ما فعله "الديزي" بالعالم العربي 

الدراما التركية تتحول إلى قوة عظمى في أقل من 10 سنوات وتعرض مسلسلاتها في 100 دولة وتستعد لأرباح خيالية في الأعوام المقبلة

في عام 2011 دخلت تركيا رسميا إلى معظم بيوت العربية من الشاشة الصغيرة.

حدث ذلك مع مسلسل "حريم السلطان" الذي شغل الجميع، وأصبح نقطة التحول في تصدير المسلسل التركي. دراما تاريخية ملحمية سيطرت على اهتمام الجماهير أيضا في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، أي في أكثر من 40 دولة، وسجل أكثر من 200 مليون مشاهد في جميع أنحاء العالم.

لم يكن "حريم السلطان" أول مسلسل تركي يعرفه العرب، لكنهم انشغلوا من وقتها بالحياة التركية التي يشاهدونها في المسلسلات. 

أحبوا الأبطال، لميس وفاطمة، مهند وكريم.
شعروا بقرابة الدم والثقافة والعادات الاجتماعية، وانحازت قطاعات كبيرة للمسلسل التركي على حساب ما اعتادوه من مسلسلات مستوردة.

وذهبوا إلى اسطنبول ليزوروا مواقع تصوير المسلسلات الشهيرة، ويلتقطوا السيلفي.

أول دراما تلفزيونية تركية كانت قصة حب أنتجت في أوائل السبعينيات.

في عام 1999، كان Deli Yürek أو "القلب المجنون" أول مسلسل تركي يتم تصديره في الخارج.

وحدثت الطفرة بعد عام 2000، حين دخلت المسلسلات قائمة الصادرات التركية، واعتاد العالم رؤية العائلات التركية الثرية في قصورها المطلة على مضيق البوسفور، ومتابعة قصص الحب والغيرة والانتقام التي تزداد إثارة عبر الحلقات.

المسار التصاعدي المذهل للتلفزيون التركي دفع شبكة Netflix إلى إطلاق أول مسلسل تركي هو The Protector عن صاحب متجر يكتشف أن لديه قوى خارقة. 

المسلسل التركي أو الديزي dizi علامة  تجارية عن ثقافة أمة، وأسلوب حياة يخلط بهارات الشرق بجاذبية الغرب، ويشير إلى خلطة ساحرة تمثلها اسطنبول.

يستعرض هذا التقرير الأسباب التي جعلت من تركيا قوة عالمية عظمى في مجال الإنتاج التلفزيوني، وأسباب نجاحها في الأسواق العربية، ومدى تأثيرها الثقافي والفني على العرب.

بدأت الدراما التركية تصبح مربحة مع بداية الألفية، وارتبط عشاقها حول العالم بشخصياتها، ومواقع تصويرها، وأسلوب الحياة التركية.

ورصدت تقارير صحفية اتجاه شباب إيراني لقص الشعر على طريقة كيفانش تاتليتوغ Kıvanç Tatlıtuğ بطل "الحب الممنوع" المعروف عربياً باسم "مهنّد". وحمل الباعة الجائلون في أذربيجان إكسسوارات السلاطين في المناطق السياحية، وأصبح السياح يقصدون السوق التاريخي المسقوف في اسطنبول، لالتقاط صور شخصية وهم يرتدون ملابس السلطان سليمان العظيم، أو السلطانة هويام "هوروم"، بطلي المسلسل التركي الأشهر في العالم العربي حريم السلطان Muhteşem Yüzyıl.  

ومع مرور الوقت تحسنت صورة الدراما التركية في البلقان وبلغاريا وأجزاء من أوروبا الشرقية وحتى اليونان، مما أدى إلى تحسين صورة تركيا وخلق موقف إيجابي تجاه نمط الحياة التركية الحديثة في ذهن جمهور هذه البلدان على الرغم من بعض المرارة التاريخية الناجمة عن حروب الأجداد.

ذهبت الدراما التلفزيونية التركية إلى الهند وباكستان، وتم استقبالها بحماس في العالم العربي، حيث يتم بثها بالدبلجة الشامية أو الترجمة، حتى أصبح العالم العربي المستهلك الأكثر شغفًا بمنتجات التلفزيون التركية.

في إيران، في البداية، لم تكن هناك حاجة للترجمات حيث كانت الأقلية الناطقة باللغة التركية هي التي شكلت الجمهور الرئيسي للتلفزيون التركي في أوائل العقد الأول من القرن العشرين. ومع ذلك، زادت شعبية المسلسل التركي ليشمل البلد بأكمله، بعد أن بدأت الدبلجة إلى الفارسية.

بفضل المبيعات الدولية، والمشاهدات العالمية، أصبحت تركيا تحتل المركز الثاني عالمياً في التوزيع التلفزيوني بعد الولايات المتحدة، ووجدت جمهوراً عريضاً في روسيا، والصين، وكوريا، وأمريكا اللاتينية. 

في الوقت الحالي، تُعد تشيلي المستهلك الأكبر من ناحية عدد المسلسلات المُباعة،بينما تتصدر المكسيك القائمة من ناحية الأموال المدفوعة لشراء المسلسلات ،وتليها في هذه القائمة الأرجنتين.

"حريم  السلطان" افتتح الصعود الكبير
لحكايات اسطنبول التلفزيونية

بدأت امبراطورية المسلسلات التركية في التصاعد عام 2006 بمسلسل ألف ليلة وليلة Binbir Gece، في الاسم العربي "ويبقى الحب"، وحقق فعلاً نجاحاً عالمياً. في جميع الأماكن التي بيع فيها مسلسل "ويبقى الحب" -وهي حوالي 80 دولة- كان يحطم التقييمات.

يعرض المسلسل رجلاً تركياً جذاباً ذا عينين زرقاوين، يؤدي دوره الممثل خالد إرغنتش  Halit Ergenç، الذي استمر نجمه في السطوع حتى وصل إلى أداء دور البطولة في مسلسل "حريم السلطان"، الذي بُنيت أحداثه على حياة السلطان سليمان القانوني، عاشر السلاطين العثمانيين. 

يروي "حريم السلطان" Muhteşem Yüzyıl، علاقة السلطان العاطفية مع رفيقة اسمها هويام، التي تزوجها في كسرٍ واضح للتقاليد. يُعتقد أن هويام، أو خُرَّم سلطان، الشخصية التاريخية غير المعروفة في أوساط كثيرة، كانت مسيحية أورثوذكسية من البلاد التي تُعرف اليوم باسم أوكرانيا.

عندما عُرض حريم السلطان للمرة الأولى في تركيا في عام 2011، اجتذب ثلث مشاهدي التلفزيون في البلاد. ووصفته الصحافة الأجنبية بأنه "نسخة العصور العثمانية من المسلسل الأمريكي Sex and the City"، ووصفته بأنه نسخة واقعية من مسلسل صراع العروش. ضم فريق عمل المسلسل عديداً من المستشارين التاريخيين، وفريق إنتاج من 130 شخصاً، وكان هناك 25 شخصاً للعمل على الأزياء وحدها.

اشتهر حريم السلطان في الشرق الأوسط لدرجة أن السياحة العربية إلى إسطنبول زادت معدلاتها على نحو ملحوظ. حتى أن وزير الثقافة والسياحة التركي أعفى بعض البلدان العربية من تكلفة البث. 

تقدر شركة Global Agency أن مسلسل "حريم السلطان" حصد حوالي 500 مليون مشاهد حول العالم، حتى بدون أحدث زبائن حقوق البث في أمريكا اللاتينية. وكان أول مسلسل تركي يُباع في اليابان. 

منذ عام 2002، هناك حوالي 150 مسلسلاً تركياً بيعت في أكثر من 100 دولة، من بينها الجزائر، والمغرب، وبلغاريا. وكان "حريم السلطان" هو ما مهَّد الطريق أمام ما جاء بعده من مسلسلات تركية.

الخلطة الدرامية التركية:
سندريلا والفتى الطيب ومثلث الحب

تغطي حكايات المسلسلات التركية كل شيء، بداية من الاغتصاب الجماعي حتى تخطيط والمؤامرات التي تُحاك في "حرملك" القصور العثمانية، كما يقول إيسيت Eset، وهو سيناريست شاب ومخرج أفلام من إسطنبول. 

يضيف: "إننا نروي على الأقل نسختين من قصة سندريلا في العام الواحد على التلفزيون التركي. قد تكون سندريلا امرأة عزباء عمرها 35 عاماً ولديها طفل، وفي أحيان أخرى تكون ممثلة عمرها 22 عاماً تتضور جوعاً". 

يعدد إيسيت - الذي عمل على أكثر المسلسلات التركية شهرة على الأغلب، وهو مسلسل "حريم السلطان" - الخطوط الروائية العريضة التي تلتزم بها المسلسلات التركية عادة:

  • لا يمكنك أن تضع مسدساً في يد البطل. 
  • محور الدراما هو العائلة.
  • دائماً ما تنتقل شخصية دخيلة إلى بيئة أو ظروف اجتماعية اقتصادية على الطرف النقيض من بيئته الأصلية، مثل أن ينتقل من القرية إلى المدينة. 
  • خاطف القلوب يكون كسير القلب ولا يفكر في الحب بسبب مأساته.
  • لا شيء يهزم مثلث الحب. 

مثلث الحب هو ارتباط عاطفي بين شخصين، أحدهما في علاقة مع شخص آخر. مثلث الحب هو أحد أكثر مشكلات العلاقات النفسية تعقيدًا ، لكنه أيضًا أحد أكثر المشكلات شيوعًا، والأكثر جاذبية لمشاهدي الدراما.

يصر إيسيت على أن المسلسلات التركية مبنية على هيكل "التشوق للانتماء إلى الجماعة" بالنسبة للجمهور والممثلين. وأضاف: "إننا نريد رؤية الفتى الطيب، مع الفتاة الطيبة، لكن للأسف الحياة سيئة وهناك شخصيات سيئة تحيط بهم".

لكن عند هذه الحدود تتوقف الدراما التركية: العالم المتحدث بالإنجليزية

يجلس تيمور سافجي مؤسس شركة Tims Production أمام مكتبه بحي ليفنت Levent في إسطنبول، بينما تضيء مكتبه الفسيح خمس شاشات تليفزيون تبث قنوات مختلفة. على العموم، هو من يضبط نغمة صناعة مسلسلات الديزي، وهو يحضِّر اليوم نسخةً إنكليزيةً من مسلسل "حريم السلطان". 

لم تنتشر الديزي حتى الآن في العالم المتحدث بالإنكليزية. 

قد يرجع هذا إلى نفور الجماهير في الولايات المتحدة وبريطانيا من مشاهدة المسلسلات المترجمة، في رأي سافجي، "أو ربما لأنه متعلق بدولة إسلامية في نهاية المطاف". 

هل يعني هذا أن النسخة الإنكليزية من "حريم السلطان" ستحاول التقرب من مشاهدها الغربي؟

يهزَّ الرجل البشوش المرح رأسه: من المهم تذكُّر أن الإمبراطورية العثمانية آنذاك كانت القوة العظمى في العالم. كان العثمانيون أمثال الولايات المتحدة في الزمن الحاضر. إذا نظر الناس إلى الأمر من هذه الزاوية، فسيزيد فهمهم لها، لكنهم إن كانوا يجهلون هذا، فسيشعرون بالتهديد.

بدأ الأتراك مشاهدة المسلسلات الأمريكية الجيدة منذ السبعينيات. ويقول ممثلون أتراك، مثل ميرت فرات، بأنهم تعلموا أساسياتهم من أمثال مسلسلَي "Dallas"و"Dynasty". منها تعلموا التعبير عن العاطفة والأداء الميلودرامي الذي تتطلبه مسلسلات الديزي. لكن كان هناك شيء ناقص، شيء أساسي مفقود في تلك الدلائل الإرشادية المبكرة عن كيف تكون ثرياً وقوياً في العالم الحديث.

يقول إيسيت إن "اختفاء القيم الأسرية ليس مصدراً للقلق في الغرب". وتابع: "على مدار السنوات الأربع الماضية تقريباً، كان 40% من أعلى المسلسلات التركية مشاهدةً مُستوحاة من مسلسلات دراما كورية"، مشيراً إلى أن الكوريين قد سبقوا الأتراك في الوصول إلى السوق الأمريكية اللاتينية. وأكمل: "كوريا هي الأخرى دولة تولي كثيراً من الأهمية للأسرة، لكن في الغرب، اختفت الفكرة الرومانسية عن تلك القيم الأسرية التقليدية".

الترويج عبر "الديزي" لصحوة الأمة رغم مؤامرات الأعداء

محالٌ أن تفصل السياسة، دوليةً كانت أم جغرافيةً سياسيةً، عن زيادة رواج الديزي. 

فمن المعروف أن أردوغان نفسه كان معادياً لـ "حريم السلطان"، إذ رآه متبجحاً وغير ضليعٍ بما يكفي في التاريخ العثماني الحقيقي. وسحبت حكومته الإذن لمنتجيه بالتصوير في مواقع تاريخية مثل قصر طوب قابي Topkapi Palace، فيما منعت الخطوط الجوية التركية عرض حلقاته على رحلاتها لتجنب غضب الحكومة. وبلغ الأمر بأحد نوَّاب حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان أن قدَّم عريضة برلمانية لحظر المسلسل بالقانون، الذي يتجاهل عظمة السلطان الأهم في التاريخ العثماني، وفتوحاته الكبيرة، وتضحياته من أجل الخلافة.

ومع أن الدولة لم تستغل "حريم السلطان" قط لنشر القوة الناعمة التركية في العالم، فقد استغلت مسلسلات ديزي أخرى. إذ يتلقى عملان حديثان من TRT، مؤسسة الإذاعة والتليفزيون التركية، دعماً كاملاً من الحكومة. 

الأول، وهو "قيامة أرطغرُل" Diriliş: Ertuğrul، تبدأ أحداثه مع بداية المجد العثماني، مع الغازي أرطغرل والد السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية. والشعار الدعائي للمسلسل هو "صحوة أمة"، ولخمسة مواسم شاهدت الجماهير أرطغرل يقاتل الصليبيين والمغول والبيزنطيين وغيرهم. ويحظى المسلسل بشرف كونه أعلى المسلسلات رواجاً في تاريخ تليفزيون الدولة. وقد تحدث أردوغان عن أرطغرل قائلاً: "يبقى الصيادون هم الأبطال حتى تبدأ الأسود في كتابة قصصها".

المسلسل الثاني وهو "السلطان عبد الحميد" Payitaht Abdülhamid، يؤكد الهوس بالدولة العثمانية: يحكي عن آخر السلاطنة الأقوياء للدولة العثمانية، عبد الحميد الثاني. وقد أُذيع موسمه الأول في 2017، واجتذب أعداداً هائلةً من المشاهدين، إذ كان واحد من كل 10 مشاهدين للتليفزيون ينتظرون رؤية السلطان وهو يتلافى مخططات القوى الأوروبية وثورات اتحاد "تركيا الفتاة" الذين أسقطوه في النهاية. وقد أشار أنصار المسلسل ومنتقدوه على السواء إلى أن شخصية السلطان جرى تصميمها لتكون شديدة التشابه مع أردوغان. وقد رأى أتباع الرئيس التركي أوجه شبهٍ بين الزعيمين اللذين لا يخشيان مواجهة الغرب، ويحلمان بإعادة تركيا إلى مركز الوحدة الإسلامية. 

هذه المسلسلات التي تعظم الجندي التركي
في كل العصور

موقف سيارات موحش في الجانب الأسيوي من إسطنبول أمام شاحنة بيضاء يهطل المطر الخفيف. 

رجل يدعى فرحات يستعرض مسدساً من طراز غلوك 19. إنه نفس الطراز الذي يستخدمه الجنود الأتراك، على حد قوله، وهو يفتح أبواب الشاحنة. وبالداخل، رأيت قاذفة صواريخ في أرضية الشاحنة وهناك أكثر من 60 نوعاً أخراً من الأسلحة معلقة على أرفف. 

يسحب فرحات، وهو جندي سابق في الجيش، الكلاشنيكوف "بندقية الأشرار" (AK-47 )، وبندقية قنص. وهناك مجموعة من الرجال بالزي العسكري يطوفون في موقف السيارات. وفي كل مكان حولنا لافتات في الشارع باللغة العربية، وكومبارسات يرتدون أزياء رديئة. 

إننا في موقع تصوير مسلسل "العهد" Söz، وهو مسلسل جديد من إنتاج شركة Tims Productions، الشركة التي أنتجت حريم السلطان. إنهم يصورون الحلقة 38. 

مسلسل العهد هو مسلسل تركي عسكري، من نوعية فرعية sub-genre جديدة تجتاح البلاد. وعلى الرغم من أنه ما زال مبكراً أن نتحدث عن تأثيرها العالمي، لكن العهد تلقى عروضاً لإعادة الإعداد بالفعل من أسواق بعيدة للغاية، مثل المكسيك.

يقول السيناريست إيسيت إنه في كل قناة من القنوات الخمس الرئيسية في تركيا، يوجد واحد من هذه المسلسلات "التي تعظم الجندي"، وكل هذه المسلسلات "مرتبطة بعصر ما". تدور أحداث مسلسل العهد في صورة من تركيا تعج بالعنف وتحيط بها التهديدات الوجودية. فالجنود في كل مكان، يلمعون وسط حطام التفجيرات الانتحارية في المراكز التجارية، ويصيدون الإرهابيين الذين يعملون بجدٍ لاختطاف النساء الحوامل. في الحلقة الأولى، بعد هجوم على أحد الأسواق التجارية، يتعهد أحد الجنود بأنهم لن يرتاحوا حتى "نقضي على هذا المستنقع".

"العهد" هو أول مسلسل تركي يتجاوز عدد متابعيه على موقع يوتيوب مليون متابع. لكن ربما تكون مهمة بيع مسلسل العهد في الخارج مهمة صعبة. يقول تيمور سافجي، مؤسس الشركة المنتجة Tims Production: “إننا نريد فعلاً أن نجعله عرضاً عالمياً، لكن الوقت الحالي لا يوجد الكثير من البلدان المهتمة بمشاهدة تعظيم الجنود الأتراك".

يبتسم قبل أن  يضيف: الولايات المتحدة دائماً ما تنتج الأعمال الفنية وتقول في النهاية: فليبارك الله أمريكا. حسناً، فليبارك الله تركيا!.

لماذا أحبها العرب: دراما لا تقل عن أعمال هوليوود لكن أقرب وأجمل

على مر الزمان  Öyle Bir Geçer Zaman ki

على مر الزمان  Öyle Bir Geçer Zaman ki

تحضر في العالم العربي الدراما التركية الرومانسية والتاريخية والاجتماعية، بداية من مسلسل "إكليل الورد" الذي يعد أول إطلالة تركية مدبلجة على المشاهد العربي، عام 2004، ثم "سنوات الضياع" و"نور" و"حريم السلطان" و"أسميتها فريحة" و"العشق الممنوع" نهايةً بالمسلسل التاريخي "قيامة أرطغرل".

وأوضح تقرير "هيئة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية" بتركيا أن 74% من مواطني العالم العربي يتابعون عملاً درامياً تركياً واحداً على الأقل ويعرفون اسم فنان تركي على الأقل.

لماذا أحب العرب "الديزي"؟

في الدراما التركية يجد المشاهد العربي الممثلين الذين يصلون ويصومون مثله، ويتجولون في شوارع تشبه أوروبا لكن بروح شرقية واضحة. عندما قدمت الدراما التركية "مهند" أحبه العرب أكثر من أبطال هوليوود، لأنه مثلهم وربما أجمل، لكنه أقرب.

هناك مساجد ورمضان واسطنبول ومظاهر الثروة والترف، فيما لا يشير المحتوى التركي بأي شكل من الأشكال إلى العالم العربي باعتباره "الآخر".

يعيش في العالم العربي والدول التركية والبلقان ما يقرب من مليار شخص. 

مسلسل يونس إيمره Yunus Emre

مسلسل يونس إيمره Yunus Emre

عندما أدرك الأتراك هذا، توجهوا إليهم بمحتوى قريب من تلبية توقعاتهم. القليل من اللمسات على الممثلين واللقطات الموجهة، منظر جميل في إسطنبول، ومسار القصة الذي يناسب "الروح والثقافة" في الجمهور المستهدف.

ما الذي حدث لعالمنا العربي بعد ولعه بالدراما التركية؟

انتشرت الموضة التركية في شوارع الخليج والقاهرة

أنعشت الدراما التركية صادرات الملابس الجاهزة والإكسسوارات والحلى التركية للعرب، وخاصة الإمارات وفلسطين ولبنان والأردن ومصر، وافتتحت كثير من اللماركات التركية فروعا لها في معظم الدول العربية. 

مسلسل شارع السلام huzur sokağı

مسلسل شارع السلام huzur sokağı

تحولت تركيا إلى علامة هامة في "الموضة الإسلامية" بالأسواق العربية، تتميز بالملابس الفضفاضة ذات الألوان الزاهية وأغطية الرأس المزركشة، والإكسسوارات التي تتسم بضخامة الحجم.

انتعشت صناعة الموبيليا بسبب المسلسلات

أدى نجاح الدراما التركية إلى إقبال المواطن السعودي على اقتناء الأثاث غير التقليدي، ما دفع إلى زيادة واردات السعودية من الأثاث التركي من 81.2 مليون دولار عام 2013 إلى 159.7 مليون دولار عام 2015.

وعاش رئيس اتحاد التجار والحرفيين الأتراك بينديفي بالاندوكين Bendevi Palandöken في 2018 عاما سعيدا بسبب المسلسلات التركية.

قصر مسلسل العشق الأسود Kara Para Aşk

قصر مسلسل العشق الأسود Kara Para Aşk

في ذلك العام تجاوزت صناعة الأثاث التركية أهداف التصدير، وحققت 3.14 مليار دولار، بزيادة 14% مقارنةً بـ 2.76 مليار دولار في عام 2017.
لكن بالاندوكين يطالب بالمزيد.

"يجب أن تعرض منتجات الأثاث المنتجة محليا بشكل متكرر في المسلسلات التلفزيونية، للمساعدة في توسيع سوق صادرات الأثاث، فهذا يؤثر بشكل مباشر على السياحة والصادرات".

وبحث السائح العربي عن مواقع تصوير مسلسله المفضل

تندهش  العين العربية من الطبيعة في المسلسل التركي: الثلوج والغابات، المساجد التاريخية والحانات، المدن الحديثة والأصول القروية.
وساهمت الدراما التركية في زيادة أعداد السائحين العرب

وفي عام 2018 فقط ارتفعت نسبة السائحين العرب في تركيا بنسبة 30% لتسجل أكثر من 4.5 مليون زائر، يختار معظمهم البقاء في اسطنبول. وتستقبل منطقة البحر الأسود وحدها أكثر 500 ألف سائح عربي سنوياً. وتتوقع السلطات السياحية أن يصل العدد إلى 10 مليون سائح عربي سنوياً خلال الأعوام المقبلة، خاصة إلى مدن إسطنبول وأنطاليا.

واختار العائلات العربية أسماء تركية لأطفالها

أقبلت العائلات العربية على اختيار أسماء أبنائها من الشخصيات الدرامية التركية أو أسماء الفنانين والفنانات التركية. وظهرت في الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا على اختيار أسماء تركية لأبنائهم مثل "هويام، سليمان، مهند، نور، مريم، كريم،"...

Merhamet مسلسل الرحمه

Merhamet مسلسل الرحمه

والبعض قرر أن يتعلم اللغة التركية

تقول الكاتبة التركية فايزة جوموشلوأوغلو أن بعض الشباب الخليجيين لجأوا إلى استخدام بعض العبارات والكلمات التركية متأثرين بالدراما التركية، خاصة في قطر. 

وفي لبنان شهدت السنوات الأخيرة تزايد اهتمام الشباب بدراسة اللغة التركية كتابة وتحدثاً، للإسهام في ترجمة الأغاني التركية والأعمال الفنية الدرامية سواء الأفلام أو المسلسلات، والالتحاق بسوق الدبلجة للأعمال الدرامية التي انتشرت كثيراً في الوطن العربي، باللهجة السورية، تليها المصرية والتونسية والمغربية .

رسالة خاصة من النساء إلى النساء

من بين 85 مليون عربي الذين شاهدوا الحلقتين الأخيرتين من مسلسل "نور"، كان عدد النساء 50 مليونا. 

ليست مصادفة: القائمون على كتابة المسلسلات التي لاقت رواجًا كبيرًا في المجتمع العربي- سواء "نور" أو "فاطمة" أو "حريم السلطان"- كُن أيضًا من النساء.

في هذه الحالة تتكوّن روابط من الصدق والحميمية بين المُشاهِدة وبطلة العمل، التي قد تترجم ما تحلم بأن تكونه كثير من النساء، وتعطي الشجاعة لبعض المُشاهِدات على السعي وراء ما يُحلمن به بعد أن رأينه عبر البطلة التي تُشبههن. فبطلات "نور" و"فاطمة" و"حريم السلطان" تبدأ بهن القصص مُنكسرات ولا تنتهي إلا وقد انتصرن، ما يجعل المشاهدة تسعى لتحقيق هذا النصر في حياتها الفعلية.

البطلة التركية في "الديزي" ليست مُتحررة تمامًا ومنفصلة عن دينها كالمرأة في المسلسلات الغربية، ولا هي مقموعة محرومة من حقوقها الأساسية كما في المُجتمعات المُتزمتة. 

تحقق البطلة التركية في هذا المُعادلة الصعبة، فتصل إلى ما تُريد وتحافظ في الوقت نفسه على عادات وتقاليد مُجتمعها.

تَقول الممثلة التركية "بيرين سات" بطلة مُسلسل فاطمة إن "المشاهدة العربية تجد الكثير من الألفة مع فاطمة التي تشبهها، فتوقظ فيها الأمل في أن تصبح هي صاحبة قرارها".

مسلسلات تركيا في العالم العربي: MBC تفتح الباب ثم تغلقه

"على سبيل التباهي، أنا من فتح الثقافة التركية عبر التليفزيون أمام العالم كله".

فادي إسماعيل، المدير العام لشركة O3 للإنتاج التابعة لشركة MBC، والشخص المسؤول عن توريد المسلسلات التركية إلى الشرق الأوسط يتحدث من مكتبه في بيروت.

تصف صحيفة The Guardian شبكة MBC بأنها أكبر مؤسسة إذاعية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يعيش ما يقرب من 400 مليون شخص. وتملك MBC قناةً إخباريةً، وقناةً للأطفال، وقناةً للمرأة، وقناةً لبوليوود، وقناة دراما 24 ساعةً حيث تعرض مسلسلات مصرية يومية، ومسلسلات دراما كورية، ومسلسلات تيلينوفيلا أمريكية لاتينية.

في 2007، ذهب إسماعيل إلى مهرجان سينمائي للمشترين في تركيا وصادف كشكاً صغيراً يعرض مسلسلاً تليفزيونياً محلياً. ويذكر قائلاً: "توقفت وشاهدته دون أن أفهم شيئاً. لكني استطعت على الفور أن أتصوره كمحتوىً عربي. استبدلت به في ذهني حواراً عربياً وبدا لي كل شيءٍ، ثقافياً واجتماعياً، وحتى الطعام والملابس، وكل شيءٍ بدا شبيهاً بنا، وقلت لنفسي: إيوريكا!‘"

اشترى إسماعيل حقوق عرض مسلسل تركي على قناته. لا يذكر اسم أول مسلسل، لأنهم كانوا قد لجأوا بالفعل إلى طريقة إعطاء كل شيء -العنوان والشخصيات- أسماءً جديدةً عربيةً. "احتوت كل العناوين على كلمة ‘حب‘، لذا توقفت عن التمييز بينها. ‘الحب شيء ما‘، و‘الحب الأزرق، و‘الحب الطويل‘، و‘الحب القصير‘، و‘قتل الحب‘". وكان أول المسلسلات التي حققت نجاحاً في سوق الشرق الأوسط مسلسل "Gümüş" أو الفضة، الذي أُعيدت تسميته بـ"نور".

المصريون المعروفون بأفلامهم السينمائية، هيمنوا كذلك على مجال التلفزيون في أرجاء المنطقة حتى استولت سوريا على هذا المركز في التسعينيات، ثم اندلعت الحرب وخفت النجم الصاعد للدولة. ويقول إسماعيل إنه في هذه اللحظة، كان الأتراك على استعداد لتوجيه أنظارهم نحو شيء آخر.

ونظراً لنجاح المسلسلات السورية قرَّرت MBC دبلجة جميع المسلسلات التركية التي اشترت حقوقها باللهجة السورية. ويستنتج إسماعيل قائلاً: "هذا أحد أسباب نجاحها الباهر. لقد دبلجنا المسلسلات التركية بأكثر اللهجات شيوعاً: السورية". 

لكن على مدار الأشهر الـ18 الماضية، تعطَّل الانتشار الدولي للمسلسلات التركية بدرجة كبيرة. إذ في الواحدة صباح يوم 2 مارس/آذار 2018 بتوقيت السعودية، منعت MBC عرض الديزي. وتكبدت المؤسسة 25 مليون دولار بسحب ستة مسلسلات. وصرَّح المتحدث باسم القناة قائلاً: "هناك قرار بحذف جميع مسلسلات الدراما التركية من عدة قنوات تليفزيونية في المنطقة. ولا يمكنني تأكيد هوية صاحب القرار".

لكن هوية صاحب القرار كانت معروفة كما سيظهر في السطور التالية.

السعودية تحارب الدراما التركية: إنها السياسة يا ذكي!

منذ 2015، يعقد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مفاوضاتٍ لشراء MBC، لكنه استكثر الثمن المطلوب وقدره 3 مليارات دولار. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ألقى محمد بن سلمان القبض على مؤسِّس MBC وليد بن إبراهيم آل إبراهيم، وهو رجل أعمال سعودي تزوجت أخته بالملك فهد بن  عبد العزيز. وصارت أغلبية أسهم شركته الآن تابعةً لمالك جديد سري كان أول قراراته إلغاء جميع مسلسلات الديزي على MBC.

وبعد بقائه 83 يوماً بأحد الفنادق الفاخرة، فيما أُطلق عليها حملةً ضد الفساد، أُطلق سراحه.

وفي مارس/ أذار آذار 2018 أوقفت MBC عرض الدراما التركية.

"بموجب قرار شمل منابر إعلامية وقنوات تلفزيونية متعدّدة، في عددٍ من البلدان والعواصم العربية، أصبحت الدراما التركية كلياً خارج القنوات المنتمية إلى "مجموعة MBC" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك اعتباراً من مساء الأول من آذار الجاري، وحتى إشعارٍ آخر". كان هذا نص البيان.

كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمثل الشريحة العظمى من مشاهدي "الديزي" أو المسلسل التركي، في العالم. وكانت دعاية "حريم السلطان" تُنشر إلى جانب "Game of Thrones" و"Oprah" في دبي.

وطلبت المملكة السعودية من أجي يورانتش -مؤلف مسلسل "ما ذنب فاطمة غول؟"- كتابة مسلسلات تليفزيونية لقنواتها المحلية.

وانتشرت شائعاتٌ عن أمراء وساسةٍ يستفسرون عن الحبكات الروائية في أثناء زياراتهم الرسمية إلى تركيا. 

من المحتمل أن يكون هذا النوع من القوة الناعمة التركية قد أثار حفيظة محمد بن سلمان. 

ومن المؤكد أن التنديد العلني من تركيا لحصاره الذي فرضه على قطر في عام 2017 قد أصابه بغضب عارم. ولذلك، اتهم محمد بن سلمان في مارس/آذار 2018 الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمحاولة بناء "خلافة عثمانية" جديدة، ووضع تركيا في ما أطلق عليه اسماً غريباً هو "مثلث الشر" في المنطقة إلى جانب إيران والجماعات الإسلامية المتشددة، وعمل سريعاً على محو الديزي من شاشات الشرق الأوسط.

وردّ رئيس غرفة تجارة إسطنبول، المسؤول عن ترويج المسلسلات التركية للخارج، أوزتورك أوران، على قرار مجموعة "MBC" السعودية وقف عرض المسلسلات التركية على شاشاتها بجملة واحدة: إن من يمنع عرض المسلسلات التركية هو الخاسر".

نصف مليار دولار سنويا فقط بعد خسارة المنطقة العربية

تأمل الحكومة التركية أن تدرَّ مسلسلات الديزي ما يساوي مليار دولار من الصادرات بحلول عام 2023. 

وفي مكتبه الزجاجي بإسطنبول، قال عزت بنتو İzzet Pinto -مؤسس شركة Global Agency لتوزيع مسلسلات الديزي- إن الرقم الأقرب إلى الواقع هو 500 مليون دولار نظراً لخسارة سوق الشرق الأوسط. 

لكنه يتوقع أن تساعد في تعويض تلك الخسارة حقوق إعادة الصنع والتوسُّع في أمريكا اللاتينية وغرب أوروبا، لا سيما في إيطاليا وإسبانيا.

إنفو جراف من ميدان

إنفو جراف من ميدان