المعاشات تخص هيئة التأمينات الاجتماعية وحسب قوانينها، ولكن الوزارة ستقدم لهم تعويضات مناسبة".