زلزال
وحّد الجميع

هكذا وضعت الإنسانية العداوات السياسية جانباً

بين ركام أحد الأحياء المتهدّمة في مدينة كهرمان مرعش، مركز الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا، وقف أحد الأطبّاء المُسعفين (ألماني - سوري) متأثراً وهو يقول لنا: "على العالم أن يتوحد أمام هذه الكارثة، هذه ليست حرباً، بل أبشع".

ما أدركه الطبيب من هول ما شاهده من مآسٍ تحت الأنقاض، كان رجال السياسة قد أدركوه بالفعل. لكن ليس الجميع، مع الأسف. فبينما كان عشرات الآلاف من رجال الإنقاذ يعملون في الجنوب التركي.

على الجانب الآخر  كان هناك السوريون الذين حظوا بتعاطف دولى وإقليمي، لكن حالت العديد من المعوقات دون وصول المساعدات إليهم، فلم تصل مساعدات إلى سوريا إلا في اليوم الرابع من وقوع الزلزال، رغم المناشدات العديدة. ورغم تأخُّر المساعدات الأممية والدولية إلى سوريا، إلا أنّ المساعدات العربية كانت هي الأبرز، والأسرع. فلأوّل مرّة منذ أكثر من 10 سنوات تحطّ طائرة سعودية في حلب، جاءت بالمساعدات.

أمّا على الجانب الآخر، في 11 فبراير/شباط 2023، ولأوّل مرّة منذ 35 عاماً فُتح معبر "أليجان" بين تركيا وأرمينيا، رغم أن كامل الحدود بين البلدين مغلقةٌ بالكامل منذ 3 عقود. ورغم أنّ العلاقات بين تركيا واليونان متوترة بشكلٍ عام إلا أن وزير الخارجية اليوناني كان أول دبلوماسيٍّ أوروبيّ يزور تركيا زيارةً تضامنيّة، هذا بالإضافة إلى العديد من المساعدات الإنسانية التي قدّمتها اليونان.

قد يبدو الأمر غريباً، دول لديها مشكلات عميقة ووجودية مع تركيا، وتهبُّ للمساعدة. لكنّك ستجده طبيعياً جداً عندما تعرف مدى قوّة الزلزال التدميرية.

زلزال بقوّة 500 قنبلة ذريَّة!

لم يكن الزلزال متوقعاً بهذه الضراوة والعنف، كانت كلّ التخمينات والتحذيرات، وكذلك التجهيزات التركية عن زلزالٍ مُدَمِّر سيضرب إسطنبول، لكنّ الجميع استيقظ فجراً على زلزالٍ في الجنوب. ضرب هذا الزلزال مناطِقَ متراميةَ الأطراف، تقع على مساحة تقارب 500 كلم.

أعلنت تركيا 11 ولاية من ولاياتها "منكوبة"..

وتسبَّب في صدعٍ في الأرض
بطول 400 كلم وعرض 200 متر وعمق 50 متر.

جاءت المعلومات الأولية عن الزلزال مخيفةً للغاية، فالزلزال وقع على بُعد 7 كم فقط من سطح الأرض. قربه هذا من سطح الأرض جعل قوّته التدميرية هائلة. وعلى سبيل المثال، عند مقارنته بكُبرى زلازل العالم نجد أنّ زلزال سومطرة 2004 وقع على عمق 30 كم من سطح الأرض، وكذلك زلزال اليابان 2011، بينما وقع زلزال تشيلي المدمر 1960 على عمق 33 كم من سطح الأرض.

كما أن كمية الطاقة المنبعثة من الزلزال تكفي لتوليد 8.88 مليون ميغاواط بشكل مستمر لمدة ساعة كاملة. وتعادل هذه الطاقة ما يقرب من 8 ملايين طن من مادة TNT المتفجرة. ووفقاً لموقع Insider الأمريكي، فإن هذه الطاقة كافية لإمداد مدينة نيويورك الأمريكية بالكهرباء لمدة 4 أيام كاملة.

ليس هذا وفقط، فقد صرّح مسؤول إدارة الكوارث والطوارئ التركية "AFAD" أن الطاقة المنبعثة من الزلزال تعادل 500 قنبلة ذرية!

فبينما كانت الطاقة المنبعثة من القنبلة النووية التي ضُربت في اليابان في هيروشيما تساوي 15 تريليون جول، وصلت الطاقة المنبعثة من زلزال هاييتي 2010 إلى 2.1 كوادرليون (مليون مليار) جول، فقد وصلت الطاقة المنبعثة من زلزال تركيا إلى 30 كوادرليون جول. ولهذا صرّح الرئيس التركي أن قوة الزلزال توازي 500 قنبلة ذرية.

ولذلك كانت التصريحات الرسمية التركية تؤكد التالي: هذا الزلزال هو أكبر كارثة شهدتها تركيا منذ 80 عاماً. وهو أيضاً أعنف زلزال يضرب منطقة الأناضول منذ 2000 عام، وأعنف زلزال يضرب أوروبا في القرن الحالي.

مساعدات وحّدت الجميع

في المناطق المنكوبة، جنسيات متعدّدة ساهمت في الإنقاذ، ما بين الفرق الرسمية التي أرسلتها الحكومات، ومتطوّعين أفراد أو جمعياتٍ أهليّة. لا يقتصر عمل المتطوّعين بالطبع على المساعدات، فهناك أطباء متطوعون يساهمون في التعامل مع الناجين من تحت الأنقاض، وهناك مترجمون مهمّتهم الترجمة بين الأطباء (من جنسياتٍ مختلفة) وبين الناجين.

في كهرمان مرعش، بؤرة الزلزال، قابلنا مجموعات متطوّعين من جنسياتٍ مختلفة. كانت فرقة الإنقاذ الصينية تعمل في أحد المجمعات السكنية المُتهدّمة بالكامل. بجانب الفريق الذي أرسلته الصين كان عدد كبير من المتطوعين من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا.

الطبيبة سما آكين، ألمانية ذات أصولٍ تركيّة، جاءت تطوعاً إلى منطقة الزلزال لتساعد في عمليات الإنقاذ، وكذلك جاء "إندر"، وهو شاب بلجيكي من أصولٍ تركيّة. تطوّع إندر للمساعدة في الترجمة باللغة الإنجليزية مع المنقذين وبالتركية مع الناجين. جمعهم القدر مع "عمّار غوزي" وهو طبيب ألماني من أصل سوري، هاجرت أسرته لألمانيا وهو رضيع، وصل إلى تركيا في اليوم الثالث للزلزال ليساهم في عمليات الإنقاذ. 

جاء ثلاثتهم أفراداً متطوّعين والتقوا هنا في تركيا.

أمّا المهندس"عبد القادر"، وهو بلجيكي مسلم يملك شركة إنشاءات في بلجيكا فقد قرّر إعطاء عدد من موظفيه إجازةً للتطوع في عمليات الإنقاذ في منطقة الزلزال. لا يتحدّث عبد القادر التركية أو العربية، بفرنسيةٍ واضحة قال لنا: "أنا مسلم.. وحيثما وجدت مساعدة أستطيع تقديمها للمسلمين سأكون موجوداً".

"عندما سمعنا عن الكارثة في بلدنا تركيا جئنا بسرعة"، هكذا بدأ المهندس "رمضان" حديثه معنا بعدما عرّفنا بنفسه باعتباره مواطناً بلجيكياً. لفتنا أنه استخدم مصطلح "بلدنا" عند الحديث عن تركيا، وعندما سألناه قال: "أسرتي تعيش في بلجيكا منذ 55 عاماً ، لكنّ قلوبنا دوماً في تركيا.. أنا مواطن تركي أولًا ثمّ بلجيكي ثانياً".

إجمالاً قدّمت قرابة 100 دولة مساعدات إلى تركيا. ووفق بيانات وزارة الخارجية التركية فقد أنشأت 28 دولة 30 مستشفى ميدانياً في مناطق الزلزال، كما وصل إلى تركيا أكثر من 130 ألف خيمة وأكثر من ألف وحدة سكنية، و312 طناً من الألبسة و3 آلاف طن ونصف طن مواد تعقيم و5 آلاف طن مواد غذائية.

وهكذا، تلاحقت المساعدات على تركيا من أطراف العالم، من بيرو وصلت قرابة 10 أطنان مواد معيشية، وأرسلت اليابان 27 مليون دولار مساعدات طارئة للزلزال، كما وصل إجمالي المساعدات الأمريكية لتركيا وسوريا 185 مليون دولار.

العداءات السياسيّة تتأخّر قليلاً

في اليوم العاشر للزلزال، جمعت مباراة بين نادي طرابزون التركي ونادي بازل السويسري، قبيل المباراة أبرز الجمهور مجموعة من اللقطات المؤثرة التي التقطت خلال عمليات الإنقاذ. بشكلٍ واضح أبرزت صورة لعامل إنقاذ يوناني محتضناً طفلًا تركياً خارجاً من تحت الأنقاض، وهي الصورة نفسها التي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي في تركيا لأيّام.

ورغم بعض الانتقادات للموقف الأوروبي والأمريكي من الزلزال، إلا أنه يمكننا تتبُّع عدد من الدول الأوروبيّة التي لم تتوانَ أيضاً عن إرسال المساعدات سريعاً، وإبداء التضامن.

أرسلت المجر على سبيل المثال فريق بحث وإنقاذ وبعض المساعدات، كما دعم الناتو وجود جسرٍ جويّ إلى تركيا لتقديم المساعدات، كما أرسلت ألبانيا 7 شاحنات مساعدات، وكذلك أرسلت فرنسا فرق إنقاذ وبعض المساعدات، كما أرسلت 12 دولة من حلف الناتو 279 طناً من الإمدادات العاجلة إلى تركيا.

أما ألمانيا وحدها فقد كان لها نصيب الأسد من المساعدات، فقد أرسلت القوات المسلحة أكثر من 340 طن مواد إغاثية، بالإضافة إلى 400 طن من المساعدات التي شاركت فيها منظمات المجتمع المدني.

لكنّ أبرز ملامح تأخُّر العداءات أمام كارثة إنسانيّة هو إرسال اليونان وأرمينيا المساعدات إلى تركيا. فقد كان وزير خارجية اليونان هو أوّل دبلوماسي أوروبي يصل إلى تركيا في زيارة تضامنيّة، متفقداً مناطق الزلزال مع وزير الخارجية التركي، وباعثاً برسالة تضامن، فاليونان وتركيا يقعان في نفس النطاق الجغرافي، وبعد زلزال عام 1999 الذي ضرب تركيا بشهرٍ واحد ضرب زلزال اليونان، وقد ساعدت الدولتان بعضهما بعضاً إنسانياً في هذه المِحنة. كما تلقّى الرئيس التركي مكالمة تضامن وتعزية من رئيس الوزراء اليونانيّ، بالإضافة إلى إرسال اليونان فرق إنقاذ وأطناناً من المساعدات.

بينما فُتح معبر "أليجان" بين تركيا وأرمينيا أيضاً، وهو المعبر الذي فُتح آخر مرة منذ 35 عاماً، عندما ضرب زلزال أرمينيا وأرسلت تركيا مساعدات عام 1988. والحدود بين أرمينيا وتركيا مغلقة بالكامل منذ عام 1993 بسبب الحرب في إقليم ناغورنو قره باغ الأذربيجاني.

والعالم العربي في عمق الأزمة

منذ اليوم الثاني للزلزال كانت بعض فرق الإغاثة العربية قد وصلت إلى إسطنبول ثمّ خاضت رحلةً بريةً صعبة (حوالي 16 ساعة) وصولاً إلى الجنوب التركي وشمال غرب سوريا، حيث ضرب الزلزال. هذا ما أخبرنا به أحد الأطقم الطبية الليبية.

وما إن اتّضح حجم الكارثة شيئاً فشيئاً، حتّى توافدت المساعدات العربية الرسمية والشعبية على البلدين. وقد كان أمير قطر أوّل الزعماء الواصلين إلى تركيا في زيارةٍ تضامنيّة مع تركيا. وبالمجمل فقد قدّمت 18 دولة عربية مساعدات إلى تركيا وسوريا بأشكالٍ مختلفة: جسورٌ جويّة، مساعدات إنسانية وإغاثيّة، وحدات سكنيّة متنقّلة، متطوّعون، وحملاتُ تبرّع شعبيّة.

فقد بدأت حملة تبرعات شعبية في السعودية، وصل عدد المشاركين فيها 1.6 مليون شخص، وكانت حصيلتهم أكثر من 100 مليون دولار مساعدات. هذا بالإضافة إلى 11 طائرة إغاثة و12 طائرة مساعدات و3 آلاف وحدة سكنية للمتضررين ومئات الأطنان من السلال الغذائية والمواد الإيوائية والطبية، التي أرسلتها السعوديّة.

أمّا قطر فقد أرسلت 600 طن من المساعدات بالإضافة إلى 10 آلاف منزل متنقّل للمتضررين من الزلزال،

هذا غير 70 مليون دولار مساعدات مالية، كما أرسلت الجزائر 30 مليون دولار وقرابة 100 طن مساعدات، وأرسلت مصر 144 طناً من المساعدات، كما أرسلت الإمارات أكثر من 2500 طنّ وأكثر من 100 مليون دولار، وأرسلت ليبيا 500 عنصر من المباحث الجنائية والطب العسكري. هذه فقط بعض النماذج، والقائمة تطول.

"أخرجنا 970 حالة، ما بين حالات إنقاذ أحياء وانتشال جثث"، هذا ما أخبرنا به الطبيب محمّد الأجنف وهو قائد إحدى وحدات الإنقاذ التي أرسلها "جهاز الطب العسكري الليبي". وصل الفريق الليبي إلى إسطنبول في اليوم الأول من الزلزال، ومن إسطنبول انتقلوا مع فرق إنقاذ أخرى إلى جنوب تركيا في رحلةٍ بريّة استغرقت 14 ساعة، لأن المطارات في الجنوب التركي كانت خارج الخدمة.

كان مركز عمل فريق الإنقاذ الليبي في أنطاكية، وهي أكثر المُدن تضرراً من الزلزال، بالإضافة إلى بعض المناطق الحدودية في سوريا. أسّس الفريق الليبي 7 مستشفيات ميدانية في المناطق الأكثر تضرراً، كما اهتمّ كذلك بعمليات التأهيل النفسي، فقد كان جزء من الفريق يتجوّل في المناطق المنكوبة مقدماً دعماً نفسياً للمتضررين.

بدأ عمل فريق الإنقاذ الليبي بالإضافة لبعض فرق الإنقاذ العربية والأجنبية منذ اليوم الثاني للزلزال، وبعد 10 أيّام بدأت بعض الفرق تعود أدراجها، فقد انتهت - عملياً- مرحلة البحث عن الناجين وبدأت عملية انتشال الجثث.

لكنّ الفريق الليبي سيستكمل مهمّته، فقد أخبرنا الطبيب الأجنف أن فريقه سيأخذ راحة لعدّة أيام في مدينة أضنة، ثمّ يعود إلى المناطق المتضررة ليساعد في عملية الانتشال. 

بعدما أنهينا مقابلتنا مع الفريق الليبي، اقترب بعض المواطنين الأتراك ليلتقطوا صوراً معهم، بينما اقتربَ مواطنٌ تركيّ آخر ليشكرهم باللغة العربية، ويدعوهم إلى شرب الشاي، رمز الضيافة والصداقة في الثقافة التركية.

فريق العمل

تغطية وكتابة
عبدالرحمن ناصر
علاء الدين السيد
شيماء الأبيض العلوي

تنفيذ
علي ناجي

www.arabicpost.net