هل دق ترامب أخر مسمار في نعش النظام العالمي؟

منذ أعلن الرئيس الأمريكي وفاة النظام العالمي لصالح شعار "أمريكا أولا" وهو يواصل تدمير التحالفات القديمة والمنظمات الدولية وقواعد "الاحترام المتبادل"

أمام نظرات خاوية وإيماءات رافضة ووجوه عابسة، كان يتحدث.

هكذا وصفت وكالة أنباء الصين الرسمية، شينخوا، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطابه أمام الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة.

كان الرجل يحاول حرفيا أن يقلب العالم رأسا على عقب.

يومها، 25 سبتمبر/ أيلول 2018، أعلن ترامب سياسته الخارجية الجديدة، القائمة على شعار "أمريكا أولا".

هاجم العولمة، والمنظمات والمعاهدات الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والاتفاق النووي الإيراني، وجميعها أعلنت إدارته إما الانسحاب منها أو فرض عقوبات عليها.

وسلط الضوء على تعهده "بوضع السيادة فوق الحوكمة العالمية".

ودافع عن قراراته الدبلوماسية المثيرة للجدل.

انتقد إيران وفنزويلا وألمانيا وبلدانا أخرى.

تفاخر بالعقوبات الأمريكية على الخصوم.

تعلق "شينخوا" مرة أخرى لتقول إن الخطاب انتهى "بتصفيق ضعيف".

لكن ترامب لا يعبأ بتصفيق العالم، لا سيما أن معظم الحاضرين خصوم تاريخيون أو محتملون.

ولا يهتم لعنوان نيويورك تايمز: أكاذيب ترامب أمام الجمعية العامة.

ولا لتغطية بي بي سي: موجة ضحك تقابل كلمة ترامب في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لكن ترامب كان يدشن، بصراحته المعهودة، نظاما جديدا للكوكب، يسعى إلى صناعة حقبة أمريكية خالصة.

يستعرض هذا التقرير ملامح النظام العالمي الذي يحاول ترامب هدمه، وتصوراته التي يفرضها على الخصوم والحلفاء، والبدائل التي قد تنجم عن هذا الصراع الكبير.

النظام العالمي قبل ترامب: بدايات الانهيار

في كتابه الأخير، النظام العالمي (2014)، يقول الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر، إن الإطار الأساسي للنظام العالمي هو توازن القوى الذي استقرت عليه معاهدة وستفاليا، في نهاية حرب الثلاثين عامًا في عام 1648. وفي ظل هذا النموذج، لم يكن مسموحا لأي قوة بالهيمنة على نظرائها، وإذا حاولت دولة شق زيادة قوتها من خلال الأعمال المزعزعة للاستقرار، فإن القواعد غير المعلنة للنظام تمهّد على نحو فعال لتحالفات عملية لمواجهة التهديد الناشئ.

لكن العالم لم يشهد في تاريخه القريب هذا التوازن "الوستفالي" المثالي.

كانت السيطرة الأمريكية على العالم في عصر ما بعد الحرب الباردة ظاهرة لا تُشبه أي شيءٍ شهده العالم منذ الإمبراطورية الرومانية. 

وحتى بعد عام 1945، كانت فرنسا والمملكة المتحدة ما تزال لديهما إمبراطوريات رسمية قائمة في أصقاع مُمتدة من العالم، وبالتالي كان ما يزال لديهما نفوذٌ عميق، حسب تقرير لصحيفة Foreign Affairs.

ثم قدَّم الاتحاد السوفيتي نفسَه باعتباره قوى كبرى منافسة، وبدأ يُنازع واشنطن نفوذها في كل شبرٍ على سطح الأرض.

ظهر مصطلح النظام العالمي الجديد أثناء حرب الخليج الثانية، بينما تقصف الولايات المتحدة بغداد والبصرة، أعلن الرئيس جورج بوش عام 1990 عن “نظام عالمي جديد”، تتوحد فيه مختلف الأمم على مبدأ مشترك، يهدف إلى تحقيق طموح عالمي لمصلحة البشرية، عماده السلام وأركانه الحرية وسيادة القانون! 

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي كان الأمريكان يبشرون بنظام آخر تكون السيطرة في العالم لهم وحدهم، وبدأَ العمل على هذا “النظام”، وقد سقط الاتحاد السوفيتي بعد ظهور مصطلح “النظام العالمي الجديد” عام 1991.

وبينما كانت واشنطن تحتفل بسقوط امبراطورية السوفييت الشيوعية، ويكتب محللوها توقعات عن عالم أحادي القطب يولد من الانتصار على الشيوعية، كانت القرارات السياسية الخاطئة تتوالى، لتخصم من رصيد الحلم الأمريكي.

المثالان الأبرز للحسابات الخاطئة التي أضرّت بالهيمنة الأمريكية هما أفغانستان والعراق.

الهيمنة الأمريكية قبل ترامب: الخطأ في العراق وأفغانستان

في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول، اتَّخذت واشنطن قرارات ما يزال أثرها يُلاحقها حتى الآن، غير أنَّ كافة تلك القرارات اتُّخِذَت على عجلٍ وبدافعٍ من الخوف. إذ وجدت واشنطن نفسها في خطرٍ قاتل يدفعها إلى القيام بأي شيء مهما كان ثمنه، بما في ذلك غزو العراق، وإنفاق مبالغ لا تُعَدُّ ولا تُحصى على الأمن الداخلي، ووصولاً إلى استخدام التعذيب. 

ووقف العالم بأسره ينظر إلى دولةٍ تعيش حالة الإرهاب التي عاش فيها العديد منهم لسنوات، ومع ذلك تتعامل مع الموقف «كأسدٍ جريح يُمزِّق بمخالبه التحالفات والأعراف الدولية». وانسحبت إدارة جورج بوش الابن، في أول عامين لها، من عددٍ من الاتفاقيات الدولية يفوق عدد الاتفاقيات التي انسحبت منها أي إدارةٍ سابقة. 

تجدُر الإشارة هُنا إلى أنَّ إدارة ترامب تفوَّقت على هذا العدد بفارقٍ كبير. 

وحطَّم السلوك الأمريكي في الخارج السلطة الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة إبان فترة إدارة بوش، ليجد حلفاء الولايات المتحدة القدامى -مثل كندا وفرنسا- أنفسهم على خلاف معها حول جوهر وأخلاقيات وسلوك سياستها الخارجية.

وشكَّل العراق تحديداً نقطة التحول الأكبر. 

فقد دخلت الولايات المتحدة في حربٍ من اختيارها، رغم تعبير سائر دول العالم عن توجُّسها من هذه الحرب. وحاولت الحصول على الضوء الأخضر من الأمم المتحدة لتنفيذ مهمتها، قبل أن تستغني عن المنظمة بأكملها حين اكتشفت صعوبة ذلك. 

وأصرَّت إدارة بوش على أنَّ التحدي العميق الذي يُمثِّله احتلال العراق يُمكن التعامل معه بعددٍ صغير من القوات، وبكل بساطة. وشاع القول بأنَّ غزو العراق لن يكلف شيئاً. 

وبمجرد دخول القوات الأمريكية إلى بغداد قرَّرت واشنطن تدمير الدولة العراقية، وحلَّ الجيش، وتطهير المؤسسات الحكومية، مما خلَّف حالةً من الفوضى وساعد في تأجيج حالة التمرد. وكان من الممكن التغلُّب على أي خطأ من تلك الأخطاء في حال ارتكابه بشكلٍ منفرد؛ ولكنَّها ارتُكِبَت معاً بما يضمن تحوُّل العراق إلى حالة فشل مُكلِّفة، حسب تقرير Foreign Affairs.

وقد حدث.

ترامب والنظام العالمي: لن نسمح للعالم بأن يخدعنا

احتضرت الهيمنة الأمريكية في وقتٍ ما خلال العامين الماضيين، إذ كان عصر السيادة الأمريكية عصراً وجيزاً وعنيفاً استمرَّ لثلاثة عقود، وتميَّز بلحظتين اثنتين تُشير كلٌّ منهما إلى تعطُّلٍ من نوعٍ ما، إذ وُلد عصر «السيادة الأمريكية» إبان انهيار جدار برلين عام 1989. أما النهاية، أو بداية النهاية في الواقع، فكانت انهياراً آخر تمثَّل في انهيار العراق عام 2003، وما تكشَّف من أحداث منذ ذلك الحين. ترافق صعود ترامب مع نمو الشعور بـ"القومية" و"النعرة اليمينية" على الضفة الأوروبية، خصوصاً انفصال بريطانيا "البريكست" عام 2016، وهو الأمر الذي زعزع من استقرار الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُنظر له على أنه واحة الاستقرار الأقوى عالمياً.

من الواضح أن العالم مقبل على تفكّك المنظومة الدولية القائمة حالياً، سواء كان في 2019 أو خلال السنوات القليلة القادمة، لكنه لن يتبع بالضرورة "أحلام" ترامب في عالم وحيد القطب، تقوده الولايات المتحدة.ولكن، هل كان موت «المكانة المتفوقة» للولايات المتحدة -كما تسميها مجلة Foreign Affairs الأمريكية- نتيجةً لأسباب خارجية، أم أنَّ واشنطن ذهبت مسرعة إلى حتفها بسلوكها السيئ وعاداتها السيئة؟

كان صعود الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب ضربة قوية جديدة للنفوذ الأمريكي.

زادت إدارة ترامب طابع الخواء الذي سيطر على السياسة الخارجية الأمريكية. ويميل ترامب بطبيعته إلى أسلوب تفكير الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون، من حيث إنَّه لا يهتم بما يحدث في العالم إجمالاً، لكنَّه يعتقد أنَّ معظم الدول تحاول إلحاق الأذى بالولايات المتحدة. 

وترامب رجلٌ قومي.

يفضل الإجراءات الحمائية للمنتجات الأمريكية.

وشعبوي، يُصِرُّ على وضع "أمريكا أولاً".

لكن الوصف الذي ينطبق عليه أكثر من أيّ شيء آخر هو أنَّه «غادر الساحة الدولية بالكامل».

في ظل إدارة ترامب انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، ومن المشاركة مع آسيا عموماً. 

وانفصلت عن شراكتها الممتدة مع أوروبا منذ 70 عاماً. 

وتعاملت مع أمريكا اللاتينية في نطاقٍ يقتصر على منع دخول المهاجرين، أو كسب الأصوات بولاية فلوريدا، حيث أغلبية من أصول إسبانية.

ونجحت إدارة ترامب في مجافاة الكنديين، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم.

وفوَّضت أمر سياسات الشرق الأوسط إلى إسرائيل والسعودية. 

والأمر الأكثر وضوحاً في السياسة الخارجية لترامب هو «غيابها»، مع بعض الاستثناءات المُندفعة التي تتمثَّل في رغبته النرجسية في الفوز بجائزة نوبل، من خلال محاولة عقد معاهدة سلام مع كوريا الشمالية.

انسحب من الاتفاق النووي مع إيران.

ومن بيان مجموعة الـ7 وشنّ حرب تجارية شرسة ضد الحلفاء.

ووجّه انتقادات حادة للأمم المتحدة ثم لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. 

تغريدة البيت الأبيض عن خطاب الأمم المتحدة

كان ترامب منهجيًا على نحو ملحوظ في جهوده لتدمير النظام الدولي الليبرالي.

كان تمزيقه للعلاقات العابرة للأطلسي على مرأى ومسمع من الجميع في العامين المنصرمين، بداية من تنصله من البيان الختامي لقمة مجموعة السبع، وصولًا إلى حربه التجارية ضد حلفاء أمريكا، وتقويضه للناتو، وهجومه المتكرر على الاتحاد الأوروبي، وانبطاحه أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي. خلال 18 شهرًا، اقتلع جذور التضافر الغربي التي زرعها أسلافه بعناية على مدار سبعة عقود، بتعبير Foreign Policy  في تقريرها العنيف نهاية العام الماضي.

هذه بعض أبرز "الشروخ" التي لحقت بالنظام العالمي على يد ترامب.

ترامب وأوروبا: بدايات هادئة للطلاق الصاخب

كلما تواصلت ضغوط ترامب على الاتحاد  الأوروبي، يبدو أن ضفتي المحيط الأطلسي تتباعدان.

تصرفات ترامب جعلت حلفاء أمريكا يترنحون، وزعزعت إيمانهم في الغرب كمجتمع ذي قيم ومصالح ومؤسسات مشتركة. وردًا على هذا، يعملون مع الصين لحماية العولمة، ويوسعون استقلالهم الاستراتيجي في مواجهة واشنطن، ويجاهدون للدفاع عما تبقى من العالم المفتوح ضد أعمال السلب التي يرتكبها مؤسّسه السابق. 

لكن التداعيات في أوروبا كانت أكثر حدة. أدت إهانات ترامب إلى السأم من كون أوروبا "ممسحة أرجل" لأمريكا وحفزت السعي من أجل "الاستقلال الاستراتيجي". هناك دعوات متزايدة للاتحاد الأوروبي لكي يتولى مسئولية دفاعه الخاص ويطور القدرات خارج الناتو الخاضع لهيمنة قائد أعلى يتلقى الأوامر من البيت الأبيض، حسب مجلة Foreign Policy.

هذه المحاولة الأوروبية للاستقلال لا تزال في مهدها، لكن الإشارات واضحة

في شهر فبراير/ شباط الماضي، استضافت ألمانيا مؤتمر ميونيخ للأمن، وفي أروقة اللقاء تحدث المشاركون من أوروبا وأميركا بصراحة موجعة، عن ن مدى التصدع في العلاقة بين الكتلتين الغربيتين الأكبر وهما أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ تبادلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس الاتهامات بشأن السياسات الأمريكية في العالم والتي كما ترها ألمانيا تقوض السلام العالمي، فيما دافع ممثل ترامب بقوة عن سياسة زعيم البيت الأبيض. 

سيث جونز Seth Jones

سيث جونز Seth Jones

سيث جونز Seth Jones

سيث جونز Seth Jones، المستشار بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، قال لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية،  إنَّ المؤتمر عكس عالماً يتزايد فيه الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا. وقال جونز: «ثمة سؤالٌ أكبر في أوروبا حول ماهية دور الولايات المتحدة في العالم. صحيحٌ أنَّ هذه ليست سياسة انعزالية بالضرورة، لكنَّها بالتأكيد سياسةٌ تعمل بحدودٍ دولية أكبر بكثير من سياسات الإدارات السابقة. ومن يملأ هذا الفراغ؟».

الحرب التجارية: لصالح بوتين هذه المرة

في مايو/أيار 2018، أعلنت الولايات المتحدة عن فرض رسوم على الفولاذ والألمنيوم المستورد إليها بنسبة 25% و10% للمواد المستوردة من أوروبا وكندا والمكسيك وكوريا الجنوبية، باستثناء الأرجنتين.

هذا القرار أثار غضب رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، الذي قال إن قرار ترامب بفرض عقوبات جديدة لا يترك أمام الاتحاد الأوروبي خياراً آخر سوى فرض تدابير ردية، والتي ردت عليه بالمثل.

القصة لم تنتهِ عن هذا الحد، بل استمر الوضع حتى قمة الدول السبع الكبار في كندا في منتصف يونيو/حزيران 2018، إذ سحب ترامب بشكل مفاجئ تأييده لبيان مشترك صدر في نهاية القمة، بسبب نزاع حول التجارة، متهماً رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو الذى ترأس القمة بأنه غير نزيه وضعيف، الأمر نفسه انسحب على القادة الأوروبيين الذي وجدوا أن قرارات الرئيس الأمريكي التجارية تهدد اقتصاديات بلدانهم بشكل مباشر.

هذه الخلافات الحادة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، سواءً كانت تجارية أو أمنية، فإنها مثلت وللمرة الأولى تهديداً كبيراً أمام التحالف القوي بين القوى الغربية، الذي مرَّ عليه أكثر من 70 عاماً، في الوقت الذي ترى فيه الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي أن إدارة الرئيس ترامب تسعى بكل جهدها إلى تفكيك منظومة التحالفات الراسخة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، الأمر الذي يمنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفوذاً كبيراً في العالم بسبب هذه الانقسامات.

حلف النيتو: جيش أوروبي بديل

شهد حلف شمال الأطلسي "النيتو"، وهو أكبر تحالف عسكري في العالم، تصدّعاً بسبب سياسات ترامب، ومطالبه بتحمل الدول الأوروبية نفقات "حمايتها" من جانب الولايات المتحدة، وسداد 2% من موازناتها السنوية لبلاده.

يرى البعض أن ما يجري في منظومة الناتو بمنزلة تمهيد لنشوء نظام دولي جديد بعيداً عن هيمنة واشنطن، والقوى الكبرى بدأت تتنصّل من بعض التزاماتها من منظمات النظام الدولي الحالي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي وصف رئيسها، دونالد ترامب، "النيتو" بأنه منظمة "مهترئة".

وأضاف أن هناك تنافساً بين دول عدة لتزعّم هذا النظام بمواجهة هيمنة أمريكا حتى من جانب الدول الأوروبية نفسها، لكن هذا التحوّل الكبير بحاجة لسنوات؛ مخافة حدوث شرارات قد لا يتحمّل العالم نارها.

هناك دول داخل الناتو ليست متوافقة مع حسابات واشنطن اليوم وسياسة "أمريكا أولاً"، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، وما دعوة ماكرون لإنشاء جيش أوروبي إلا في هذا السياق، الأمر الذي يجعلنا نعيش في فاصلة تاريخية بين النظام الحالي والنظام الدولي القادم. 

ترامب وتركيا: دراما الحلفاء الأعداء

التوتر في العلاقات التركية الأمريكية يعود إلى عدة عقود وليس جديدا.

وتمثل التطورات الأخيرة تحولا جذريا لأن تركيا كانت تعتقد في السابق أن طريقها نحو القوة والازدهار يمر عبر حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. أما الآن فيبدو أن القيادة التركية ترى مصلحتها في مواجهة الولايات المتحدة وأوربا.

منذ الحرب الباردة، كانت تركيا تشعر بالغضب كونها الشريك الأصغر لواشنطن، لكنها تحملت هذا في مقابل حمايتها من الاتحاد السوفيتي.

نتيجة لذلك كانت المشاعر المناهضة للولايات المتحدة واسعة الانتشار في تركيا عندما وصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" إلى السلطة في نهاية عام 2002.

أدى فشل الربيع العربي في النهاية إلى تضخيم الاختلافات الاستراتيجية بين واشنطن وأنقرة، كما عززت هذه الخلافات شكوك أردوغان حيال الغرب.

خلال هذه الفترة واجهت حكومة أردوغان معارضة داخلية مكثفة، وانتقادات غربية، يبدو أنها تضافرت لخلق شعور عميق بالحصار لدى أردوغان.

وفي الحلقة الأخيرة من مسلسل التوتر التركي الأمريكي، وقّعت تركيا عقدا مع روسيا لشراء منظومات صواريخ إس-400 الدفاعية في أيلول/ سبتمبر 2017، ورغم التهديدات والضغوط التى مارستها واشنطن ضد أنقرة من أجل التخلي عن شراء منظومة الدفاع الروسية، وصلت الدفعة الأولى من مكوّنات الصواريخ إلى تركيا يوم 12 يوليو/تموز 2019، وعلى الفور أعلن البنتاغون استبعاد تركيا من برنامج تصنيع مقاتلات F-35، موضحا أن أنقرة لا تستطيع الحصول على المقاتلة الأمريكية إلى جانب المنظومة الروسية في آن واحد.

يبدو ترامب مترددا بشأن توقيع عقوبات على تركيا بسبب صفقة الصواريخ الروسية، لأن الرد العدواني المفرط سيؤكد اعتقاد تركيا بأن الولايات المتحدة معادية لها بشكل أساسي، في حين أن اتخاذ موقف ضعيف سيؤكد اعتقاد أنقرة أن رد فعلها العدائي كان ناجحا.

تركيا بدورها تواجه مشكلة أكبر، فقد تحقق التحركات الاستفزازية بعض السياسات على المدى القصير، لكنها ستعمق العداء في نهاية المطاف، كما يحدث الآن.

لدى الجانبين الأسباب اللازمة لإيجاد فرصة للتقارب، كما أن لديهما الأسباب اللازمة للخوف من أن تصبح العلاقات أكثر حدة وعدوانية.

الحرب العالمية الثالثة كانت مؤجلة

تحت عنوان "أسطورة العالم الليبرالي"، انتقد الكاتب غراهام آليسون Graham Allison في مجلة Foreign Affairs أولئك الذين يشيعون أن النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية أسهم في تعزيز الاستقرار العالمي فيعترضون على مساعي ترامب لتقويضه.

غراهام آليسون Graham Allison

غراهام آليسون Graham Allison

يقول آليسون إن ما أسهم في إرساء "السلام الطويل" في العالم ليس النظام الليبرالي بل التنافس من أجل الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ثم توازن القوى بين هذين العملاقين النوويين وصولاً إلى الهيمنة الأمريكية في العقود الأخيرة، هذا ما حال دون حرب عالمية أخرى.

بالنسبة إلى آليسون، قد يكون تجاهل ترامب للقيم الليبرالية مثيراً للقلق، ولكن بدلاً من أن يحلم بعصر من الهيمنة الليبرالية لا مثيل لها، ينبغي على إدارته أن تركز على إعادة بناء ديمقراطية قوية في الداخل.

ترامب والصين: الإصرار على المباراة الخاسرة

دخلت الصين في نظام بقيادة الغرب على الرغم من أنها لم تشارك في كتابة قواعد النظام. في الوقت المناسب، تتوقع الصين مراجعة قواعد النظام المعاصر لتناسب احتياجاتها بشكل أفضل. بغض النظر عما إذا كان ترامب موجودًا في البيت الأبيض أم لا يزال شي جين بينغ رئيسًا مدى الحياة، فإن توجه الصين العالمي لحماية اقتصادها يسير في طريق تصادم مع ضرورة أمريكية للحفاظ على الهيمنة العالمية. 

وما لم تتمكن الولايات المتحدة من إيجاد طريقة للتعايش والتوازن ضد الصين الصاعدة، فإن هذا القرن يمكن أن يشهد مأساة جديدة، ربما تكون الأكثر شدة، في سياسات القوى العظمى، حسب ما يرى الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر.

وتصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في الآونة الأخير، مع إعلان البلدين كليهما عن فرض رسوم جمركية جديدة على بضائع الآخر. ورغم أن الصين لا تزال أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، فإن صادراتها إلى الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 9 في المئة في الربع الأول من 2019، مما يدل على أن آثار الحرب التجارية بدأت تظهر.

لكن ترامب يلعب مباراة خاسرة.

تفيد دراستان أكاديميتان في شهر مارس/آذار الماضي إلى أن الشركات الأمريكية والمستهلكين دفعوا تقريبا التكلفة الكاملة للرسوم الجمركية التي فرضتها أمريكا على الواردات من الصين، ومن غيرها من دول العالم في العام الماضي. ويقول اقتصاديون من البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، ومن جامعتي برينستون وكولومبيا، إن الرسوم التي فرضت على شريحة كبيرة من الواردات، بدءا من الصلب، وحتى الغسالات، كلفت الشركات الأمريكية والمستهلكين 3 مليارات دولار في الشهر في صورة تكاليف ضريبية إضافية، بالإضافة إلى مليار و400 مليون دولار خسائر بسبب انخفاض الطلب.

ما يكسبه ترامب من هذه الحرب على الصين هو مغازلة أصوات الناخبين، وجلب انتباه وسائل الإعلام.

ترامب وروسيا: تفترق الطرق عند مضيق هرمز 

تبقى علاقة ترامب مع روسيا بوتين ملتبسة.

ليس غريبا أن يدافع ترامب عن علاقته بموسكو، ويتحدث في تغريداته عن "إمكانية عمل الدولتين معاً لحل الكثير من المشاكل حول العالم".

وليس غريبا أن يرد بوتين التحية بأحسن منها، فيقول إنه يرغب في "تطبيع كامل" للعلاقات الروسية الامريكية.

كلاهما يعزف على الحنين إلى الماضي الذي يصنعه في خياله.

الاثنان يدعمان العودة إلى عصر سيادة الدولة غير المحدودة. ويودان لو أنهما دمرا جميع المنظمات الدولية وعادا بالعالم إلى سياسة "القوة العظمى"، التي تتغير فيها التحالفات، فقد قال ترامب إن حلفاء أمريكا قد يصبحون خصوما في بعض القضايا، و"أصدقاء" في قضايا أخرى.

هكذا وصفت صحيفة فايننشال تايمز ترامب وبوتين، بعد اتساع رقعة المصالح المشتركة بينهما، رغم التناقضات التاريخية بين البلدين.

تضيف الصحيفة أن الرئيس الروسي قد تكون لديه ملفات عن ترامب، مثلما يرجح مدير سي آي اي السابق، جون برينان، ولكن معارضة النظام العالمي الحالي لا تحتاج إلى رواية عن التجسس. فقد دأب اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري منذ عقود على تضخيم مخاطر الأمم المتحدة، وما يقوله ترامب ليس إلا من هذه الأفكار.

فقد كشف استطلاع للرأي أجري عام في 2017 أن أكثر من نصف الجمهوريين يرون أنه ينبغي على الولايات المتحدة وروسيا العمل معا. وهم لا يمثلون إلا 20 في المئة من السكان، ولكنهم يرفعون شعار "أمريكا أولا".

لكن هذا لا يخفي تضارب المصالح والتوجهات في ملفات كثيرة، أخطرها الموقف من إيران.

الآن يتحدث الإعلام الروسي عن مفترق طرق وشيك بين الرجلين، عندما تتحول الأزمة الإيرانية إلى حرب، وتقف روسيا والصين في خندق واحد بجانب طهران. "يمكن للتصعيد الحالي أن يؤثر بشكل كبير على العلاقات بين الرئيسين. يُظهر ترامب وبوتين ميلهما إلى بعضهما البعض، لكن فيما يتعلق بمسألة العقوبات ضد إيران، فإن مواقفهما على طرفي نقيض. بل هما موقفان شخصيان وعاطفيان".

ويبدو أن نصائح هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، لدونالد ترامب، بعد انتخابه بأسبوعين، كانت متوقعة لدى الروس، الذين من الواضح أنهم تدخلوا بطريقة أو بأخرى لينتخب الشعب الأمريكي ترامب. إذ أوصى كسنجر ترامب بإعطاء روسيا ما بعد الإمبراطورية السوفيتية الاعتراف الذي يحتاجه فلاديمير بوتين على أساس أنه قوة عظمى وند لأمريكا، وليس متسولًا في نظام من تصميم أمريكا! 

وهذا واضح مما يفعله بوتين في الشرق الأوسط منذ اقتراب نهاية ولاية باراك أوباما وإلى اليوم في عهد ترامب!

يعيش ترامب.. تسقط العولمة

يدافع الباحث توفيق الياسين عن سياسات ترامب، ويرى أن الهجمة الشرسة التي تشنها الدولة العميقة في أمريكا، وهي الأوليجارشية، أي أقلية تتميز بالمال والسلطة، سببها محاولة ترامب الانكفاء على المصالح الأمريكية البحتة، وتحقيق أماني الشعب الأمريكي بعيدًا عن طموحات النخبة الثرية المتسلطة! يضيف: منذ انتخابه وحتى أثناء حملته الانتخابية، أطلق ترامب تصريحات مرعبة للنخب الأمريكية، التي ما فتئت تخطط منذ عقود عديدة لإقامة حكومة عالمية واحدة، والسيطرة على موارد الشعوب واقتسامها، بل أكثر من ذلك تحديد عدد سكان هذا الكوكب وتقسيمهم إلى سادة وعبيد! ولكن يبدو أن الرياح تجري إلى الآن، وربما تستمر، بما لا تشتهي السفن!

توفيق ياسين

توفيق ياسين

يضيف: منذ انتخابه وحتى أثناء حملته الانتخابية، أطلق ترامب تصريحات مرعبة للنخب الأمريكية، التي ما فتئت تخطط منذ عقود عديدة لإقامة حكومة عالمية واحدة، والسيطرة على موارد الشعوب واقتسامها، بل أكثر من ذلك تحديد عدد سكان هذا الكوكب وتقسيمهم إلى سادة وعبيد! ولكن يبدو أن الرياح تجري إلى الآن، وربما تستمر، بما لا تشتهي السفن!

ترامب والعرب: الهيمنة مستمرة على "الحلفاء"

يتوقع الباحث الفلسطيني خليل الصوراني استمرار الأنظمة العربية في الخضوع تماما للسياسات الأمريكية، للحفاظ على مصالحها وأنظمتها، وبالتالي فإن تعميق تلك التبعية في ظل سياسة الرئيس ترامب، أمراً طبيعياً دون أي اعتبار لأثار تلك السياسات ومخاطرها، وبالتالي نحن أمام مرحلة جديدة ستؤدي إلى مزيد من السيطرة الامريكية على مقدرات ومستقبل شعوبنا العربية.

يسعى ترامب في علاقاته مع الدول العربية على تحقيق 3 أهداف:

1. استمرار الهيمنة على الخليج والسعودية كمنطقة نفوذ أمريكية بصورة شاملة وكلية.

2. خلق عوامل التفجر والتفتت الداخلي الديني والطائفي وغير ذلك، مع استمرار تكريس تبعية مصر ودول المغرب العربي للسياسة الأمريكية.

3. الوقوف في وجه أي تحالف أو تكتل عربي اقتصادي أو سياسي بالتنسيق مع الصندوق والبنك الدوليين.

ترامب وإيران: من الاتفاق النووي إلى صراع الناقلات

ترامب، المرشح الرئاسي، وعد بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض العقوبات عليها.

وترامب، الرئيس، نفّذ ما وعد به.

تلوح إمكانية الصراع المسلح بين البلدين بالأفق منذ الثورة الإسلامية والاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران قبل أربعة عقود. وتصاعدت تلك التوتُّرات في بعض الأحيان وتحولت إلى عنف. لكنَّ التوتُّرات تصاعدت بوتيرة أسرع بعد وصول ترامب للحكم. أعلن الرئيس انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي العام الماضي (2018)، وفرض عقوباتٍ ثقيلة، وتحرَّك لوقف صادرات النفط الإيرانية، وصنَّف الحرس الثوري الإيراني تنظيماً إرهابياً.

وردت طهران في مايو/ أيار الماضي بالإعلان عن نيتها خفض التزاماتها المتعلقة بالاتفاق النووي كرد فعل على العقوبات التي استهدفت بالدرجة الأولى صادرات إيران من النفط. ونفذت طهران لاحقا تهديداتها برفع مستوى تخصيب اليورانيوم فوق 3.67%، رغم تحذيرات الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق.

ثم تحولت الأزمة إلى فيلم إثارة وتشويق، مع مناوشات الطرفين على صعيد ناقلات النفط وطائرات الاستطلاع.

بؤرةَ التوتُّر الأخطر مضيقُ هرمز، الممر المائي الضيق الذي يربط الخليج ببقية العالم. وهو قناة مائية يمر بها نحو 40% من حركة ناقلات النفط بالعالم، وكان في خلفية التهديد والوعيد العسكري بصورة متكررة.

هناك ملفات أخرى تقلق واشنطن، التي تنتقد السلوك الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الذي يهدد مصالحها أو مصالح حلفاء في إسرائيل والخليج.

وقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يوم الخميس 18 يوليو/تموز، في مقرّ الأمم المتّحدة بينيويورك: نحن نعيش في بيئة خطيرة للغاية، وقد دفعت الولايات المتّحدة نفسها وبقيّة العالم إلى حافة الهاوية. 

مسلسل التوترات يتواصل، وفي الحلقة الأخيرة قال الرئيس حسن روحاني إن طهران مستعدة للتفاوض مع واشنطن في حال رفعت الأخيرة العقوبات والتزمت مجددا بالاتفاق النووي، وردت واشنطن بأن التفاوض ممكن بدون شروط مسبقة.

السحب التي تتجمع في سماء الخليج الملبدة تنذر بكل الاحتمالات، وأحدها مواجهة عسكرية عابرة للقارات، تعيد صياغة نظام عالمي جديد بالحديد والنار والدماء البريئة.

لا أؤيد ترامب.. ولن أفعل

من حوار أجراه الصحفي الأمريكي Jeffrey Goldberg حواراً مطولاً مع وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنري كيسنجر Henry Kissinger، نهاية عام 2016، لموقع The Atlantic.

هنري كيسنجر Henry Kissinger

هنري كيسنجر Henry Kissinger

غولدبيرغ: هل تدعم هيلاري كلينتون أم دونالد ترامب؟
كيسنجر: لن تنشر ذلك؟ غولدبيرغ: بالطبع سأنشره! أنا صحفي، وعلى الرغم من أني سأتعرض إلى العديد من الضغوط، إلا أنني سأنشره.
كيسنجر: أنا لا أؤيد وصول ترامب إلى سدة الحكم، ولن أفعل ذلك.
غولدبيرغ: اسمح لي أن أعيد طرح السؤال، هل تعتقد أن ترامب سيتعلم أبجديات السلطة؟
كيسنجر: كل رئيس أمريكي في فترة ولايته الأولى سيتعلم شيئا جديدا بعد أن يأتي إلى السلطة. لا أحد يمكن أن يكون جاهزا تماما للأزمات التي ستعقب وصوله. لكن إذا انتخب ترامب، فإن إدارة الأمن القومي الأمريكي، هي من ستتمنى أن يتعلم ترامب أبجديات سياسة السلطة الناضجة.
غولدبيرغ: هل يمكننا تحمل تداعيات الانسحاب من الشرق الأوسط؟
كيسنجر: نحن لا نستطيع الانسحاب من الشرق الأوسط. نحن نحتاج إلى وضع إستراتيجية واضحة حول طبيعتنا تدخلاتنا في هذه المنطقة، وليس إلى الانسحاب.

لكن العالم يتصدى لترامب

تحالف صيني مع أوروبا وروسيا

يقاوم الاتحاد الأوروبي حتى الآن طلبات الانضمام الصينية للدخول في تحالف تجاري كامل ضد الولايات المتحدة.

وكتب الباحث باتريك ستيوارت في Foreign Policy  أن "هذا الاحتمال أصبح أكثر احتمالاً... ليكون مثل هذا التحالف بمثابة تقليد شاحب لصفقات التجارة رفيعة المستوى التي تم الاتفاق عليها واتبعتها إدارة أوباما في مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادي وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي".

هناك أيضا بوادر تفاهمات بين الصين وروسيا في ملفات قديمة، مثل سوريا والعراق، وأخرى جديدة مثل إيران. وربما تجد موسكو وبكين مصالحهما في تكوين جبهة سياسية واقتصادية، وربما عسكرية، في مواجهة مفاجآت ترامب التي لا تنتهي.

وألمانيا تقود تحالفا دوليا ضد "انعزالية" ترامب

انتهت  حكومة المستشارة أنجيلا ميركل مؤخرا من صياغة إستراتيجية لتشكيل تحالف دولي جديد يهدف للتصدي عالميا للتوجهات القومية الانعزالية للرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وقالت أسبوعية دير شبيغل الألمانية إن هذا التحالف سيركز على التعاون الوثيق بين أعضائه في السياسة الخارجية والتجارة الحرة والبيئة.

ونقلت المجلة عن وزير الخارجية هايكو ماس قوله "نحن بحاجة لتحالف دولي متعدد الأقطاب لدعم القواعد والهياكل القائمة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي يرفضها ترامب".

ووفق رؤية ماس، تتبنى برلين من خلال إستراتجيتها الجديدة تشكيل شبكة من الدول ذات التوجهات الليبرالية المؤيدة للتعقل، والالتزام بقواعد اللعب المتعارف عليها في المشهد السياسي العالمي، ورفض العزلة والأنانية القومية.

وبالإضافة إلى ألمانيا، يضم التحالف الجديد الذي سيتم الانتهاء من صياغة تفاصيله نهاية العام الجاري اليابان وكوريا الجنوبية -اللتين أبرم معهما الاتحاد الأوروبي اتفاقية موسعة للتجارة الحرة- وجنوب أفريقيا وأستراليا والأرجنتين كما يضم جارتي الولايات المتحدة المكسيك وكندا.

وأشارت دير شبيغل إلى أنه جرى تعديل وتنقيح هذه الإستراتيجية مع كل تغريدة لترامب حول السياسة الخارجية لإدارته خاصة ما يتعلق بألمانيا وأوروبا.

وبدا لألمانيا حاجتها الواضحة للإستراتيجية الجديدة بعد تهديد الرئيس الأميركي خلال القمة الأخيرة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بالانسحاب من هذا التحالف الدفاعي الغربي ثم وصفه للاتحاد الأوروبي بالعدو.

وأدى هذا التطور وفقا للمجلة إلى "فقد برلين وباريس وبروكسل أي أمل بجدوى التعاون مع ترامب واعتبار حكومة ميركل بإستراتجيتها الجديدة أن الولايات المتحدة تحولت مع رئيسها الجديد من عمود النظام العالمي القائم إلى مدمر لهذا النظام".

الإعلان عن التحالف الدولي الجديد سيكون خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، الذي يناقش مشروع لإصلاح مجلس الأمن الدولي، على أن تكون الانطلاقة الفعلية لهذا التحالف باستلام برلين في أبريل/نيسان القادم مقعدها غير الدائم الذي انتخبت له لمدة عامين بمجلس الأمن.

تدمير الصداقات والاحترام

هجوم ترامب على العالم الليبرالي لا يتعلّق بالثمن الذي ستدفعه أمريكا فحسب، بل هو يدمر الصداقات والاحترام الذي يربط الأخيرة بحلفائها.

الباحثة كوري شايك

الباحثة كوري شايك

وإن نجح في مسعاه ستصبح أمريكا مثل روسيا والصين، ولن يكون للأعداء والأصدقاء أي دافع لدعم أمريكا في جهودها، وذلك لأنها قلّلت من شأن المؤسسات والقواعد العالمية، وتعاطت مع مُخرجات النظام التي تضمن مصالحها كما لو كانت تحصيل حاصل.

الباحثة كوري شايك New York Times

فهل تستطيع أوروبا إنقاذ النظام العالمي؟

تجيب Foreign Policy على السؤال سلبا.

فهناك ضعف الاتحاد بالأزمات المتتالية التي حدثت بسبب الهجرة الجماعية، والإرهاب، ومنطقة اليورو، والبريكست، والقوميون الشعبويون في حالة صعود في إيطاليا وأوروبا الشرقية. 

يفتقر الاتحاد الأوروبي للوحدة، والديناميكية، والحسم المرتبطين بالولايات المتحدة، لكونه محاصرًا بين اتحاد جمركي واتحاد سياسي – والذي يعتمد بشدة على محور فرنسي- ألماني. ومن دون وجود الولايات المتحدة إلى جانبه – في مجلس حقوق الإنسان، من ضمن أماكن أخرى – سيجد الاتحاد الأوروبي صعوبة في الحفاظ على وحدة الموقف ضد الهجمات الاستبدادية من روسيا، والصين، وغيرهم من أعداء الحرية السياسية والنظام الليبرالي.

من أجل قيادة العالم، سيحتاج الاتحاد الأوروبي لمضاعفة جهود الإصلاح الداخلي، والحفاظ على وحدة الموقف ضد القوات الشعبوية والقومية، وإعادة التأكيد على التزامه بالتجارة الحرة، وتوسيع قدراته العسكرية المستقلة، وزيادة مساهماته في المنافع العامة العالمية (خاصة فيما يتعلق بتغير المناخ)، واستجماع شجاعته ليصبح نصيرًا دائمًا لحقوق الإنسان. إنها مهمة صعبة.

مع هذا، يبقى الاتحاد الأوروبي أفضل أمل لأنصار النزعة الدولية الليبرالية، حيث ينتظرون رؤية ما إذا كانت ثورة ترامب ستثبت أنها تصحيحٌ دائمٌ للمسار في الدور العالمي لأمريكا، أم أنها مجرد منعطف وطني مؤقت على يد قائد ضعيف فريد من نوعه.

لكن تقول المقولة الشهيرة: "كما تزرع تحصد." يشير دونالد ترامب إلى أن العكس ربما يكون صحيحًا أيضًا. لقد زرع حاصد أرواح النظام الدولي الليبرالي الخصومة التي ستبقى لما بعد رحيله.

الكرة إذن في ملعب "إمبراطورية الأفكار الأمريكية"

يقول الكاتب الأمريكي فريد زكريا إن قاعدة توسيع الهيمنة الليبرالية تبدو بسيطة: كُن أكثر ليبرالية، وأقلَّ هيمنة. 

غير أنَّ واشنطن ترامب تسعى وبشكل واضح لتحقيق مصالحها الضيقة، وهو ما باعد بين واشنطن وحلفائها، وزاد جرأة أعدائها. 

أميركا لا تزال الدولة الأقوى في العالم، وربما ستظل مُحتفظةً بنفوذٍ أكبر من أي دولةٍ أخرى، ولكنَّها لن تُحدِّد شكل النظام العالمي أو تُهيمن عليه كما كانت تفعل ما يقرب من ثلاثة عقود.

ولن يبقى من تلك الحقبة سوى الأفكار الأمريكية، إذ كانت الولايات المتحدة دولةً ذات هيمنةٍ فريدةٍ من نوعها، حيث وسَّعت نفوذها لإنشاء النظام العالمي الجديد الذي كان يحلم به الرئيس وودرو ويلسون، وبدأ تحقيقه على يد الرئيس فرانكلين روزفلت. وهو عالَمٌ خُلِقَ نصفه بعد عام 1945، ويُطلقُ عليه أحياناً «النظام العالمي الليبرالي»، وانشقَّ عنه الاتحاد السوفييتي ليبني عالمه الخاص. 

غير أنَّ «العالَم الحُرَّ» صمد أمام الحرب الباردة، وتوسَّع بعد عام 1991 ليشمل معظم أرجاء العالم. وأسفرت أفكاره الخاصة عن «استقرارٍ ورخاء» دام على مدار ثلاثة أرباع قرن. 

والسؤال الآن هو: هل سينجو النظام العالمي الذي رعته الولايات المتحدة رغم أفول نجم النفوذ الأمريكي؟ 

أم أنَّ الولايات المتحدة ستشهد هي الأخرى تراجعا في إمبراطورية الأفكار الخاصة بها؟