الإرهاب الأبيض

"غزوة الكونغرس" ليلة أزاحت الستار عن 3 قرون من الاستعلاء العرقي، وترامب رأس جبل الجليد

ترامب المتطرف لم يظهر فجأة،  ما فعلة يزيح الستار عن قرون من التطرف ضد الآخر  

كان اقتحام الكونغرس يوماً أسود على الديمقراطية الأمريكية بطله الأوحد العنصرية البيضاء، فالدافع الأساسي والمحرك الأول لأنصار دونالد ترامب الذين رسموا تلك اللوحة العبثية بغرض الانقلاب على نتيجة الانتخابات هو العنصرية المطلقة والرغبة المحمومة للعودة إلى زمن كان فيه العرق الأبيض هو السيد بلا منازع.

فعندما أطلق دونالد ترامب المهزوم صرخة استغاثة يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 2020 من خلال أداته التي يجمع بها مؤيديه قبل أن يتم تجريده منها، وهي حسابه على تويتر، كان الموعد هو يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني وهو موعد الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، برئاسة نائب ترامب، مايك بنس، للتصديق على فوز الرئيس رقم 46 للولايات المتحدة وهو جو بايدن.

وهنا لابد من تجميد المشهد بالضغط على زر "إيقاف مؤقت" لذلك الفيلم الذي ظل العالم يتابعه مشدوهاً لمدة ساعات طويلة في ذلك اليوم (الأربعاء الأسود كما سماه الإعلام الأمريكي)، قبل إعادة تشغيله وصولاً لمشهد تنصيب جو بايدن يوم الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني 2021، أي بعد شهر من صرخة الاستغاثة الأخيرة التي أطلقها ترامب لأنصاره، وبعد أسبوعين بالتمام والكمال من يوم التلبية والاقتحام والانقلاب الذي فشل.

وإيقاف الفيلم مؤقتاً ليس فقط لالتقاط الأنفاس، ولكن أيضاً لنسرد سريعاً على طريقة "الفلاش باك" لمن فاته الأحداث التي مهدت لذلك المشهد من "الواقعية المرعبة" للأمريكيين أنفسهم: فمن أين أتى بطل الفيلم دونالد ترامب؟ وكيف تمكن في ظرف خمس سنوات فقط من تجييش الملايين من المؤمنين به والمستعدين للتضحية بحياتهم ذاتها تلبية لندائه مهما بدا غير منطقي وبلا معنى؟

في هذا التقرير سنحاول رصد الأسباب التي تقف وراء تنامي هذا التيار "المتمرد والعنصري" في الولايات المتحدة.

البداية من عند صاحب الأموال التي لا تعد

.

دونالد ترامب رجل أبيض فاحش الثراء ينحدر من أسرة بيضاء يؤمن بتفوق الجنس الأبيض ويؤمن بأن "أمريكا بيضاء"، وعندما قرر أن يقتحم عالم السياسة من أعلى نقطة وهي الترشح للرئاسة مباشرة وكان عمره تقريباً 70 عاماً، نال دعم الحزب الجمهوري الذي يتفق معه في بعض معتقداته اليمينية المحافظة الأكثر ميلاً للرأسمالية.

لكن ترامب لم يكن أبداً رجل سياسة أو رجل دولة بل كان أشبه بأحد أبطال الأساطير الشعبية الذي يقف في وجه ظلم رجال الدرك ويدافع عن الضعفاء والمظلومين، هذا بالطبع من وجهة نظر أنصاره، وهي الصورة التي كرسها بخطاباته وتصريحاته وأيضاً بأفعاله منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها قدماه البيت الأبيض.

ومن المهم هنا أن نذكر كيف تكونت الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو قرنين ونصف القرن منذ استقلالها عن التاج البريطاني، فهي دولة قامت على العنصرية وتفوق الرجل الأبيض تفوق السيد على عبيده وإمائه دون منازعة ودون شروط.

وبسبب تلك العنصرية اندلعت حرب أهلية في البلاد استمرت من 1861 حتى 1865 بين الولايات الشمالية الداعمة للاتحاد وبين الولايات الجنوبية الداعمة للكونفيدرالية وكانت نقطة الخلاف الرئيسية التي تسببت في اندلاع تلك الحرب الدموية بين الأمريكيين هي "العبودية"، فالولايات الشمالية أرادت أن تنهيها والولايات الجنوبية رفضت أن يتساوى العبيد السود مع سادتهم البيض.

صورة من الحرب الاهلية الأمريكية

صورة من الحرب الاهلية الأمريكية

نعم، انتهت الحرب الأهلية بانتصار أهل الشمال "المتحضرين الرافضين للعبودية"، لكن العنصرية نفسها لم تنتهِ، والفارق بين العبودية والعنصرية ضخم شكلاً متواضع مضموناً، حيث ظل المواطنون غير البيض يعانون من التمييز ضدهم بصورة أو بأخرى حتى وقت قريب، فمارتن لوثر كينغ أبرز المدافعين عن حقوق السود والمطالبين بالمساواة بين المواطنين الأمريكيين تعرض للاغتيال عام 1968، أي منذ ما يزيد قليلاً على نصف قرن فقط.

صورة لمارتن لوثر كينج بعد الاعتيال مباشرة

صورة لمارتن لوثر كينج بعد الاعتيال مباشرة

لكن اختصاراً للأحداث حتى نعود لتفسير ما حدث مع مجيء ترامب وصولاً إلى اقتحام الكونغرس، نصل سريعاً إلى ذلك اليوم التاريخي الذي وقف فيه مواطن أمريكي أسود اسمه باراك أوباما يؤدي القسم رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ظهر يوم 20 يناير/كانون الثاني 2009. ليس هذا فحسب، بل ظل أوباما في البيت الأبيض لفترتين متتاليتين، وها هي امرأة مهاجرة من أصل هندي/لاتيني اسمها كامالا هاريس تصل لمنصب نائب الرئيس وتؤدي القسم يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، وهو ما يمكن تفسيره على أن العنصرية في البلاد في طريقها لأن تنتهي.

فريق آخر يرى الأمور من منظور مختلف، وهو أن نجاح ترامب في الوصول للبيت الأبيض، ذلك الرجل العنصري الذي قال إن المسلمين أعداء، ووصف المهاجرين من المكسيك بالمغتصبين وتجار المخدرات، ثم نجاحه في إقناع ملايين من المواطنين الأمريكيين بنظرية المؤامرة، وأنه نجح في الانتخابات ضد بايدن، لكن النتيجة سرقت منه، وإقناعه للآلاف باقتحام الكونغرس والتخطيط لإعدام مشرعين وتدنيس رمز الديمقراطية في البلاد، يجب ألا يمر دون دراسة عميقة للإجابة عن السؤال الأهم: من أين جاء هؤلاء الذين يحملون كل هذا الغضب تجاه الديمقراطية ويرفضون أي نتيجة لا تجعلهم على قمة السلطة؟

.

من هم "دراويش" ترامب؟

.

صحيفة The New York Times نشرت تقريراً أعده توماس إسدال، أستاذ الصحافة بجامعة كولومبيا الأمريكية، يرصد آراء مجموعة واسعة من الخبراء يفسرون ما حدث في البلاد يوم الأربعاء الأسود، فبدون فهم ما حدث لا أحد يمكنه التكهن بما قد يحدث فيما هو قادم. ففي نهاية المطاف واجهت أمريكا احتجاجات ضخمة خلال النصف الثاني من العام الأخير في رئاسة ترامب تنديداً بالعنصرية بعد مقتل جورج فلويد، وكان السؤال: هل تتعافى أمريكا من العنصرية إذا ما فاز جو بايدن بالرئاسة؟ وها هو بايدن أصبح رئيساً، لكن السؤال الذي طرحته أحداث اقتحام الكونغرس أصبح: هل فضيحة اقتحام الكونغرس مجرد فورة غضب وانتهت؟

لكن لا ينبغي لهذا أن ينهي النقاش بشأن الأسباب التي أدَّت لوقوع أحداث الأربعاء الأسود. فهناك تساؤلات لابد من طرحها وهي لا تبرر (وقد لا تبرر أبداً) العنف والفوضى، بل ترمي في المقابل للمساعدة في الحصول على رؤية ثاقبة أكثر للقوة المميتة التي هاجمت الكونغرس ويُنتَظر أن تتم مهاجمته مجدداً.

وقد يبدو ذلك تافهاً للوهلة الأولى، في ضوء ما جرى، لكن ما مدى أهمية الإحباط الموجود بين صفوف من يُطلِق عليهم منظمو استطلاعات الرأي "الرجال البيض من غير الحاصلين على درجات جامعية" والناجم عن عدم قدرتهم على التنافس مع مَن هم أعلى منهم على السلم الاجتماعي-الاقتصادي بسبب النقص التعليمي؟ وما مدى خطورة تراجع قدر هؤلاء في أسواق الزواج (أو الارتباط)؟ وهل يُهِم أي من ذلك فعلاً؟ 

وإلى أي مدى يُعَد مزيج التشاؤم والغضب النابع من التدهور في المكانة والسلطة مزيجاً سُمِّياً؟ ما الذي قد يُولِّد اليأس الوجودي، ذلك الإحساس بالخسارة الذي لا يمكن مداواته؟ وكم يصعب على أي مجموعة، عِرقية كانت أو سياسية أو إثنية، أن تتقبَّل خسارة السلطة والمكانة؟ ما الذي يُشجِّع على السلوك اليائس والاستعداد لتصديق مجموعة من الأكاذيب؟

.

الحنين إلى الماضي الأبيض

.

كان بارت بونيكوفسكي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة نيويورك، صريحاً: "يريد أنصار ترامب الإثنيون القوميون العودة إلى ماضٍ كان فيه الرجال البيض ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم جوهر أمريكا، وكانت الأقليات والنساء (تعرف حجمها). ولأنَّ فعل ذلك يتطلَّب قلب النظام الاجتماعي رأساً على عقب، فإنَّ كثيرين مستعدون لانتهاج إجراءات متطرفة، بما في ذلك العنف العِرقي والتمرد.

"وما يجعل تصرفاتهم بالغة الخطورة هو الاعتقاد المُزكِّي للنفس –والذي يعززه الرئيس السابق دونالد ترامب والحزب الجمهوري والمروِّجون اليمينيون للمؤامرات- بأنَّهم على الجانب الصحيح من التاريخ بصفتهم المدافعين الحقيقيين عن الديمقراطية، في نفس الوقت الذي تقوض فيه تصرفاتهم المؤسسات الأساسية وتهدد استقرارها".

وهناك أدلة على أنَّ الكثير من الأمريكيين البيض غير الحاصلين على درجات جامعية، والذين يمرون منذ بعض الوقت بما يُسمِّيه الاختصاصيون النفسيون بـ"الخضوع اللاإرادي" أو "الهزيمة اللاإرادية"، مستاؤون وحزينون من فقدانهم لمحوريتهم وما ينظرون إليه باعتباره التراجع المتنامي لأهميتهم.

.

"نحن هنا. انظروا إلينا! لاحظوا وجودنا! أعيرونا اهتمامكم!"!

.

وفي السياق، قال  أندرو تشيرلين، عالم الاجتماع بجامعة جونز هوبكينز، لنيويورك تايمز: "إنَّهم يخشون من خسارة الاهتمام. خسارة الفاعلية. هؤلاء أناس لطالما تمتعوا بامتياز عِرقي ولم يكن لديهم الكثير بخلاف ذلك قط. يشعر الكثيرون بأنَّه يجري تجاوزهم، يجري تجاهلهم. أنصت ترامب إليهم وتحدث بلغتهم حين لم يكن يفعل ذلك إلا ساسة قلائل غيره. أحسَّ بألمهم، وكان شريراً بما يكفي لتشجيع نزوعهم نحو التطرُّف بسبب هذا الألم. إنَّهم يخشون أن يصبحوا بلا مُعبِّر عنهم مجدداً في حال تولى ديمقراطيّ، أو حتى جمهوريّ تقليديّ، الرئاسة".

وأشار تشيرلين إلى تأكيد مُنسِّق حدائق متقاعد يبلغ من العمر 67 عاماً من ولاية نورث كارولينا، انضم إلى الموالين لترامب على سلالم مبنى الكونغرس (الكابيتول) في 6 يناير/كانون الثاني، على ذلك بقوله:

ويمثل تفوق العِرق الأبيض والعنصرية الصريحة دافعين رئيسيين، وقد اجتمعا مع عناصر أخرى ليؤججا التمرد: موجة من الغضب المُوجَّه تحديداً نحو النخب، وشهوة متلهِّفة للانتقام من أولئك الذين يعتبرونهم عملاء مسؤولين عن عملية نزع القوة عنهم.

هذا هو مزيج العوامل الذي يجعل التمرد الذي انتزع السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ خطيراً للغاية، ومن المرجح أن يشعل أشكالاً جديدة من العنف في المستقبل. وساعدت كل قوة من القوى المؤثرة هنا في دفع ملايين الناخبين البيض نحو اليمين، إنَّها كلها تعمل جنباً إلى جنب، وتُقدِّم معاً العامل المُلهِب للسلوك المدمر الذي شاهده العالم في غرفتي كونغرس الولايات المتحدة، كما لو كان مشهداً من أحد أفلام هوليوود.

وكتب كاميرون أندرسون، الأستاذ في كلية هاس للأعمال بمدينة بيركلي الأمريكية، عبر البريد الإلكتروني لنيويورك تايمز: "من الصعب جداً جداً على الأفراد والمجموعات أن تتقبل فقدان المكانة والسلطة". ويضيف أندرسون أنَّه على الرغم من أنَّ الأمر أكثر حدة في صفوف أولئك الذين يمتلكون المكانة والسلطة العليا، فإنَّ الناس بصفة عامة حساسون تجاه التهديدات المرتبطة بالمكانة وتجاه أي فقدان محتمل للمكانة الاجتماعية، ويتجاوبون مع تلك التهديدات بالضغط والقلق والغضب، بل وأحياناً بالعنف.

ويتفق داتشر كيلتنر، أستاذ علم النفس في بيركلي، إلى حد كبير مع أندرسون، ويصف الغضب والإحباط اللذين أسهما في اقتحام الكونغرس بأنَّهما متركِّزان بين البيض الذين يعتبرون أنَّ موقعهم في النظام الاجتماعي في مسار هبوطي.

وكتب داتشر في رسالة بريد إلكتروني: "أعتقد أنَّ مجموعة المواطنين الأمريكيين التي فقدت معظم السلطة على مدار السنوات الأربعين الماضية، والتي لا تبلي حسناً في التنافس على دخول الجامعات أو الحصول على وظائف عالية الدخل، والتي تضاءلت آفاق الزواج لديها، والتي تشعر بالغضب، هي تلك التي أعتقد أنَّها على الأرجح كانت في الهجوم".

وأضاف أنَّه حين يُضغَط على تلك المجموعة للتخلي عن السلطة، "ستلجأ فئات الأفراد تلك إلى العنف وإعادة صياغة التاريخ للإيحاء بأنَّها لم تخسر".

ويحاجج كيلتنر وليانه تين برينكه، أستاذة علم النفس بجامعة بريتيش كولومبيا، في ورقة بحثية تعود إلى سبتمبر/أيلول 2020 بعنوان (نظريات السلطة: الاستراتيجيات المتصورة لنيل السلطة والحفاظ عليها) بأنَّ "أفراد الطبقات الأقل يتمتعون بقدر أكبر من الحذر إزاء التهديد، مقارنةً بالأفراد ذوي المكانة العليا، ما يقودهم إلى تصور بوجود عداء أكبر في محيطهم".

ويضيف كيلتنر وبرينكه أنَّ هذا الحذر المتزايد يخلق "تحيزاً بحيث ينظر الأفراد ذوو المكانة الاجتماعية-الاقتصادية الأدنى نسبياً إلى الأفراد النافذين باعتبارهم مهيمنين ويشكلون تهديداً، ما يجعلهم يؤيدون نظرية قهرية للسلطة. وفي الواقع، هناك أدلة على أنَّ أفراد الطبقة الاجتماعة الأدنى أكثر ارتياباً في الآخرين من أولئك الذين يحتلون الطبقات الأعلى، وهذا الارتياب مُوجَّه نحو الأفراد من خارج المجموعة، أي أولئك الذين يحتلون الطبقات الأعلى".

بعبارة أخرى، فإنَّ الاستياء تجاه النخب البيضاء الناجحة يلعب دوراً هنا، مثلما اتضح من الهجوم على الكونغرس، وهو مقر سلطة ذو أغلبية بيضاء ساحقة.

.

"ثم جاء المنقذ ترامب"

.

قبل ترامب، كان الكثير من أولئك الذين أصبحوا بعد ذلك داعميه يعانون مما تصفه كارول غراهام، الزميلة الباحثة في معهد بروكنغز، بأنَّه تفشّ "للتعاسة والضغط وفقدان الأمل" دون وجود سردية تجعل وضعهم موصوفاً بأنَّه وضع طبيعي مشروع: "حين اختفت الوظائف، تمزقت الأسر. ولم تكن هناك سردية بخلاف الحلم الأمريكي التقليدي الذي يرى أنَّ كل شخص يعمل بجد يمكنه شق طريقه بنجاح، وكانت علاقة الارتباط الضمني تتمثل في أنَّ أولئك الذين يتخلفون عن الركب ويعيشون على الرعاية الاجتماعية هم فشلة وكسالى وغالباً من الأقليات".

كتبت غراهام وسيرجيو بينتو، وهو باحث دكتوراه بجامعة ميريلاند، في ورقة بحثية لمعهد بروكينغز تعود إلى ديسمبر/كانون الأول 2020، أنَّ "اليأس –واتجاهات الوفيات المرتبطة به- تتركز بين المتعلمين دون المستوى الجامعي، وأعلى بكثير بين البيض مقارنةً بالأقليات. وتنتشر الاتجاهات جغرافياً أيضاً، فالسكان في المناطق الحضرية والساحلية المتنوعة عرقياً واقتصادياً أكثر تفاؤلاً ومعدل الوفيات المبكرة لديهم أقل".

لكن ما الذي قد يدفع حشداً –لا يضم فقط أعضاء بجماعة "Proud Boys" (الأولاد الفخورون) وحركة "Boogaloo Boys" (أولاد بوغالو) اليمينيتين المتطرفتين، بل أيضاً الكثيرُ ممن يبدون أمريكيين عاديين منجذبون لترامب- إلى اقتحام الكونغرس؟

هناك إجابة واحدة محتملة: وجود شكل متحور من القناعة الأخلاقية المستندة إلى اعتقاد بأنَّ انحدار المرء في المكانة الاجتماعية والاقتصادية هو نتيجة للقرارات الظالمة، إن لم تكن الفاسدة، من جانب الآخرين، لاسيما مَن يُسمَّون بالنخب.

وكتبت ليندا سكيتكا وجي سكوت مورغان، أستاذا علم النفس بجامعة إلينوي في مدينة شيكاغو وجامعة درو، في دراستهما "The Social and Political Implications of Moral Conviction" (الآثار الاجتماعية والسياسية للقناعة الأخلاقية)، أنَّه "على الرغم من أنَّ القناعة الأخلاقية تحفِّز أي عدد من السلوكيات الإيجابية المعيارية (كالتصويت أو المشاركة السياسية مثلاً)، يبدو أيضاً أنَّ للقناعة الأخلاقية جانباً مظلماً محتملاً".

.

"معظم العنف دافعه أخلاقي"

.

وجادلت سكيتكا ومورغان بأن "هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو تفجيرات جماعة Weatherman احتجاجاً على حرب فيتنام، أو التطهير العرقي في البوسنة، أو اغتيال مُوفِّري خدمات الإجهاض قد تكون مدفوعة باعتقادات أيديولوجية مختلفة، لكنَّها مع ذلك تتشاطر سمة مشتركة: يبدو أنَّ قناعة أخلاقية قوية هي ما حفَّز الأشخاص الذين قاموا بتلك الأمور. وعلى الرغم من أنَّ البعض يجادل بأنَّ الانخراط في سلوكيات مثل تلك يتطلب انسلاخاً أخلاقياً، نجد على العكس من ذلك أنَّها تتطلَّب حداً أقصى من الالتزام والتبرير الأخلاقي".

ويطرح آلان بيج فيسك، أستاذ علم الإنسانيات بجامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس، وتاغي شاكتي راي، الباحث المساعد بكلية سلون للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حجة مماثلة في كتابهما "Virtuous Violence" (العنف الفاضل)، الذي يكتبان فيه أنَّ العنف "يُعد جوهر الشر. وهو أصل الفسق. لكنَّ دراسة الأعمال والممارسات العنيفة عبر الثقافات وطوال التاريخ تُظهِر العكس تماماً. فحين يؤذي الناس شخصاً أو يقتلوه، عادةً ما يفعلوا ذلك لأنَّهم يشعرون بأنَّهم ينبغي أن يفعلوا ذلك: يشعرون بأنَّه من الصواب، أو حتى المُلزِم، أخلاقياً أن يكونوا عنيفين". ويؤكد فيسك وراي أنَّ:

يتمثل أحد العوامل التي تعمل بصورة متناغمة مع ما سبق لمفاقمة التفسخ الأخلاقي والسخط لدى الكثير من أفراد قاعدة ترامب الانتخابية من الطبقة العاملة البيضاء، في عجزهم عن الحصول على تعليم جامعي، وهو القيد الذي يحول دون وصولهم إلى وظائف ذات دخل أعلى ويُقلِّل مما يُفتَرَض أنَّه "قدرهم" في أسواق الزواج.

ويجادل فيديريكو بأنَّه في هذا العالم الجديد، جرى استبدال "الوعود بأمن اقتصادي واسع النطاق" بسوق عمل "يمكنك التمتع فيه بكرامة، لكن لابد من اكتساب (هذه الكرامة) من خلال النجاح السوقي أو التنظيمي (مثلما كان يرغب يمين الوسط لريغان/تاتشر) أو الجدارة المتحققة من الوضع المهني (مثلما كان يرغب يسار الوسط). لكن من الواضح أنَّ هذه ليست طرقاً متاحة للجميع، ببساطة لأنَّ المجتمع ليس لديه إلا عدد محدود من المناصب لقادة الصناعة والمهنيين المتعلمين".

يشير فيديريكو إلى أنَّ النتيجة هي أنَّ "الوعي الجمعي على الأرجح سيبرز على أساس التعليم والتدريب"، وحين "ينظر ذوو التعليم الأدنى إلى أنفسهم باعتبارهم مختلفين جداً ثقافياً عن الطبقة السكانية المتعلمة الأكثر ليبرالية اجتماعيا وكوزموبوليتانية، سيتعمَّق الشعور بالصراع بين الجماعات".

.

كيف وظف ترامب المشاعر القومية للبيض سياسياً؟

.

لا تُقلِّل أي من هذه القوى الدور الرئيسي للعداء العِرقي والعنصرية. بل على العكس، ستعزز الاستياء العرقي؛ إذ كتبت جينيفر ريتشيسون، أستاذة علم النفس بجامعة ييل، عبر البريد الإلكتروني لنيويورك تايمز، أنَّ هناك "أدلة متسقة ومقنعة للغاية تشير إلى أنَّ بعض ما شهدناه قبل وأثناء وبعد اقتحام الكونغرس يمثل انعكاساً للقلق والغضب والرفض للقبول بوجود (أمريكا) يفقد فيها الأمريكيون (المسيحيون) البيض الهيمنة، سواء كانت سياسية أم مادية أم/و ثقافية. وأنا أستخدم مصطلح الهيمنة هنا لأنَّه ليس مجرد فقدان للمكانة. بل فقدان للسلطة. ويستلزم وجود ولايات متحدة أكثر تنوعاً عرقياً وإثنياً ودينياً وفي نفس الوقت ديمقراطية، أن يذعن الأمريكيين البيض لمصالح ومخاوف الأقليات الدينية والعرقية/الإثنية".

وأضافت ريتشيسون أنَّ ترامب "استند في حملته الانتخابية للرئاسة إلى مشاعر القومية البيضاء الكامنة التي كانت على الهامش، وجعل حملته قائمة على إعادة مركزية النزعة البيضاء باعتبارها تمثل ما يعنيه أن يكون المرء أمريكياً، وبالتالي نزع الشرعية ضمنياً عن المطالب بإيجاد مساواة عرقية أكبر، سواء كان ذلك في ما يتعلَّق بالمجال الشُرَطي أو في أي مجال آخر بالحياة الأمريكية".

وجادل مايكل كراوس، الأستاذ بكلية الإدارة التابعة لجامعة ييل، بأنَّ "العنصرية هي البناء الرئيسي هنا في فهم السبب الذي يجعل هذا النوع من العنف ممكناً. وقد تتمثل التفسيرات الأخرى في المسارات التي تخلق العنصرية من خلالها هذه الظروف. إذ يرى الفرد مكانته في المجتمع بصورة نسبية ومُقارَنة، لذا يبدو أحياناً أنَّ مكاسب المجموعات الأخرى خسائر للبيض. وقد شهد البيض في الأعوام الستين الأخيرة مجموعات الأقليات تحصل على مزيد من السلطة السياسية والفرص الاقتصادية والتعليمية. ومع أنَّه يجري تضخيم تلك المكاسب بصورة كبيرة، ينظر البيض إليها باعتبارها خسارة في مكانة المجموعة".

بينما قالت إيميلي جايكوبس، أستاذة العلوم النفسية بجامعة كاليفورنيا، إنَّ ثورات الحقوق -الحقوق المدنية، وحقوق المرأة، وحقوق المثليين جنسياً- كانت عاملاً رئيسياً في ظهور التيار اليميني المعاصر.

وأضافت: "مع تعالي أصوات النساء وذوي البشرة الملونة والجماعات الأخرى المهمشة تقليدياً، يتوسع الإطار المرجعي الذي نروي من خلاله قصة الأمريكيين. وقصة الذَكر الأبيض ليست غير مهمة، لكنَّها ليست كافية، وحين تكون لديك مجموعة من الناس المعتادين على أن يكونوا في بؤرة الضوء ويرون أنَّ عدسات الكاميرا تبتعد عنهم، يمثل هذا تهديداً لشعورهم بالذات. فليس مفاجئاً إذاً أنَّ دعم مجموعة QAnon بدأ يتصاعد في الأسابيع التي تلت حركة حياة السود مهمة. إذ تُقدِّم مجموعة QAnon سبيلاً للإنجيليين البيض لإلقاء اللوم على الأشخاص السيئين (الخياليين) بدلاً من إلقائه على النظام المعطوب. إنَّها منظومة تثبت مبعث قلق أنصار QAnon -انتفاء الأهمية- وتطرح مكانها مصدراً لتزكية النفس وقبولها".

وكانت جين يونهي جون، أستاذة العلوم السياسية بجامعة جنوب كاليفورنيا، صريحة في رؤيتها: "وجود ذوي البشرة الملونة في المناصب السياسية، وتحكُّم النساء في خصوبتهن، وتزاوج أفراد مجتمع الميم واستخدامهم للمراحيض وإنجابهم للأطفال، يتعارض مع حالة الطبيعة وفق تعريف النظام الأبوي الأبيض لها. وهذا ميدان يقف فيه الرجال، والرجال البيض على وجه الخصوص، على رأس السلطة، متمسكين بـ(موقعهم العادل) على حساب النساء وغير البيض وربما غير المسيحيين (في الولايات المتحدة)، وبالطبع، في وجهة نظرهم، على حساب المنحرفين جنسياً مثل المثليين جنسياً".

وقال هربرت كيتشيلت، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ديوك، إنَّ "الولايات المتحدة، مقارنةً بدول العالم المتقدمة الأخرى التي تعيش مرحلة انتقالية نحو مجتمع المعرفة، تبدو في وضع أضعف بكثير في مواجهة أي تحدي شعبوي من اليمين". وتفسر قائمة أعدها كيتشيلت لبعض أسباب الضعف الأمريكي في مواجهة القوى اليمينية الأحداث الحالية.

.